- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
جمهور محلي للسياسة الخارجية التركية
بعد ان أصبحت الانتخابات التركية على المحك، دخل أردوغان في لعبة التطبيع الدولي المحفوفة بالمخاطر، وذلك على أمل أن يوافق الناخبون الأتراك على تلك العلاقات الاقتصادية والحلول المرتبطة الهجرة.
يبدو أن الخط الفاصل بين السياسة المحلية والخارجية في تركيا أصبح رفيعًا للغاية ويكاد يتعذر تمييزه. فربط المجالين المحلي والدولي بات ركنًا أساسيًا في حملة الرئيس رجب طيب أردوغان لإعادة انتخابه. وانطلاقًا من مبدأ أن تحسين السياسة الخارجية الفوضوية المعتمدة في تركيا سيعود بفوائد مالية على الاقتصاد المتعثر، أصبحت هذه السياسة بمنزلة التوجيهات التنفيذية.
ونتيجةً لذلك، قامت تركيا بعملية تطبيع حققت نجاحًا ملحوظًا مع خصوم الماضي الذين أصبحوا أصدقاء اليوم، أي الإمارات والسعودية وإسرائيل. غير أن المعارضة في البلاد لا تزال تشكك بهذه العمليات. وفي حين تشير بيانات استطلاعات الرأي إلى ازدياد احتمال تغير الحكومة، لا تزال الضبابية تلف مستقبل هذه المساعي. وبينما يبقي أردوغان على نسخته المعدّلة من السياسة الخارجية، المصممة لتلبية طلبات الناخبين المحرومين، لا بدّ من ترسيخ هذه الالتزامات الجديدة.
فوائد التطبيع
سعت أنقرة إلى جني الثمار الاقتصادية للتطبيع الدبلوماسي محققة درجات متفاوتة من النجاح. فالاستثمارات الإماراتية في تركيا تحولت إلى واقع ملموس، كما أن العلاقة الاقتصادية المتينة أساسًا بين البلدين تستفيد الآن من وجود قيادة قوية على رأس الدولتين. وفي الآونة الأخيرة، اشترت الإمارات طائرات "تي بي 2" المسيرة التركية الشهيرة، في إطار صفقة ستعمد بموجبها أنقرة إلى مدّ أبوظبي بالطائرات على مدى عدة سنوات.
وفي الإطار نفسه، يأمل أردوغان بأن تضخ السعودية التي تتمتع بثروة نقدية مبالغ كبيرة من المال في الاقتصاد وذلك على الأرجح على شكل اتفاق مقايضة عملة أو عملية استحواذ كبيرة على أصول تركية. فالمملكة، تمامًا كدولة الإمارات، مهتمة على ما يبدو بقطاع الدفاع التركي الناشئ.
في الواقع، أصبح المجمع الصناعي العسكري التركي جوهر سياسة أردوغان القائمة على التوفيق بين المجالين المحلي والدولي، مستخدمًا قوة الصناعة الدفاعية كأداة لتسريع وتيرة عمليات التطبيع الثنائية المتأخرة. وقد حفزت إمكانية الاستفادة من الصناعة الدفاعية التركية عواصم الخليج على إصلاح العلاقات مع أنقرة، الأمر الذي جعل العلاقات على ما هي عليه اليوم.
هذا ونجحت إسرائيل وتركيا أيضًا في ترميم العلاقات بينهما، لتبلغ ذروتها الشهر الفائت بإعلان الطرفين عن اتفاقهما على تعيين سفيرين. ويبدو أن الفوائد المحلية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل غير واضحة بقدر العلاقات مع السعودية والإمارات. فالمواطنون الأتراك لا يزالون يتعاطفون جماعيًا مع القضية الفلسطينية، وثمة احتمال ضئيل بأن يتمّ تحويل العملات الصعبة من إسرائيل إلى تركيا.
ومع ذلك، تعلق تركيا آمالها على التعاون المنتظر في مجال الطاقة شرق البحر المتوسط، وعلى إبرام اتفاق محتمل على صعيد خطوط أنابيب غاز سيُنقل بموجبه الغاز الإسرائيلي إلى الأسواق الأوروبية عبر تركيا. وعلى الرغم من عدم صدور أي إعلان بعد عن تبلور هذا الاحتمال، بث الوعد بحدّ ذاته الحماسة في نفس المهتمين بالشأن المالي.
كذلك، يمكن لأنقرة أن تجني فوائد مختلفة من تطبيع العلاقات مع إسرائيل. فبإمكان أردوغان محاولة التقرب من واشنطن من خلال تفاهمه الجديد مع إسرائيل. وكان عدم توقيع عقد تنفيذي بين أنقرة وواشنطن والبرودة التي أظهرتها إدارة بايدن تجاه أردوغان قد تركت تركيا مع عدد من الأولويات السياسية غير المحلولة. وحاليًا، يبدو أن قضية تحديث أسطول طائرات "أف-16" المتأخرة بسبب قيود فرضها الكونغرس هي الأهم.
ومن شأن انفراج في العلاقات التركية الإسرائيلية أن يحسن إلى حد كبير النظرة إلى أردوغان في واشنطن وقد يساهم في تحقق بعض طموحاته. فخلال السنوات الماضية، عملت الجماعات المؤيدة لإسرائيل في واشنطن العاصمة على دعم تركيا – ويأمل أردوغان في التوصل إلى تفاهم مماثل الآن. ويُعتبر التذرع بعملية بيع عاجلة لمقاتلات جديدة من طراز "أف-16" حجة لن يتمكن الكثيرون من معارضتها في تركيا، ما يضمن لأردوغان نصرًا يمكن بسهولة تحويله إلى أجندة محلية. علاوةً على ذلك، ونظرًا إلى التوترات الراهنة بين اليونان وتركيا، ستعزز مسألة المقاتلات "أف-16" مكانة أردوغان بشكل ملحوظ.
السياسة الخارجية للمعارضة
تتمحور معارضة أردوغان في تركيا حول "طاولة الستة" المتناقضة، وهي تجمّع يضم سياسيون اتحدوا على الرغم من اختلاف أيديولوجياتهم للإطاحة بالرئيس الحالي. وبالتالي، من الصعب التأكد من أولويات هذه الجماعة على صعيد السياسة الخارجية نظرًا إلى تباينها المتأصل. فهي تضم في صفوفها أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء السابق وأحد أقرب المقربين السابقين من أردوغان، الذي يعود له الفضل في وضع سياسة تركيا الخارجية الاستباقية، ولا سيما في بداية الانتفاضة العربية.
وقد ربط داود أوغلو الكثير من قرارات السياسة الخارجية التي يسعى أردوغان إلى إلغائها بالأجندة التنفيذية، على غرار سياسة تركيا السابقة المناهضة للأسد وسنوات من التوترات مع الإمارات والسعودية. من جهة أخرى، يبرز "حزب الخير" القومي الذي من المتوقع أن يحقق مكاسب كبيرة في انتخابات العام المقبل وهو عضو أساسي في التجمع. وبقي الحزب متحفظًا على قضايا السياسة الخارجية وأعرب في المقابل عن تشكيكه بالسياسة التوسعية الروسية والصينية. ويبدو أنه يتخذ موقفًا مؤيدًا لـ"حلف الناتو" عمومًا.
هذا وانتقد كمال كيليتشدار أوغلو رئيس "حزب الشعب الجمهوري"، وهو أكبر حزب في التحالف، بشكل حاد توجه أردوغان في مجال السياسة الخارجية. فقد عارض علنًا تطبيع تركيا مع السعودية والإمارات وتعهد بإعادة النظر في مسألة التطبيع مع إسرائيل، علمًا أنه يستعد للترشح لخوض المعركة الرئاسية. ويضاف إلى تشكيك الرئيس بعمليات التطبيع الجارية، تعهد مشؤوم بالعمل مع "دول المنطقة" في إطار "منظمة تعاون شرق أوسطية." وضمن هذا النموذج، وعد كيليتشدار أوغلو بتوطيد العلاقات مع سوريا ولبنان وإيران لتحقيق نوع من التماسك الإقليمي.
وفي حين يزداد عدد علاقات تركيا مع العواصم الخليجية وإسرائيل، يتعارض هذا الحديث مع عمليات التطبيع بحد ذاتها. ففي حين يصمم أردوغان السياسة الخارجية وفق الحسابات الانتخابية، تحذو المعارضة حذوه. ويعتقد كيليتشدار أوغلو أنه قادر على إثارة الشكوك حول دول الخليج وإسرائيل، وجمعها مع الخطاب المعادي للولايات المتحدة، وبالتالي بناء سردية معارضة لسردية أردوغان.
قضية الأسد
في الآونة الأخيرة، عمد الرئيس إلى إصلاح العلاقات مع عدو أكثر تعقيدًا، نظام بشار الأسد في سوريا. ومرة أخرى يترتب على هذه العملية حسابات انتخابية، إنما على نطاق أوسع بكثير. فأردوغان يعتبر أنه من خلال إبرام اتفاق مع الأسد، بإمكانه إطلاق عملية ترمي إلى إعادة 4 ملايين سوري يعيشون في تركيا إلى بلادهم.
وتطالب القواعد الشعبية التقليدية الداعمة لأردوغان بأن يرحل المهاجرون، ما يجعل أردوغان وحزبه يسعيان إلى إيجاد حل بسرعة. فالضيقة الاقتصادية والاستياء الاجتماعي الناتجان عن ازدياد الحضور الواضح للمهاجرين هما الإطاران الرئيسيان اللذان يحددان مسار الخطاب الانتخابي في تركيا. ويعتقد أردوغان أن اعتماد أساليب حديثة في السياسة الخارجية يمكنه معالجة جميع هذه القضايا، وهذا ما يدفعه إلى المبادرة أحاديًا لحل خلافات قائمة منذ فترة طويلة مع أعداء مثل الأسد.
ومع ذلك، تبين أن التعاون مع الأسد صعب، بما أنه ما من علاقات دبلوماسية رسمية بين أنقرة ودمشق. فبعدما كشف وزير الخارجية التركي عن لقائه بنظيره السوري في بلغراد العام الفائت، صرح المسؤولون الأتراك على نحو متكرر بأن احتمال التواصل على مستوى أعلى قائم لا بل من الضروري أن يتحقق. وكان الرئيس التركي كشف بنفسه أنه أمل في لقاء الأسد خلال قمة "منظمة شنغهاي للتعاون" في وقت سابق من هذا الشهر. وعلى الأرجح يظن أردوغان أنه قادر على التوصل إلى اتفاق ما إن يتواصل الرئيسان معًا بشكل مباشر.
لم يتأكد هذا الواقع المتغير إلا من خلال اجتماعات تمّ كشف النقاب عنها مؤخرًا بين رئيس الاستخبارات التركية ونظيره السوري في موسكو، حيث يتردد أنهما تبادلا قائمة مطالب أولية. وبالفعل، يبدو أن روسيا تلعب دور الوسيط في العملية، فتجمع بين أنقرة ودمشق بما أن المصالحة بينهما تخدم مصالح الكرملين.
وبما أن السياسة المحلية والدولية تتداخلان أكثر فأكثر في تركيا، يزداد الشك قابلية في نجاح مساعيها الجديدة على صعيد السياسة الخارجية. وعلى الرغم من هذه المخاطر، يشير استطلاع رأي أُجري في الآونة الأخيرة إلى أن مساعي أردوغان الدبلوماسية لم تترك أثرًا يذكر على التوقعات الانتخابية. فالناخبون الأتراك إما غير مهتمين بهذه العملية أو غير مقتنعين بنتائجها، بما أن إعادة تأهيل الاقتصاد لم تتبلور بعد. ونظرًا إلى هذه الوقائع، سيلعب أردوغان الآن ورقته الأخيرة مع الأسد، بما أنه من المتوقع أن يحدث الوعد بإعادة المهاجرين تغييرات مهمة في استطلاعات الرأي إن تمّ التوصل إلى اتفاق قبل فصل الصيف. وبغض النظر عما إذا كانت استراتيجية أردوغان ستؤمن له الفوز في الانتخابات مجددًا، يبدو أن تسييس السياسة الخارجية لعبة خطيرة تنطوي على عدد لا يحصى من الاحتمالات الضبابية.