- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كانت اتفاقيات أوسلو واعدة؛ لكن المتطرفين أخرجوها عن مسارها
Part of a series: Oslo at 30
or see Part 1: Oslo at 30: Personal Perspectives from Washington Institute Scholars A Compendium
بالنظر إلى إرث الاتفاقيات سنكتشف أن اتفاقيات أوسلو لم تخذلنا، بل الإسرائيليون والفلسطينيون هم الذين خذلوا أوسلو.
حمل مؤتمر مدريد للسلام للعام 1991 معه شعلة أمل سرعان ما خمدت. إلا أن هذا الأمل تجدد في أيلول/سبتمبر 1993 عندما وقّع عدوّان تاريخيان، هما رئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، إعلان المبادئ ثم تصافحا، في حدث تلقّى في إثره صانعا السلام جائزة نوبل للسلام في العام 1994 تقديراً لأهمية تلك اللحظة.
أتذكر جيدًا عندما سمعت للمرة الأولى كلمة "أوسلو" في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كنت أدرّس في جامعة العلوم التطبيقية في العاصمة الأردنية، عمّان، عندما انتشر خبر اتفاق أوسلو، تناقضت مشاعر الناس تجاه الاتفاق، إذ قضى على حلم تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، إلا أنه حقق حلم الفلسطينيين بالحصول أخيرًا على دولة تدعى فلسطين.
وفي هذا الإطار، فتح إعلان المبادئ في أيلول/سبتمبر 1993 والاتفاقيات والبروتوكولات المنبثقة منه، أي اتفاقيات أوسلو، الباب أمام عملية سلام تاريخية بدأت مع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في العام 1978 (كامب ديفيد). وأثبت ذلك أن الشعب والحكومات والمجتمع الدولي يرغبون في بناء سلام قابل للاستمرار.
ومع ذلك، حققت اتفاقيات أوسلو الكثير وفتحت الباب للدبلوماسية والحوار. وفي هذا الصدد، تفيد شولاميث هاريفين في كتابها، "لغة السلام" (The Vocabulary of Peace) (1995) أن اتفاقيات أوسلو أحدثت تغييرًا أساسيًا قائلةً: "من الآن فصاعدًا، تغير الوضع التلقائي المتمثل بمعاداة اليهود للعرب ومعاداة العرب لليهود وأصبحت المعادلة بين اليهود والعرب المؤيدين للسلام واليهود والعرب المعارضين للسلام..."
أحدثت أيضًا اتفاقيات أوسلو تغييرًا جوهريًا آخر وهو انقلاب المعادلة المتجسدة بمعادة الفلسطينيين للإسرائيليين ومعادة الإسرائيليين للفلسطينيين، وبات الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين المتشددين الذين يؤمنون بدولة واحدة من النهر إلى البحر وإلغاء الآخر، والإسرائيليين والفلسطينيين المعتدلين الذين يؤيدون مشاركة الأرض من خلال اعتماد حلّ الدولتين أو الكونفدرالية.
ولكن عملية السلام هذه تتخبط منذ أولى أيامها بالأزمات في نفق معتم لا بصيص نور فيه. وأصبحت بالتالي حياة الناس مزيجًا من اليأس والأمل، فتارةَ يشعرون باليأس عندما ترتفع موجات العنف والإرهاب، وتارةَ بالأمل عند تراجعها.
وراح المتطرفون الفلسطينيون يشنّون حربًا على اتفاقيات أوسلو لإخراج قطار السلام عن مساره. لقد نصّ اتفاق أوسلو على البدء بأريحا وقطاع غزة، فشّن المتطرفون حملة مسعورة أعلنوا فيها "أريحا أولًا وآخرًا". إلا أن زخم عملية السلام نجح في التغلب على الشكوك هذه وتعززت عملية السلام بعودة رئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" ياسر عرفات إلى غزة وانتخابه في العام 1996 رئيسًا للسلطة الفلسطينية.
ومع ذلك، لم يثمر الزخم الذى صاحب اتفاقية أوسلو إلا عن نتائج محدودة. وفى هذا السياق، تشمل العناصر التي يجب معاينتها بغرض تقييم عملية أوسلو للسلام، القادة والشعب والقوى الخفية داخل النظام. يأتي القائدان الإسرائيلي والفلسطيني، رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ورئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" ياسر عرفات، من خلفية عسكرية وهما اللذان أطلقا عملية السلام في أوسلو. ولكن للأسف، وجّه اغتيال رابين على يد متعصب يهودي في العام 1995 ضربة قاضية لعملية السلام، وأزال من المشهد السياسي ركنًا متينًا من أركان اتفاق أوسلو ومدافعًا نشطًا عن السلام وترك الطرف الآخر وحيدًا في الساحة.
وعلى مدى العقود الأربعة التي سبقت اتفاق أوسلو، كان ياسر عرفات يرتدي هذا الزيّ العسكري الغريب الصيني الطراز ولم يتخلَّ عنه بعد الاتفاق، إذ عجز عن نزع زيّ المناضل في سبيل الحرية ليرتدي بذّة الدبلوماسي المحنك، كما فعل نيلسون مانديلا.
وتحت ضغط المتطرفين الفلسطينيين، شعر عرفات بأن اتفاقيات أوسلو ما عادت تلبّي طموحاته السياسية التي يرى فيها نفسه صلاح دين عصره، فعاد بالتالي إلى إعاقة السلام بدلًا من صنعه. وبهذه الطريقة فقدت اتفاقيات أوسلو كلا من مهندسيها الرئيسيين، مما أضعف قدرتها على ترجمة الرؤية إلى واقع.
وعلى المستوى الشعبي، كان الفلسطينيون والإسرائيليون جمهورًا متفرجًا يشاهد المسرحية، إذ رغب الشعبان في السلام إلا أنهما لم يستطيعا تأدية دور فعال في تحقيقه. ومع اندلاع أعمال العنف على يد المتطرفين، ساد الرعب وكانت الثقة الضحية الأولى، وملأ الخوف الأجواء وكان السلام من ضحاياه، مما أدى إلى شل ما كان يمكن أن يكون حركة شعبية لتحقيق أهداف الاتفاقات. وفي السياق نفسه، أدت حملة التفجيرات الانتحارية التي شنتها "حماس" ضد المدنيين الإسرائيليين إلى تقويض معسكر السلام الإسرائيلي ودفعت المصوتين الناخبين الإسرائيليين المعتدلين إلى التصويت للأحزاب المتشددة. فسيطرت الأحزاب الإسرائيلية اليمينية المتطرفة على الحكومة الإسرائيلية وعزمت على وقف قطار عملية أوسلو للسلام. وفي الجانب الفلسطيني، بدا أن الوضع الراهن يشجع أصحاب السلطة على البقاء في مناصبهم، وحرمان أولئك الذين يسعون إلى مستقبل أكثر إشراقا من حقوقهم.
علاوة على ذلك، لا تزال هناك دلائل على أن اتفاقات أوسلو تركت أثرها، ففي آب/أغسطس 2020 مهدت اتفاقيات أوسلو الطريق أمام توقيع اتفاقيات إبراهيم التي ضمت إلى عملية السلام خمس دول عربية جديدة بالإضافة إلى مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
وبالنظر إلى إرث الاتفاقيات سنكتشف أن اتفاقيات أوسلو لم تخذلنا، بل الإسرائيليون والفلسطينيون هم الذين خذلوا أوسلو. كيف يمكننا تحقيق السلام في حين لا يتوفر في أي من الجامعات العربية مركز لتعليم فكر السلام وممارسته ودراسته؟ وإذا كانت معظم المنشورات تركز على الصراع لا على بناء السلام؟ وفي حين يعلّم المنهج التربوي الكراهية والعداء والموت بدلًا من الاحتفاء بالحياة والاعتدال والمصالحة؟ وعندما تتم الإشادة بالإرهابيين والمتطرفين وتخوين بناة السلام والمعتدلين؟ علينا تغيير عقليتنا وثقافتنا لتحقيق السلام.
لقد زرعت اتفاقيات أوسلو بذور عملية السلام التي لن تثمر إلا على يد الشعبين، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالحوار الدبلوماسي ومكافحة العنف والتطرف والتطبيع لإنهاء الاحتلال وتحقيق العدالة. أنتجت هذه الاتفاقيات مبادرة سلام جديدة مليئة بالأمل لإنهاء الصراع الذي طال أمده، إلا أن المتطرفين أخرجوا للأسف القطار عن مساره، وباتت إعادته إلى المسار الصحيح في يد المعتدلين. هناك الطيبون والأشرار، ومحبو السلام ودعاة الحرب، والمتطرفون والمعتدلون على جانبي الجدار، وعندما يتحد المعتدلون ستتفتح أزهار السلام.