- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
جلسات الصلح العرفي في مصر تضرّ بالأقلية المسيحية
بين رهبة وانكسار، يلملم الشاب المسيحي مرقص غبريال وأسرته أشلاء ذكرياتهم وبقايا حيواتهم وأحلامهم المتناثرة على طرقات بلدتهم القديمة بمحافظة قنا (جنوب)، حيث أجبرت أسرة غبريال على الرحيل ليلا وذلك عقابًا على علاقة عاطفية جمعته بفتاة مسلمة من القرية ذاتها أدت إلى إثارة الضجة داخل القرية.
يشكل المصريون المسيحيون أكبر أقلية دينية في منطقة الشرق الأوسط، وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن عددهم في مصر يصل إلى 10في المئة من إجمالي عدد سكان البلاد، الذي يزيد عن 90 مليون نسمة. وعلى مدى عقود مضت، تعرض المسيحيون بمصر لأحداث عنف واعتداءات استهدفت أشخاصًا وممتلكات وكنائس، لأسباب مختلفة بعضها عقائدي والآخر جراء خلافات حول بناء الكنائس، ومعاملات تجارية، وكذلك علاقات عاطفية مع مسلمين.
ووفقا للقانون الدولي، فإن التهجير القسري هو "ممارسة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء أراضٍ معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلًا عنها". وعلى الرغم من أن الدستور المصري قد نص في مادته (63) على "حظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، وأن مخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم"، غير أن قطاع من المسيحيين في صعيد مصر عادة ما يكون "التهجير القسري" مصيرهم بعد الحوادث الطائفية الكبرى، دون اتخاذ خطوات فعلية من المؤسسات الرسمية أو مؤسسات العمل المدني لتحقيق العدالة أو جبر الضرر الواقع على هؤلاء الضحايا.
وتتشكل لجان الصلح العرفي في مصر بمعرفة جهات رسمية، إذ تمارس عملها تحت إشراف وإدارة الأجهزة الأمنية، وتضم قيادات أمنية، وشخصيات عامة من المدينة/ المركز، ورجال دين مسلمين ومسيحيين، ويختار طرفا الخصومة مكانًا محايدًا والأطراف المرجحة. ويقوم المحكمون بتقدير أخطاء كل طرف والإعلان عن الحكم، وتحرير محضر بالصلح يتضمن بنود الاتفاق وقرارات اللجنة وتوقيع الأطراف عليه، مع وضع شروط جزائية على الطرفين حال عدم التنفيذ أو العدول عن الصلح. وتسمى تلك اللجان بـ "الصلح"نظرا للدور الذي تقوم به في إبرام مصالحات عرفية بين طرفي النزاع الديني، غير أن العوامل الديموغرافية والثقافية في مصر، غالبا ما تلقي بظلالها على تلك الجلسات التي تُعقد في ضوء توازن مختل للقوى، ما يؤثر سلبًا على عدالة أحكامها، إذ يغلب على كثير منها الانحياز للطرف الأقوى والمؤثر الفاعل في السلطة.
وخلال سنوات امتدت بين عامي 2011 و2014، عقد نحو 50 مجلسًا عرفيًا للفصل في نزاعات بين مسلمين ومسيحيين بالبلاد، وفق ما تيسر من توثيق المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. ومع ذلك، ساهمت تلك الجلسات العرفية في تفاقم الأزمة ولم تقدم حلولًا جذرية لأحداث العنف الطائفي بمصر، إذ يُظهر تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية الصادر لعام 2015، أن جلسات الصلح العرفي تحولت إلى بوابة للهروب من تنفيذ القانون، وانتهى معظمها إلى قرارات بالتهجير القسري لأسر مسيحية، أو إجبارهم على دفع غرامات مالية، أو التنازل عن ممتلكات وأصول عقارية. كما قضت بعضها أيضًا بإغلاق كنائس أو عدم استكمال أعمال البناء أو الترميم أو التوسعات بها بزعم "دواع أمنية".
كما خلت تلك الجلسات العرفية في حالة الاعتداءات الطائفية من وجود تشكيل ثابت أو قواعد حاكمة متعارف عليها، فكل حادثة تختلف عن نظيرتها من حيث تفعيل هذه الجلسات وتطبيقها والقائمين على تنفيذها، وبالتالي تفتقر تلك الجلسات إلى هيكل ثابت يساهم في زيادة فاعلياتها وشرعيتها.
ويرجع ذلك إلى قيام تلك الجلسات باستبعاد الدولة في مقابل تفعيل دور القبيلة. وبغض النظر عن انعدام تمثيل المسيحيين خلال تلك الجلسات العرفية، أو من خلال تشجيع ممثلين من محافظات أخرى لإعطاء انطباع خاطئ عن التمثيل الفعال، فإن الجلسات العرفية يتم التحكم فيها بشكل عام من قبل الكيانات الأكثر قوة وتأثيراً والتي تمتلك سلطة الحكم العرفي. وللأسف، يؤثر هذا الخلل في السلطة سلباً على نزاهة قرارات تلك الجلسات، التي أصبح معظمها متحيزاً بشدة لصالح الأطراف الأخرى الأقوى.
ومع ذلك، يلجأ قطاع من المواطنين لهذه الجلسات كأسلوب لحل النزاعات وتسوية الخلافات، خوفًا من تفاقمها وتداعياتها، خصوصًا في ظل استمرار مظاهر وأشكال التوتر الطائفي والديني في ربوع البلاد.
وقد أدى إهمال الإعلام لتلك الجلسات والقرارات العرفية التي يتم اتخاذها بمعزل عن القانون الرسمي في حوادث العنف الطائفي إلى تفاقم الأزمة. فالنظام السياسي في مصر يتعامل مع تلك القضايا بحساسية شديدة نظرا لاعتقاده بانها تثير حفيظة الرأي العام وتؤجج الفتن، لا سيما عقب سنوات من الاضطرابات السياسية والأمنية شهدتها البلاد منذ ثورة يناير/كانون ثان 2011.
فعقب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في يونيو/حزيران 2013، شددت الحكومة المصرية قبضتها على المحتوى الإعلامي، بصفة خاصة، وبدا ذلك جليًا سواء بتغيير أنماط ملكية معظم وسائل الإعلام أو بحرص القيادة السياسية على عقد لقاءات دورية بممثلي الإعلام، للتأكيد على التعامل الحصيف مع التحديات التي تواجه البلاد. ومن ثم، اعتادت وسائل الإعلام (المرئي والمسموع والمقروء) تسليط الضوء على الفصل الأخير من حوادث العنف الديني (دون التطرق إلى مراحلها) بعبارات تقليدية شائعة تشير في مجملها إلى "تماسك نسيج الوطن الواحد أمام قوى التطرف"، فيما لا تتطرق غالبًا إلى الإجراءات التي تتخذها جلسات الصلح العرفي حيال المتضررين بصفة خاصة.
إن التمسك بعقد تلك الجلسات العرفية التي تمثل انتهاكا للدستور والدولة المدينة لم يساهم في الحد من الأحداث الطائفية التي تدلع بشكل متكرر بل زادها تفاقما، وخير دليل على ذلك هو استمرار أعمال العنف الطائفي التي تطل علينا بوجهها من حين لأخر. فتلك الجلسات ما هي إلا بديلاً مشوهًا لمنظومة العدالة الرسمية، وضماناتها الحقيقية في تحقيق الردع والمساواةة والمواطنة.
وقد تحولت تلك الجلسات إلى قضاء عرفي ينافس القضاء الرسمي ويعزز فرض السياسات القبائلية والعشائرية على الخلافات العقائدية، كما يجهض حق المواطنين الدستوري في اللجوء إلى القضاء لجبر الضرر عنهم. ومن ثم، يجب العمل بالمبادئ التي نص عليها دستور 2014 والذي يدعوا إلى سرعة الفصل في قضايا العنف الديني بهدف تحقيق العدالة الناجزة، وإيجاد بنية تشريعية تمنع التحيز والتمييز على أساس ديني أو مذهبي وتجريم جلسات الصلح العرفي.