- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
جذور الأزمة السياسية الحالية في تونس
مع استمرار الأزمة السياسية في تونس، من الأهمية بمكان أن نفهم كيف اندلعت الخلافات بين الرئيس والسلطة التشريعية خلال الأشهر القليلة الماضية، وأثاره التي تركت البلاد في حالة طوارئ تتعلق بالاقتصاد والصحة العامة.
تعيش تونس منذ الانتخابات التشريعية والرئاسية للعام 2019 حراكا سياسيا وخلافات جوهريّة غير مسبوقة جرّاء حالة الضعف التي يمر بها البرلمان التونسي والصراعات السياسية بين مؤسسات الحكم، جلّها عوامل سيطرت على المشهد برمّته وبعثرت الأولوّيات للقائمين على الحكم المتعارضين أصلا، ولا سيما الصراع على السلطة بين رأسي السلطة التنفيذية - والذي اندلع مؤخرًا عندما قام الرئيس قيس سعيد رئيس بإقالة رئيس الوزراء وتجميد أعمال البرلمان. وتكشف تلك الخطوة النقاب عن الصراع الدائر وراء الكواليس بين رئيس الوزراء، والرئيس، والبرلمان، الأمر الذي عطّل محاولات الإصلاح الاقتصادي وإنعاشه للإعداد لمرحلة ما بعد جائحة كوفيد-19 للوقوف عل المشاكل الأصلية للبلاد والمتمثّلة في دفع نسق التنمية وتوفير فرص العمل وتحسين القدرة الشرائية للمواطن.
الظروف المحيطة بتكليف حكومة هشام مشيشي
المتابع للشأن السياسي في تونس، يلمح منذ الوهلة الأولى بدعة تغيير الحكومات لتصبح حكومة هشام مشيشي تاسع حكومة في غضون عشر سنوات من انتفاضة 2011 التي أطاحت بحكم الرئيس زين العابدين بن علي أي بمعدّل حكومة كل سنة تقريبا.
الظروف التي أتت بهشام مشيشي وحكومته في أيلول/سبتمبر 2020 والذي ولم تقترحه أي كتلة برلمانية أو جهة حزبية ترتسم في شبهات الفساد وتضارب المصالح لرئيس الحكومة الذي سبقه إلياس الفخفاخ بعد الضجة التي أحدثتها شبهات الفساد حول امتلاكه أسهما في شركات نفايات تتعامل مع الدولة تجاريا وهو ما يحجّره القانون. هذه المعطيات عجّلت برحيل الفخفاخ في وقت قياسي حيث استقال إثر ضغوطات حزبية وسياسية مكثفة ليغادر القصبة بعد 06 أشهر فقط من توليّه المهامّ وهي الفترة الأقصر لرئيس حكومة بعد الثورة.
أبان التكليف ونظرا لكونه ابن الإدارة التونسية ولم تأت به الأحزاب تراءى لبعض الأوساط الشعبيّة أن رئيس الحكومة المعفى من مهامه من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيد في الخامس والعشرين من تموز/سبتمبر 2021 يحظى بثقة من الشرائح المجتمعية سيما أصحاب المؤهلات العليا المعطّلون عن العمل وذلك لتكوينه الأكاديمي ولرصيده السياسي النظيف وخاصة وأنه لم تأت به الأحزاب التي افتقدت مصداقيتها من طرف عموم الشعب وبخلاف قيس سعيد الذي اكتسب دعم الناخبين كونه مرشح مستقل ولا ينتمي لأي حزب أو تيار سياسي، شغل مشيشي عدة مناصب في حكومة ما بعد الثورة التونسية. ففي عام 2014 تولى منصب رئيس ديوان وزير النقل، ثم تقلد نفس المنصب في وزارة شؤون المرأة ثم وزارة الشؤون الاجتماعية ثم وزارة الصحة ليعيّن بعدها مديرا عاما للوكالة الوطنية للرقابة الصحية والبيئية للمنتجات.
النقلة السياسية النوعية لمشيشي برزت عقب تعيينه من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد مستشارا أولا له مكلفا بالشؤون القانونية في 11 فيفري 2020، قبل أن يتقلّد حقيبة الداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ في 27 فيفري 2020.
وبعد خمسة أشهر من تقلده حقيبة الداخلية ، اختاره الرئيس قيس سعيد لمنصب رئيس الحكومة ليعتزم تشكيل حكومة مستقلة عن الأحزاب في خطوة ترمي
النأي بالبلاد عن سياسة المحاور والصراعات السياسية التي تكاد تخرّب التجربة الديمقراطية للبلاد وتقضي على ما تبقّى من الاقتصاد المتعثر. وبعد التكليف الرسمي لمشيشي بترأس الحكومة ومباشرة مهامّه أعلن في أول تصريح له أن "هذه الثقة مسؤولية جسيمة وتحد كبير خاصة في ظل الوضع الحالي للبلاد".
أولى العقبات التي اعترضت حكومة مشيشي كانت في كانُون الأول/ ديسمبر من العام الفارط بعد الكشف عن وصول 282 حاوية نفايات من إيطاليا وصفت بالخطيرة حيث تبيّن أن التراخيص لا تتماشى ونوعيّة النفايات وهنا تحيلنا الوضعية لحجم الفساد الذي نخر الجمارك التونسية قبل وبعد الثورة. هذه النفايات سرّعت بإقالة وزير البيئة مصطفى العروي من طرف رئيس الحكومة وقتها.
التحوير الوزاري
اندلعت الأزمة بين الحكومة والرئيس في كانُون الثَّاني / يناير من العام الجاري حين رفض رئيس الجمهورية قيس سعيد توجيه الدعوة للوزراء المكلفين بآداء اليمين الدستورية، رغم مصادقة البرلمانبالأغلبية المطلقة على التعديل الذي شمل 11 وزيرا بطلب من أحزاب الحزام السياسي، وهي الأحزاب الداعمة لحكومة مشيشي. وجاء رفض الرئيس متعللاً بشبهات الفساد وتضارب المصالح لبعض الوزراء المكلفين، بل واصل توجيه رسائل مبطّنة للائتلاف الداعم لرئيس الحكومة بالتغطية على الفساد.
في المقابل تعامل هشام مشيشي مع الأزمة بسياسة المراحل حيث اعتبر في مرحلة أولى أن التمشي المتّبع في تكليف الوزراء الجدد اعتُمد في محطات سابقة ويأتي في إطار صلاحيات دستورية واضحة ومسار دستوري واضح ولم يكتف بذلك، بل استأنس بخبراء في المجال القانوني والدستوري في خطوة موالية حيث جزموا أن الأزمة سياسية بالأساس وليست أزمة دستورية كما دعوا لضرورة تركيز المحكمة الدستورية التي تبتّ في مثل هذه المسائل.
وفي خطوات مماثلة لاحتواء الأزمة، توجه مشيشي في 11 فيفري 2021، بمكتوب رسمي إلى رئيس الجمهورية دعاه فيه إلى مدّه بأسماء الوزراء الذين نسبت لهم شبهات فساد وتضارب مصالح، كما طالب باستعجال دعوة بقية الوزراء الذين نالوا ثقة البرلمان لأداء اليمين الدستورية تفاديا لتعطيل سير مؤسسات الدولة وخدمة الصالح العام إلاّ أن كل المساعي لم تحقّق نتائج ملموسة لتستمرّ الأزمة إلى أن قام الرئيس بتجميد البرلمان.
في خضمّ الأزمة التي طال أمدها بين الرئيس قيس سعيد ورئيس الحكومة المعفى من مهامه ظلّت الحكومة التونسية تعمل بثلث أعضائها، إذ لم تبق في حكومة مشيشي سوى 18 حقيبة وزارية ونصفها يعمل بالنيابة في ظلّ عدم مباشرة الوزراء المكلفين للمهام المنوطة لهم رغم الظرف الاقتصادي والاجتماعي المعلوم للبلاد التونسية الأمر الذي أجّج الأزمة، بل أضحت الوضعيّة إعادة نتاج للأزمة.
وما زاد الطين بلة وأعاد مناخ عدم الثقة جاء بعد إقالة وزير الصحة فوزي مهدي الطبيب وابن المؤسسة العسكرية من قبل رئيس الحكومة بعد سوء تنظيم حملة اللقاحات أيام عيد الأضحى وتجميع عدد كبير من التونسيين في مراكز اللقاحات، وارتفاع عدد الوفيات بالفيروس كوفيد في ظل بنية تحتية هشة للقطاع الصحي الذي يتعامل مع الوضعية بالإمكانيات المتاحة وبدعم من الدولالأجنبية والعربية.
اقتصاد منهك وحكومة غير مستقرة
إلى جانب الأزمات السياسية المزمنة، يشهد الاقتصاد التونسي ركودا هائلا وتراجعت الأرقام لمستويات غير مسبوقة وفق عديد المؤشرات المحليّة وحتى العالمية كتبويب وكالات التصنيف الانتمائي التي وضعت تونس في مراتب متأخرة نظرا لهشاشة الوضع الاقتصادي وغياب رؤية إصلاحية قابلة للتطبيق. كما ساهمت
جائحة كوفيد العالمية في تعقيد الوضع الشائك بطبيعته وعمّقت الأزمة وجعلت الدولة التونسية تنفق وتسعى لمرافقة الفئات والمؤسسات المتضررة دون مداخيل قيّمة تذكر.
ومع اندلاع الخلاف بين مؤسسات الحكم وتأزّم الأرقام الاقتصادية أرغمت الدولة نفسها في حرج التداين أو الاقتراض الخارجي وذلك بعد محاولات اقتراض ومشاورات لم تكلّل بالنجاح مع بلدان عربية. ومن ثم، وجدت الدولة التونسية نفسها مجبرة على الوقوف أمام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتعبئة مواردها المالية مقابل برنامج إصلاحي واضح وقابل للتطبيق. تحتاج المؤسسات العمومية أيضا مناخ استثمار يتماشى والظرف المستحدث خاصة فيما يتعلق بتنقيح مجلة الاستثمار ومراجعة الترتيبات التي انكبت الحكومة على تنقيحها بالشراكة مع المنظمات الوطنية قصد إقناع الجهات المانحة بضرورة دعم تونس في برنامجها الإصلاحي وحشد الدعم اللازم مع سفراء بلدان شقيقة وصديقة لإنجاح المفاوضات.
مفاوضات غير تقليدية مع الشركاء الاستراتيجيين وخاصة مع صندوق النقد الدولي
وعلى ما يبدو كانت هذه الجهود مثمرة في البداية حيث عبرت واشنطن عن طريق سفيرها في تونس دونالد بلوم عن دعمها لتونس في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، وأن الإدارة الأمريكية على أتم الاستعداد لمساندة مجهودات التنمية في تونس وإنجاح المسار الديمقراطي. وعلى نحو مماثل، أعلن وزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار التونسي على الكعلي أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ستمنح تونس هبة بقيمة 500 مليون دولار وذلك بعد أيام من المناقشات في أمريكا مع مؤسسة تحدي الألفية الأمريكية (MCC) ،لتمويل مشاريع تتعلق بتطوير المنظومة اللوجستية للنقل البحري في ميناء رادس بالخصوص ومشاريع تخص التحكم في الموارد المائية.
وبعد المفاوضات التي أجرتها الحكومة التونسية مع صندوق النقد الدولي في أيار/مايو الماضي جاء اتصال نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس برئيس الدولة التونسية قيس سعيد حيث أعلنت أنّ الوفد التونسي بواشنطن كان جدّي في العمل وتمكّن من إقناعهم بالتمشّي الوارد وإرادة تونس في القيام بخطوات عملاقة للنهوض بالاقتصاد مؤكّدة دعم واشنطن المتواصل إلى تونس امّا عن طريق إعانة مباشرة أو في مناقشتها مع صندوق النقد الدولي. كل ذلك يشير بوضوح الى أن الإدارة الأمريكية ترغب في أن تتجاوز تونس أزمتها السياسية والاقتصادية في أسرع الآجال لإتمام المشاورات مع الجهات المانحة.
الرئيس يعدّل البوصلة استجابة لرغبة الشعب
شهد الشارع التونسي في يوم عيد الجمهورية في الذكرى الـ64 احتجاجات انطلقت في عدة ولايات أطلق عليها إسم "حراك 25 جويلية"، وحتى الآن لم يعرف من يقف وراء هذ الاحتجاجات لكن الأرجح أن الشباب البائس هو من يقف خلفها حيث أنها لا تمتّ للأحزاب بصلة. وكانت اهم مطالب الحراك هي التخلص من المنظومة الحاكمة والفاسدين وحل البرلمان وإيجاد طريق للانسداد السياسي الذي أرهق الشعب على جميع المستويات، فضلا عن جائحة كوفيد-19 التي حصدت أرواح قرابة 16 ألف تونسي حسب إحصائيات وزارة الصحة في منتصف تموز/يوليو 2021 وما رافقها من سوء إدارة الأزمة خصوصا التأخر في جلب اللقاحات وضعف نسق عمليات التطعيم، الأمر الذي جعل الصحة العسكرية تدخل على الخط لمعاضدة جهود الصحة العمومية لتلقيح أكبر عدد ممكن من المواطنين.
وعلى خلفية ما شهدته البلاد من أحداث عيد الجمهورية، قرّر الرئيس قيس سعيد في خطوة يعلم الملمّين بالشأن العام أنها منتظرة علما وأنه تحدث في عديد المرات للإعلام أنه يمتلك ترسانة من القوانين ومنصة قوانين سيطلقها في الظرف المناسب بعد ما شاب العمل البرلماني العنف والسياحة الحزبية والبحث عن التحويرات الوزارية التي تخدم اللوبيات فضلا عن ما وصفه بالتلاعب بالملفات القضائية وترسيخ الإفلات من العقاب. واستنادا على الفصل 80 من الدستور قرر سعيد إعفاء رئيس الحكومة هشام مشيشي وتجميد عمل واختصاصات المجلس النيابي لمدة 30 يوما مع رفع الحصانة البرلمانية عن كل أعضاء المجلس.
يذكر أن الفصل 80 من الدستور التونسي ينصّ على أن "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب".
وإثر لقائه برؤساء المنظمات الوطنية بقصر قرطاج، اعتبر الرئيس قيس سعيد أن ما اتخذه من قرارات لا يمت بصلة بالانقلابات، بل تقيّد واستند إلى الدستور باعتبار أن الخطر أصبح واقعا على الدولة على عديد المستويات والموت في زمن الكوفيد هو خطر داهم مشددا أنه درس القانون ويدرسه ولم يخرج عن الشرعية وهو يتحمّل المسؤولية التاريخية
وفي غياب المحكمة الدستورية التي تلكأ نواب البرلمان في تشكيلها منذ 2015 لحسابات ضيقة، فرضت هذه الوضعية التي سميت بتعليق مؤقت للسلطة إلى حين إيجاد مخرج بالشراكة مع المنظمات الوطنية.
ومع ذلك، قد تؤدى الأزمة السياسية الحالية في تونس إلى إحباط الخطط الاقتصادية الموضوعة إذا لم يتم حلها بسرعة. وفى حالة نجاح المفاوضات مع الشركاء الدوليين، لم يبق للقائمين على الحكم في تونس إلا الإسراع في تفادي الخلافات التي مركزها طبيعة الحكم وغياب المحكمة الدستورية وبعض فصول الدستور والمشهد البرلماني المشتّـت قبل الانغماس في الإصلاحات الاقتصادية، إضافة إلى التعويل على الموارد الذاتية للدولة وعدم الركون كثيرا على من يقدّم مساعدات مقابل أجندات. على القائمين على الحكم بتونس تجاوز الخلافات السياسية وفق جدول زمني محدّد وعليه مؤسسات الحكم بتونس ملزمة باتباع رزنامة إصلاحية للشأن السياسي والاقتصادي تمرّ عبر التشريعات إلى التنفيذ.
في خضم تلك الأزمات السياسية الكبرى التي تمر بها تونس، ينبغي أن يكون هناك تركيز كافٍ على إيقاف النزيف المستمر والتدهور الذي يعاني منه الاقتصاد التونسي. لذلك، يجب التسريع في المصادقة على القوانين المرتبطة بالاقتصاد والتي لها علاقة مباشرة بالاستثمار، ووضع خطة إصلاحية تنموية متوسطة المدى وحسب إمكانيات الميزانية وبتشريك القطاع الخاص تشمل 24 ولاية من ولايات الجمهورية حسب أولويّة التمييز الإيجابي. هناك أيضا حاجة الى تنشيط الديبلوماسية الاقتصادية خاصة فيما بتعلّق بإعادة إعمار ليبيا والمشاريع الممكن ربحها والعمل على جلب المستثمرين بالتنسيق مع الحكومة لانتصاب شركات أجنبيّة مصنّعة بتونس وليس بيع حصص أو أسهم شركات.