- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كيف ستشكل الاحتجاجات الانتخابات الرئاسية الجزائرية
في 10 شباط/فبراير، أعلن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة رسميًا أنه سيسعى إلى الترشّح من جديد للرئاسة خلال الانتخابات المقبلة التي من المزمع أن تجري في 18 نيسان/أبريل. ويحكم بوتفليقة البلاد منذ عام 1999 على الرغم من تنامي القلق حيال صحته بعدما تعرّض لجلطة دماغية في عام 2013 حدّت بشكل كبير من ظهوره إلى العلن. فمن جهة، لم يمثّل إعلان ترشّحه تطورًا مفاجئًا بالنسبة لمؤيديه ودائرته المقربة نظرًا إلى الحملة التي أُطلقت منذ أشهر لحضّ بوتفليقة على الترشح لولاية جديدة، لا سيما من الأحزاب الثلاثة التي يتشكّل منها التحالف الرئاسي في الجزائر. ومن جهة أخرى، رفضت المعارضة على نطاق واسع ترشّح بوتفليقة، معبّرةً عن قلقها من أن ولايةً خامسة مبالغ فيها أو تطرح حتى تهديدًا وجوديًا على الدولة الجزائرية.
وفي كِلا الحالتين، يمثّل إعلان الترشّح حدثُا مهمًا على الساحة السياسية الجزائرية التي عانت حتى فترة ليست ببعيدة ركودًا وغموضًا أججتهما الشائعات التي سبقت هذا الإعلان بشأن إرجاء الانتخابات الرئاسية المقبلة. واليوم، إنّ إصرار النظام السياسي على تأييد بوتفليقة لولاية خامسة والرفض المتزايد لهذا الترشّح من أطراف أشمل من المجتمع الجزائري قد دفعا بالجزائريين العاديين إلى النزول إلى الشارع، ما يشير إلى أن تغييرًا سياسيًا فعليًا ربما يلوح في الأفق.
بوتفليقة: المرشح "التوافقي"
من أجل معرفة الأسباب الكامنة وراء الاحتجاجات الحالية، من المهم فهم الظروف التي وصل بموجبها بوتفليقة إلى الحكم في المقام الأول، وكيف أن رئاسته التي دامت لعقود من الزمن حدّدت منذ ذلك الحين معالم السياسة الجزائرية. فمنذ استلامه دفة الحكم في عام 1999 وسط اضطرابات سياسية حادة وحرب أهلية، لطالما اعتُبر عبد العزيز بوتفليقة رجل التوافق السياسي. فخلال ولايته الأولى، نجح في الحفاظ على التوازن بين مختلف أصحاب النفوذ في الجزائر – أي الجيش والرئاسة والإسلاميون ومجتمع الأعمال. وقد سمحت له هذه القدرة أيضًا باكتساب دعم واسع النطاق نسبيًا من المجتمع الجزائري، لا سيما وسط انتهاء الحرب الأهلية التي أودت بحياة نحو 200 ألف شخص في عهده.
وعليه، وبالنسبة إلى عدد كبير من الجزائريين غير المسيّسين، عُرف بوتفليقة في الأساس بأنه الرجل الذي أعاد السلام إلى بلدهم المدمّر والذي ترأس عملية إعادة إعمار وإعادة تأهيل ضخمة. ويمكن القول إن ولاية بوتفليقة الأولى لم تتسبب بالكثير من الجدل إذ مثّل الرجل حينها شخصيةً شبه "إلهية"، شخصية مخلّص الجزائر.
وفي حين بدأ بوتفليقة يواجه معارضةً عندما بانت نواياه في البقاء في السلطة خلال نهاية ولايته الأولى، بقيت تلك المعارضة ضعيفةً إلى حدّ كبير إلى حين صدور قراره بتعديل الدستور في عام 2008 من أجل السماح له بالترشّح لولاية ثالثة عام 2009. وبالنسبة للكثيرين، شكّلت هذه الخطوة المفاجئة انتهاكًا صارخًا للمعايير الدستورية، غير أن رئاسته استمرت لولاية رابعة من خمس سنوات. وعلى الرغم من أن العديد من الشخصيات السياسية البارزة في المعارضة قد رفضت التعديل الدستوري، إلا أن غياب التعبئة الجدية والوعي السياسي داخل المجتمع الجزائري، بالإضافة إلى الحالة الصحية الجيدة نسبيا لبوتفليقة حينذاك، أدى إلى ردود فعل شعبية ضعيفة لهذا التعديل.
علاوةً على ذلك، اعتبرت شريحة كبيرة من الجزائريين أن بوتفليقة لا يصلح لتولّي سدّة الرئاسة بعد الجلطة الدماغية التي أصابته في عام 2013. وبالتالي، أطلقت ولايته الرابعة المثيرة للجدل إلى حدّ كبير انتقادات من المعارضة الرسمية ومختلف الجهات المدنية الفاعلة الجزائرية، بمن فيها الناشطون والمدافعون عن حقوق الإنسان والصحافيون، وحتى قسم كبير من الجزائريين غير المسيّسين.
ورغم هذه المعارضة المتنامية لحكم بوتفليقة، قرّر الترشّح لولاية جديدة. وفي حين فاجأ قراره بالترشّح لولاية رابعة بعد تعرضه لجلطة دماغية العديد من الجزائريين وأثار موجةً كبيرةً من الجدل، يشكّل مسعاه للترشّح لولاية خامسة صدمةً أكبر حتى ويزيد الأمور تعقيدًا. عملياً، الرئيس اليوم غائب عن المشهد السياسي للجزائر، والجزائريون لا يريدون أن يمثلهم شخص غائب.
ولم يقتصر رفض ترشح بوتفليقة لولاية خامسة على المعارضة فحسب، بل امتد ليشمل أيضًا أعداد كبيرة من الجزائريين الذين لم يتوقعوا ترشّحه، خصوصًا في ظلً وضعه الصحي المتدهور.
غير أن هذا المسعى لولاية خامسة قد أوضح أمرًا واحدًا: النظام السياسي الجزائري الحالي عاجز عن التوصل إلى بديل أو حتى تجديد طبقته من النخبة. فواقع أن التحالف الرئاسي كان يسعى لولاية خامسة منذ عدة أشهر يثبت أن بوتفليقة هو الخيار الصالح الوحيد للنظام من أجل الحفاظ على ما تبقى من الإجماع السياسي الذي سمح في المقام الأول لبوتفليقة بتولي السلطة.
معارضة منقسمة وغير منظمة وغير مجدية
اتخذت المعارضة الجزائرية، التي كانت ممثَّلة رسميًا من عدد كبير من الأحزاب السياسية والمعارضين المستقلين، موقفًا متشددًا إزاء احتمال ترشّح بوتفليقة لولاية خامسة حتى قبل الإعلان عن ذلك رسميًا. غير أنها لم تتمكن من إيجاد أرضية مشتركة من شأنها أن تسمح لهذه الأطراف المتباينة بتشكيل جبهة موحّدة في وجه النظام السياسي الحالي.
وخلال ولاية بوتفليقة الرابعة، التي اتسمت بظهورات علنية نادرة، لم تنجح المعارضة في التوصّل إلى إعداد خارطة طريق واضحة للمستقبل رغم بعض الاجتماعات التي هدفت إلى جمع مختلف أطيافها للمشاركة في محادثات ما بين الأطراف. وبقيت المعارضة الجزائرية منقسمةً حول الخطوط الإيديولوجية، وهو انقسام عمّقه خلافها على كيفية التعامل مع الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وفي حين تخطط بعض أحزاب المعارضة – على غرار "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" (RCD) و"جبهة القوى الاشتراكية" (FFS) و"جيل جديد" الحديث نسبيًا – لمقاطعة الانتخابات المقبلة، قررت أحزاب أخرى وشخصيات مستقلة على غرار "حركة مجتمع السلم" الإسلامية المشاركة. وقد قوّض هذا الانقسام في وجهات النظر في أوساط المعارضة حول انتخابات نيسان/أبريل كافة الجهود الرامية إلى تسمية مرشح مشترك للانتخابات وتسبّب بشرذمة ما تبقى من هذه المعارضة الرسمية.
ومن ناحية أخرى، أعلن زعيم المعارضة على غديري عن عزمه في الترشح، لكن من غير المحتمل أن يتمكن من جمع الدعم الكافي كشخصية جديدة في "القيادة التوافقية". كما أن غديري لا يتمتع بالدعم داخل المؤسسة العسكرية -وقد ظهر ذلك جليا في البيان الأخير الذي أطلقه رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي قايد صالح والذي انتقد فيه المرشح غديري. وإذا كانت النخبة السياسية ستقدم مرشحا بديلا، فستكون على الأرجح شخصية أكثر قبولا مثل علي بن فليس، رئيس الحكومة السابق، أو رامتان لامامرا، وزير الخارجية السابق والمستشار الحالي للرئيس.
وقد منعت هذه الهشاشة والخلاف أي حزب رسمي أو شخصيات معارضة فردية معروفة من توفير أي بديل للنظام الذي ترفضه. ويعتبر الناخبون الجزائريون أن هذه الأحزاب والشخصيات ما هي إلا "معارضة مزيفة" منفصلة عن الشعب، وبالتالي فهي غير قادرة على تعبئة الجماهير. ولا شكّ في أن انعدام القدرة هذا على التحرك يُعزى عمومًا إلى افتقار المعارضة إلى استراتيجية أو برنامج واضح تقدمه إلى شعب غير راضٍ أساسًا. كذلك، فقد قادة المعارضة الرسمية ثقة جزء كبير من الشعب الجزائري، ما قوّض بشكل إضافي قدرتهم على أن يكونوا بديلًا فعالًا في السلطة.
وحتى على ضوء التحرك السياسي الراهن في الجزائر، استمر الانقسام وغياب التنظيم في صفوف المعارضة، ما جعلها عاملًا غير مجدٍ في المشهد السياسي الجزائري. ويلغي هذا الواقع بشكل كبير الدور الذي يجدر بها الاضطلاع به في أي مرحلة انتقالية محتملة بعيدًا عن ولاية خامسة لبوتفليقة.
الاحتجاجات: الاستراتيجية الجديدة "القديمة"
بين عدم رضا الجزائريين عن تولي بوتفليقة ولايةً خامسة وعجز المعارضة عن حشد الشرائح الساخطة من الشعب، يبدو أن الجزائريين اختاروا الاحتجاجات الشعبية بشكل مستقل عن قيادة المعارضة الرسمية كاستراتيجية جديدة. وفي 22 شباط/فبراير، وللمرة الأولى منذ عقود، نزلت أعداد ضخمة من الجزائريين إلى الشارع للتعبير عن سخطها إزاء الوضع السياسي الراهن ورفضها تولي الرئيس ولايةً خامسة. وفي حين غصت عدة مدن جزائرية بآلاف المحتجين، أظهر الجزائريون أن الكيل قد طفح بهم ولم يعودوا قادرين على التزام الصمت كما فعلوا في السنوات السابقة.
ومع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الشارع الجزائري لم يشهد مثل هذه الحركة السياسية منذ فترة طويلة، إلا أن تلك الاحتجاجات تمثل لحظة مهمة في التاريخ السياسي الحديث للجزائر. وفي حين كان هناك عدد من الاحتجاجات التي شهدتها الجزائر في السنوات الأخيرة، إلا أن الاحتجاجات الحالية كانت شديدة المحلية. علاوة على ذلك، فإن القمع السياسي لهذه الاحتجاجات السابقة جعلها ضعيفة وغير فعالة.
ما نشهده اليوم مختلف للغاية، حيث أن الاحتجاجات الحالية تدعو إلى التغيير السياسي بدلاً من معالجة القضايا المحلية. ومن اللافت للنظر أن الاحتجاجات ضد ترشح بوتفليقة ضخمة ومتزامنة ومتنوعة جغرافياً. وبهذا المعنى، يعود الشارع كأداة سياسية.
وفضلًا عن مشاعر السعادة والفخر العابرة التي تعتري الجزائريين حيال التحركات الشعبية التي عكستها وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن استنتاج عدد من الملاحظات النظرية والعملية من هذه الاحتجاجات.
أولًا، تشكّل هذه الاحتجاجات الحاشدة تحولًا مهمًا في المجتمع والمشهد السياسي في الجزائر؛ فهي تثبت أن ولايةً خامسة لبوتفليقة بعيدة كل البعد عن كونها خيارًا "توافقيًا" في البلاد. فاستعداد الشعب للتعبير عن رفضه للوضع القائم بشكل علني بدلًا من الحفاظ على الوضع "الاستسلامي" الذي طبع الانتخابات السابقة يثير جدلًا واسع النطاق.
ثانيًا، لا تملك هذه الاحتجاجات أي غطاء سياسي رسمي أو مصدر معروف، بل هي نتاج أثر وسائل التواصل الاجتماعي التي تمكّنت من حشد أولئك الذين شعروا بأن النظام يهمشهم وبأن المعارضة تخلت عنهم.
أخيرًا وليس آخرًا، لجأ الجزائريون من جديد إلى الاحتجاجات في الشارع – وهي أداة كانت لفترة ليست ببعيدة خاضعةً لسيطرة النظام السياسي – كوسيلة أساسية للتعبير. وبعد الابتعاد عنها بشكل كامل منذ عقود منذ أحداث الشغب التي اندلعت في أكتوبر 1988 ،فالشارع الجزائري يمثّل اليوم أحد أهم العوامل لأي تغيير محتمل في الجزائر.
النتائج المحتملة
يبدو أن الوضع في الجزائر يتحول بسرعة إلى اضطراب سياسي كبير في ظل تنامي الضغوطات على النظام السياسي. وقد تحول رفض تولي بوتفليقة ولاية خامسة إلى مطلب شعبي يوحّد العديد من الجزائريين من مختلف الإيديولوجيات والأطياف.
غير أن نتيجة هذه الاحتجاجات وقدرتها على توليد تحوّل ملحوظ في السلطة تعتمدان على عاملين مهمين. أولًا، تُعتبر قدرة الحشود المحتجة على الحفاظ على هذه الموجة القوية من التظاهرات المنظمة وفق نمط واضح ومن خلال أطر سياسية عملية أساسيةً لإحداث تغيير سياسي فعلي. ثانيًا، إن أي تحوّل في السلطة يعتمد بشكل كبير على ما إذا كانت الأجهزة العسكرية في الجزائر ستدعم بوتفليقة صراحةً في وجه هذه الحشود أو ستتخذ موقفًا حياديًا، ما سيقوي فعليًا هذه الاحتجاجات، أو حتى ستعتمد موقفًا داعمًا للتغيير من خلال انقلاب ناعم.
في النهاية، من الواضح أن "نظام بوتفليقة" يكافح للبقاء في السلطة. فهذا الرفض الذي عبّر عنه الشعب مؤخرًا هو نتيجة سخط كامن منذ فترة طويلة أصبح أخيرًا حيًا وصريحًا. ولا يمكن لأحد أن يتوقع بالكامل ما سيؤول إليه هذا التحرك السياسي نظرًا إلى عدد العوامل الرئيسية التي لا تزال مجهولة. مع ذلك، ثمة عبرة مهمة يمكن استخلاصها من الآن من الاحتجاجات: يواجه النظام الجزائري جيلًا جديدًا لم يعش الحرب الأهلية وخضع لحكم رجل واحد منذ نحو عشرين عامًا، وهو يرفض الوضع القائم.
وهذا الجيل قادر على كسر الحواجز السياسية السابقة من دون تردد، إذ يشعر أن ليس لديه ما يخشاه. وفي ظل الدعوات إلى المزيد من الاحتجاجات وغيرها من أشكال التحركات السياسية، بما في ذلك العصيان المدني، يمكن للوضع السياسي أن يتطوّر بسرعة وقد يخرج حتى عن السيطرة في ظل الانقسامات المحتملة داخل مؤسسات الدولة. وبالنسبة لأولئك الذين في السلطة، لن يفضي تحدي هذا السخط الشعبي سوى إلى تصعيد خطير لا يمكن لأحد تحمّل عقباه.