- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
حركة "الصدر" السياسية بحلتها الجديدة: بين الماضي والحاضر والحقيقة
نظرًا إلى الحمل المعقد الذي يجلبه الصدر إلى اللعبة السياسية العراقية، فإن عودته إلى المعترك السياسي الرسمي بعد غياب دام سنوات ستزعزع على الأرجح استقرار المشهد السياسي الشيعي الداخلي.
خطف رجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر الأضواء في 11 نيسان/أبريل عندما كشف عبر الحساب الناطق باسمه على "إكس"، "وزير القائد – صالح محمد العراقي"، عن تشكيل "التيار الوطني الشيعي"، ما أثار تعليقات مستفيضة حول خططه لمعاودة دخول العملية السياسية الرسمية في العراق. وفي حين يسعى الصدر، هذا الزعيم السياسي والديني الطموح، إلى الحصول على منصب مهم له ولجماعته في معترك السياسة العراقية، ستكون جهوده مقيدة بتراجع الثقة به في صفوف حلفائه السابقين من الكرد والسنّة والمعضلة المستمرة المتمثلة في التعامل مع إيران، جارة العراق من الشرق وصاحبة النفوذ الأقصى.
"التيار الوطني الشيعي": ما الذي يحويه الاسم؟
إن التسمية الجديدة التي اختارها الصدر لجماعته السياسية مهمة من نواح متعددة. ويدل اختيار كلمة "وطني" على آمال الصدر في أن يتم الاعتراف به كشخص لديه أجندة وطنية عابرة للطوائف (أي شخص مستعد للتعامل خارج نطاق الشيعة) وأجندة متعددة الأعراق (أي أن حركته ليست عربية حصرًا). لكن كلمة وطني لا تكون واقعية إلا بقدر ما سيكون الصدر قادراً أو راغباً على التعامل مع أحزاب من أعراق وطوائف أخرى. ولا ينبغي أن يُفهم ذلك على أن الصدر يمكنه الحصول على أصوات الطوائف الأخرى ويدعي تمثيل (أجزاء منها).
ويُعتبر استخدام مصطلح "شيعي" في اسم الجماعة الجديدة أمرًا ملحوظًا لأكثر من سبب. أولًا، هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها الصدر هذا المصطلح لأي من الجماعات التي أنشأها. فجماعاته السابقة أو الحالية – من "جيش المهدي" إلى "التيار الصدري" و"تيار الأحرار" و"ثائرون" و"سرايا السلام" – لم تحمل هذه الدلالة المتمحورة حول الطائفية بشكل صريح (المهدي شخصية موقرة لدى الشيعة والسنّة على حد سواء، على الرغم من أنه أكثر مركزية بين الشيعة). كما يكشف استخدام صفة "الشيعي" في الاسم الجديد للجماعة عن إقرار بأن المشهد السياسي الشيعي هو الساحة المباشرة الأولی للنشاط السياسي للصدر، وينم عن تصميمه على تحدي خصومه الشيعة الموالين لإيران والمجتمعين ضمن "الإطار التنسيقي" في هذا المضمار المشترك.
وسعى الصدر إلى إعادة تأكيد موقعه القيادي على الساحة السياسية الشيعية من خلال المطالبة علنًا بالمصادقة على قانون مثير للجدل يعترف بـ"عيد الغدير" كعطلة رسمية. وفقًا للتقاليد الشيعية، الغدير هو اليوم الذي عيّن فيه النبي محمد ابن عمه عليًا مولًا للمسلمين من بعده، غير أن السنّة يرفضون هذا الروایة. ولذلك، واجه إعلان عيد الغدير يوم عطلة معارضة من الجماعات السنّية في البرلمان العراقي وخارجه. علاوة على ذلك، يتمتع الصدر، باعتباره متحدرًا من عائلة دينية شيعية بارزة، بأفضلية رمزية واسعة النطاق وبجاذبية كبيرة لدى الشيعة، لا سيما أبناء الطبقة الاجتماعية الاقتصادية الأدنى وذوو الخلفيات الريفية. كما أن استقباله العام الماضي من قبل رجل الدين الشيعي آية الله العظمى علي السيستاني عزز مؤهلاته على الساحة الشيعية، لأنه كان الزعيم والسياسي الشيعي الرئيسي الوحيد الذي استقبله السيستاني خلال السنوات الأخیرة.
في حين قد يُنظر إلى إدراج كلمتي "شيعة" و"وطني" في اسم الجماعة على أنه تناقض مُحير، إلا أنه يعكس واقع السياسة العراقية وحدودها السياسية والطائفية الصارمة. ومن المتوقع أن يستمر هذا الواقع في المستقبل المنظور نتيجة التركيبة الديموغرافية للدولة وتأريخها. فالشق الأول أي «الشيعة» هو بمثابة حقيقة، أما الشق الثاني أي «وطني» فهو أُمنية. علاوة على ذلك، يفتقر العراق كونه اتحادًا متعدد الطوائف إلى وجود حزب سياسي على مستوى الاتحاد يمكنه الأداء بشكل مقبول عبر جميع المجتمعات العرقیة و الدینیة. وقد يطمح الصدر إلى لعب هذا الدور، لكنه لن يتمكن من ذلك، لأن خطابه والأعباء السابقة التي جلبها لن تسمح له بتجاوز الحدود القائمة (وخاصة ذكريات جيش المهدي لدی السنة ومشاركته في الصراع الطائفي بعد عام 2003).
الأسس الأيديولوجية الأخرى
حرص الصدر على أن تظل التوجهات المعادية للولايات المتحدة (وإن كانت غير عنيفة) والمعادية لإسرائيل من العناصر الأساسية في هذه المرحلة الجديدة من مشروعه السياسي. وفي حين أن "الإطار التنسيقي" الشيعي الحاكم في العراق يضم عناصر أكثر ليبرالية وبراغماتية مثل رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وحيدر العبادي وعمار الحكيم، وبدرجة أقل، نوري المالكي، فإنه يشمل أيضًا شخصيات موالية بشدة لإيران تفتخر علنًا بالمواجهات العنيفة، الماضية والحالية، ضد الولايات المتحدة، ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، ضد إسرائيل.
في هذا السياق، شدد الصدر على معاداته للولايات المتحدة وإسرائيل. وقد ذكّر الصدريون خصومهم بأنهم قادوا المقاومة الأساسية المناهضة للولايات المتحدة في العراق، وقاتلوا القوات الأمريكية منذ العام 2004 تحت راية "جيش المهدي". ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، طالب علنًا بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد ودعا إلى طرد السفير في مناسبتين على الأقل، على الرغم من أنه حث على استخدام وسائل غير عنيفة لتحقيق هذه الأهداف. بالإضافة إلى ذلك، أدلى الصدر بعدة تصريحات معادية لإسرائيل، مستندًا في الغالب إلى نصوص دينية استفزازية، ونظّم حملات مساعدة إنسانية للسكان في قطاع غزة.
آفاق الصدر في الانتخابات المقبلة والصراع مع إيران
يأتي إطلاق "التيار الوطني الشيعي" وسط التحضيرات للانتخابات البرلمانية المقبلة المرتقبة في أواخر عام 2025. على الرغم من أن "التيار الصدري" نال أكبر نسبة من الأصوات في انتخابات عام 2021، إذ فاز بـ73 مقعدًا من أصل 325، فشل الصدر في نهاية المطاف في تأمين ائتلاف من ثلثي المقاعد البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة، وانسحب لاحقًا من العملية السياسية برمتها في خطوة صادمة.
وبدون أدنى شك، يناور الصدر للظهور كالقوة الشيعية المهيمنة في الانتخابات المقبلة. وهو يدرك جيدًا عدم شعبية الطبقة الحاكمة الحالية، كما يتضح من نسبة الإقبال الأدنى على الإطلاق في انتخابات مجالس المحافظات العام الماضي (26 في المئة من جميع الناخبين المؤهلين). وسيضع نفسه في موقع استراتيجي للاستفادة من هذا الاستياء الشعبي الضخم من "الإطار التنسيقي" المنافس من خلال تقديم نفسه كقوة وطنية لمكافحة الفساد لا تدين بالفضل للمصالح الإيرانية ولا الأمريكية.
ووردت تقارير عن تحالف محتمل بين الصدر ورئيس الوزراء السوداني لتشكيل الائتلاف البرلماني الرئيسي المقبل على الساحة الشيعية. سعى السوداني إلى تقديم نفسه على أنه تكنوقراطي مهتم بدعم الحكم الرشيد والتركيز على الخدمات العامة، كما تجنب أن يُنظر إليه على أنه تابع لمعسكرات أيديولوجية عميقة داخل المشهد السياسي الشيعي أو العراقي. ومن جهته، حاول الصدر الإبقاء على الأبواب مفتوحة للعمل مع جميع الأطراف، وتجنب بشكل استراتيجي إقالة المسؤولين الصدريين من المناصب الحكومية الإدارية التي شغلوها منذ الحكومات السابقة. وأفادت التقارير أن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، العدو اللدود للصدر، بدء عندما أدرك إمكانية قيام تحالف بين الصدر والسوداني، بتقديم مبادرات للصدر على أمل تقويض السوداني وفرصه في الفوز بكتلة برلمانية كبيرة. كما اقترح المالكي مؤخرًا وبشكل مثير للجدل، إجراء الانتخابات المبكرة بحلول نهاية عام 2024. وقد يرى الصدر أيضًا قيمة في الشراكة مع السوداني بعد الانتخابات المقبلة، نظرًا إلى معدل التأييد الإيجابي لرئيس الوزراء لدى العراقيين. ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كان السوداني سيتمكن من ترجمة هذا التقييم الإيجابي العام إلى أصوات في الانتخابات المقبلة. وفى الوقت عينه، يواجه الصدر مأزقًا كبيرا هنا، ففي حين يسعى إلى إضعاف منافسيه في الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم من خلال إبعاد السوداني عنهم، إلا أنه لن يكون سعيدًا باحتمال ظهور شخصية شيعية شعبية أخرى في شكل السوداني، تتمتع بجاذبية لدى الناخبين الشيعة العاديين أكبر منه أو من منافسيه في الإطار التنسيقي.
علاوة على ذلك، لا يمكن تشكيل أي حكومة بدون شراكة مع بعض الجماعات الكردية والعربية السنّية. وهنا قد يواجه الصدر بعض العقبات. فتخلي الصدر في اللحظة الأخيرة عن حلفائه الكرد والعرب السنّة - أي "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود بارزاني و"حزب التقدم" بزعامة محمد الحلبوسي - بعد انتخابات العام 2021 ترك الحزبين على شفير الهاوية. وبالنتيجة، ستكون هذه العناصر حذرة للغاية، أو حتى رافضة، لتجديد التحالف السياسي مع الصدر وحده. فقد دفع "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"التقدم" ثمنًا باهظًا لتحالفهما الذي ما عاد قائمًا اليوم، إذ استخدمت إيران وحلفاؤها داخل العراق أساليب متعددة لتقويض "إقليم كردستان" المتمتع بحكم ذاتي، والذي يشكل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" حزبه الحاكم الرئيسي، ونجحوا في إقالة الحلبوسي من منصب رئيس مجلس النواب الذي يطمع الجميع به من خلال حكم صدر عن المحكمة الاتحادية العليا. وباختصار، لن يعادي السنّة والكرد إيران مرة أخرى من خلال الدخول في شراكة مع الصدر ضد الفصائل والأحزاب الموالية لإيران في العراق.
وأخيراً، يجب معرفة إلى أي مدى يمكن أن يذهب الصدر لتحقيق رؤيته المتمثلة بحكومة أغلبية تقودها جماعته. فعندما حان وقت الحسم في أعقاب انتخابات عام 2021، تجنب الصدر مواجهة حاسمة مع الجماعات الموالية لإيران التي بدت مستعدة للجوء إلى العنف إذا لزم الأمر. وقد أثبتت تجربة العقدين الماضيين في العراق أنه بغض النظر عن عدد الأصوات التي ينالها حزب أو ائتلاف ما، لا يمكن تشكيل حكومة بدون موافقة إيران. وبحسب ما ورد، بدأ الصدر في رأب الصدع مع إيران خلال الأشهر الأخيرة، لكن الطريق إلى التقارب الكامل في نهاية المطاف سيكون طويلًا وشاقًا. فمع أن إيران لن تعادي الصدر تمامًا، من المرجح أن تتلاعب به ضد الخصوم الشيعة الآخرين للحفاظ على نفوذها في المشهد السياسي الشيعي. ولكن من غير المرجح أن تعهد طهران إلى الصدر بزمام الحكم في الدولة العراقية لأنها تعتبره غير موثوق ولا يمكن التنبؤ بأفعاله، وأيضًا نظراً لأهمية العراق الاستراتيجية الهائلة في المخططات الإقليمية الإيرانية.
وهذا يعني أنه سيكون للصدر، في أحسن الأحوال، فرصة للمشاركة في الحكومة إلى جانب جماعات أخرى أكثر ولاءً لإيران، ولكن لن يُسمح له بتشكيل حكومة أغلبية من شأنها تهميش الجماعات الموالية لإيران. ومن المرجح أن تكرار سيناريو ما بعد انتخابات العام 2021 لن يمنح الصدريين نتيجة أفضل مقارنة بعامَي 2021 و2022، لأن السلطة في العراق لا تحدَّد في نهاية المطاف على أساس الأداء الانتخابي.
ونظرًا إلى الحمل المعقد الذي يجلبه الصدر إلى اللعبة السياسية العراقية، فإن عودته إلى المعترك السياسي الرسمي بعد غياب دام سنوات ستزعزع على الأرجح استقرار المشهد السياسي الشيعي الداخلي. ومع ذلك، فقد أظهر استعدادًا براغماتيًا لتجنب العنف (على الرغم من الاشتباكات الصغيرة هنا وهناك) في مواجهة الجماعات الموالية لإيران، لأن هذا سيكون سيناريو خاسرًا على كافة الأصعدة للشيعة الذين نجحوا أخيرًا في السيطرة على الدولة العراقية بعد عقدين من الصراع العنيف والدموي. وبالتالي، سيتعين على الصدر اجتياز درب وعر ومن المرجح أن يقدم تنازلات لإيران وحلفائها في العراق.
باختصار، لا تتماشى طموحات الصدر مع الوسائل المتوفرة بحوزته لتحقيقها. وتدل الحركة بتسميتها الجديدة على مرحلة جديدة في عمله السياسي أكثر من كونها مشروعًا سياسيًا جديدًا تمامًا أو واقعًا سياسيًا جديدًا في العراق. بعبارات أخرى، سيشهد سلوك "التيار الصدري" (والسياسة العراقية بشكل عام) استمرارية أكثر من التغيير، على الرغم من تركيزه بشكل أكبر على ساحة الدعم والتنافس الشيعية المباشرة. وفي حين أن المناورة لتحقيق مكاسب انتخابية مذهلة من خلال حركة متجددة باسم جديد أمر مفهوم، ومن المحتمل أن يزيد الصدر حصته من الأصوات نظرًا إلى الاستياء الواسع النطاق من الجماعات السياسية الأخرى، من غير المرجح أن تُترجم المكاسب الانتخابية إلى رغبته الطويلة الأمد في تشكيل حكومة أغلبية. فإيران وحلفاؤها العراقيون سيستمرون بتشكيل حاجز لا يمكن التغلب عليه أمام طموحات الصدر في قيادة حكومة أغلبية.