- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كيف ضاقت دول الخليج ذرعًا بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الذي لا ينتهي
لطالما عبّر الأفراد والجماعات في دول الخليج العربي – ولا سيما السعودية والإمارات والبحرين وحتى الكويت – عن اهتمامهم بإسرائيل وخيبة أملهم فى القيادة الفلسطينية خلال السنوات القليلة الماضية. وتعكس هذه التصريحات نفاد صبر هذه الدول بشكل متزايد من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي القائم منذ فترة طويلة، إلى جانب تحميل الجانب الفلسطيني والإسرائيلي على السواء مسؤولية استمرار هذا الصراع. وبالفعل، يتنامى السخط في أوساط العرب الخليجيين بسبب ما يصفونه "عدم استجابة" فلسطينية لدعواتهم إلى مرونة أكبر في المفاوضات مع إسرائيل منذ توقيع "اتفاقات أوسلو" الأساسية عام 1993. تعكس صفقة التطبيع الجديدة بين الإمارات وإسرائيل بشكل صارخ هذه التحولات في المواقف. الآن ، وفى حين يتطلع المراقبون لمعرفة ما إذا كانت دول الخليج الأخرى ستحذو حذو الامارات، يتوجب عليهم أولا فهم أن دول الخليج ليست مجموعة متجانسة ، وكل دولة ستضع حساباتها الخاصة وتقرر ما إذا كانت وفي أي ظروف وبأي وتيرة ستقوم على أساسها بتخسين علاقاتها مع الدولة اليهودية.
وتتجسد سردية جديدة في أوساط بعض الدول الخليجية بشأن الصراع بحوار من المسلسل التلفزيوني الكوميدي "مخرج 7"، الذي عُرض هذا العام خلال شهر رمضان على شبكة "أم بي سي" الرائجة التي يقع مقرها في دبي. وكان "مخرج 7" واحد من عدة برامج رمضانية سعودية بُثت على نطاق واسع هذا العام وتتناول تاريخ اليهود في الشرق الأوسط وحتى "تطبيع" العلاقات مع إسرائيل، وكان هذا الموضوع على وجه التحديد الذي حصد وبشكل مبرر درجة كبيرة من الاهتمام.
وسخر "مخرج 7" بشكل ملحوظ من مواقف العرب إزاء إسرائيل، وضمّ مشهدًا حيث تثور إحدى الشخصيات غضبًا قائلةً: "العدو الحقيقي، أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، هو الذي لا يقدّر دعمك له ووقوفك إلى جانبه، ويشتمك بدلًا من ذلك ليلًا نهارًا. لقد خضنا حروبًا من أجل فلسطين، وحظرنا نفطنا كُرمةً لفلسطين، ونحن ندفع أجور ونفقات "السلطة الفلسطينية" بينما نحن بحاجة الآن إلى تلك الأموال ... ومع ذلك في النهاية، يغتنمون كل فرصة متاحة لمهاجمة السعودية". لا شكّ في أن إسرائيل أخذت علمًا بهذا النوع من الرسائل الشعبية، لكن من المهم أن نفهم السبب وراء هذا السخط، وما الذي تسعى إليه السعودية والإمارات وتتوقعانه من العلاقات مع إسرائيل.
ويعكس هذا المقطع من "مخرج 7" وجهة نظر في الجدال المستمر القائم بين الخليجيين والفلسطينيين حيال التطبيع مع إسرائيل. وكانت ازدادت حدة الجدال في الآونة الأخيرة، أولًا على خلفية خطة ترامب للسلام والآن على ضوء الخطوات الأحادية بشأن عملية الضمّ التي تسعى إسرائيل علنًا إلى تطبيقها. ويمثل هذا البرنامج بدقة الكثير من الأصوات العربية الخليجية التي اتهمت مؤخرًا الفلسطينيين بما وصفته "نكرانًا للجميل" بعد القدر الهائل من الدعم المالي والسياسي الذي قدمته الدول الخليجية إلى الفلسطينيين خلال فترة الصراع.
كما يجسّد هذا التعبير العلني سخطًا "منتشرًا" بدأت تتكشف معالمه في المقام الأول في أوساط النخب الحاكمة وأصبح منتشرًا الآن بين المؤثرين تحت قيادتها. في هذا السياق، اتهم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عند لقائه قادة المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة عام 2018، بشكل علني القيادة الفلسطينية بـ"عدم تفويتها أي فرصة لتفويت فرصة" إبرام سلام مع إسرائيل. وكان ولي العهد قد استقبل أيضًا الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال تشرين الثاني/نوفمبر 2017 قبل إطلاق خطة ترامب للسلام. وفي اللقاء، مارس من دون شك ضغوطًا غير دبلوماسية على عباس – بما في ذلك تهديدات صريحةً حسبما تردد – من أجل القبول بالخطة، رغم أن مساعيه باءت بالفشل.
فضلًا عن ذلك، وفي حين تلتزم دول مجلس التعاون الخليجي معًا وإلى حدّ ما بالقضية الفلسطينية، غالبًا من خلال مساعدة مالية كبيرة، فإن المصالح المتباينة لهذه الدول تدفع بعمليات المساعدة التي تقدّمها في اتجاهات مختلفة. كما يُسفر الانقسام الفلسطيني الداخلي بين "حماس" في غزة و"السلطة الفلسطينية" في الضفة الغربية عن اختلافات في الرأي في الخليج أيضًا.
وعلى الرغم من ميولها التقليدي إلى إظهار التضامن مع التطلعات الوطنية الفلسطينية واستجابتها لأصوات الشعوب العربية، تُظهر دول مجلس التعاون الخليجي – مع الاستثناء الواضح والصريح لدولة قطر – عمومًا موقفًا عدائيًا تجاه "حماس". ويعود السبب في ذلك إلى تصنيف الحركة نفسها بأنها جزء من جماعة "الإخوان المسلمين"، المحرمة في كل من السعودية والإمارات. ولا تساهم روابط "حماس" بإيران سوى في تكثيف المخاوف إزاء الحركة وتقويض نفوذ "السلطة الفلسطينية".
ربما كان الانقسام بين الامارات والسلطة الفلسطينية هو الأكثر وضوحا ، حتى قبل اتفاق التطبيع المعلن وإقالة أبو مازن للمبعوث الفلسطيني إلى الإمارات. في الموازاة، كانت الإمارات تهيئ لسنوات محمد دحلان، أحد منافسي رئيس "السلطة الفلسطينية" محمود عباس الذي يرأس ما يسمى بـ"الحركة الإصلاحية" ضمن حركة "فتح". ويُظهر الدعم المقدم إلى دحلان ضمنيًا عدم رضا الإمارات عن مساعدة قطر لحركة "حماس" كي تملأ الفراغ الذي خلفته السعودية وسياسات عباس على حدّ سواء- ولا سيما عدم استعداده لتحضير الساحة الفلسطينية "لما بعد" رحيله عنها. غير أنه من خلال قيامها بذلك، خسرت الإمارات الكثير من نفوذها في الساحة الفلسطينية، داعمةً دحلان كمنافس لكل من "فتح" في الضفة الغربية و"حماس" في غزة.
وفي عهد محمد بن سلمان، اشتدت بشكل خاص حدة موقف السعودية تجاه "الإخوان المسلمين" و"حماس"، الذي كان في الماضي براغماتيًا إلى حدّ ما. فمنذ وصوله إلى الساحة السياسية السعودية، حظّرت المملكة الجماعة واعتقلت أعدادًا كبيرة من عملاء "حماس" على الأراضي السعودية في العام 2019، وتتمّ محاكمتهم لكونهم "أعضاء وممولي منظمة إرهابية". لقد دخلت قطر ، بثروتها الكبيرة وعلاقاتها الوثيقة بالحركات الإسلامية الإقليمية، في هذا الفراغ، فعلى مدى سنوات ، مولت قطر الكفاف اليومي لسكان غزة ، مما عزز اعتمادهم على هذا الدعم وربما على الدعم الإسرائيلي أيضًا ، والذي يعتمد على هذا التدفق النقدي كوسيلة مؤقتة لتهدئة الوضع في غزة. ومع معاناة السلطة الفلسطينية أيضًا من الناحية المالية، بدأت قطر في التقارب مؤخرًا من السلطة الفلسطينية في محاولة لتصبح جسرًا بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ويرافق هذا الاستياء من القيادة الفلسطينية بعيدًا عن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، اهتمامًا كبيرًا في الخليج بفتح أسواق جديدة وتوسعة نفوذ الدول الخليجية والتمتع بشرعية أوسع نطاقًا من خلال الاستفادة من ثرواتها الطائلة. فبالنسبة للسعودية والإمارات، تُعتبر إسرائيل إحدى الوسائل لتعزيز هذا النفوذ الدولي.
يُذكر أن "اتفاقات أوسلو" قد بعثت في ما مضى آمالًا كبيرة في نفوس بعض دول الخليج العربي باعتبارها الفرصة لتحويل هذه الروابط إلى واقع. وسارعت تلك الدول إلى السماح بفتح مفوضيات إسرائيلية رسمية وتوقيع اتفاقات تجارية مع شركات إسرائيلية. ورغم توقف عملية أوسلو، إلا أنها تمتزج مع تهديدات ملموسة أطلقتها إيران خلال السنوات الأخيرة لتعزز النظرة إلى إسرائيل في بعض أنحاء الخليج، وبخاصةٍ نظرًا إلى اعتبار إسرائيل حليفة أمريكا "المميزة". فبالنسبة لتلك الدول، تُعتبر إيران مبعث القلق الملح وأنه من شأن إنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني أن يسمح للمنطقة بالتركيز على هذا التهديد الآخر المرتبط بالأراضي. كما ظهرت علامات التطبيع الملموسة في ذولة البحرين ، حيث كان تطبيع الإمارات هو الأكثر علانية ولكن لا يقود بأي حال من الأحوال الى االتحرك نحو بناء علاقات صريحة مع إسرائيل.
وتساعد هاتان الديناميكيتان: الاستياء من القيادة الفلسطينية والاهتمام بإمكانات إسرائيل، على شرح استجابة السعودية والإمارات الإيجابية إلى حدّ كبير لخطة ترامب للسلام التي أعلن عنها في كانون الثاني/يناير 2020. فقد أعربت الحكومتان عن دعمهما لمبدأ الخطة حتى رغم إبدائهما تحفظات حيال محتواها. وتمثلت أولويتهما الاستراتيجية في إظهار موقف متعاطف إزاء إدارة ترامب وفي الوقت نفسه إيلاء أهمية كبيرة لاستئناف محادثات السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل. وقد عكست هذه المقاربة المزدوجة مدى تشابك مصالح دول الخليج العربي إلى جانب اهتمام واضح بإعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات.
ومع ذلك ، وفي محاولة تحديد ما إذا كانت الدول الأخرى ستتبع في أعقاب إعلان الإمارات ،نجد ان حساسية تلك الدول إزاء الانتقاد الشعبي العربي والإسلامي حيال أي انحراف عن توفير الدعم الكامل للقضية الفلسطينية تعقّد هذه الرسائل؛ علمًا بأن التنسيق الوطيد بين إدارة ترامب والسعوديين والإماراتيين كان أساسًا موضوع شك وقلق فلسطيني عميقين، وبخاصةٍ بعد الاحتجاجات السعودية والإماراتية الخافتة ضد نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس. وفعليًا، ساهمت معارضة العرب الكبيرة لخطة ترامب فور إعلانها، بقيادة رفض عباس القاطع لها، بإسكات مؤيدي الخطة في الخليج بعد تصريحاتهم المتحفظة في بادئ الأمر.
وتسلّط هذه الديناميكية الضوء على واقع مهم للصراع: تحتفظ القيادة الفلسطينية – بغض النظر عن تراجع أهمية قضيتها في الأجندتين الدولية والعربية – بمفتاح شرعنة التطبيع مع إسرائيل الذي ترغب به دول الخليج العربي. وبالتالي، تعتبر القيادة الفلسطينية أي خطوة باتجاه التطبيع بمثابة خيانة واعتداء على السردية الفلسطينية. وهي تُضعف موقف الفلسطينيين وتعزّز اختلال ميزان القوى الذي يميل أساسًا لصالح إسرائيل.
على هذا النحو ، من المرجح أن تستمر الدول الأخرى في البحث عن حل سياسي للصراع قبل أن تحذو حذو الإمارات. وبالتالي، تدعم السعودية والإمارات مواقف الفلسطينيين في مسائل أساسية رغم أنهما تتوقعان منهم إظهار مرونة أكبر على طاولة المفاوضات. وفي الوقت نفسه، عارضت هاتان الدولتان الخليجيتان بأشدّ العبارات خطوات الضمّ التي تخطط إسرائيل للقيام بها في غور الأردن والضفة الغربية. وقد رفضتا هذه الخطوات باعتبارها أحادية وتتعارض مع المطالب الفلسطينية والقانون الدولي على السواء. كذلك، شدّدت وزارتا الخارجية في الرياض وأبوظبي على دعمهما المستمر لقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل تكون القدس الشرقية عاصمتها.
يواجه الفلسطينيون الآن أحد أكبر التحديات حيث يجب عليهم البحث عن سبل جديدة لمنع المزيد من التآكل في موقف العالم العربي تجاه القضية الفلسطينية ، وخاصة في كيفية إقناع القادة العرب الآخرين ، وخاصة دول الخليج ، بعدم اتباع خطوات الإمارات وتطبيع العلاقات مع إسرائيل.