- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كيف يستطيع السودان أن يستعيد شتاته
نجحت الروح الثورية السودانية في الإطاحة بدكتاتور البلد وفي تحقيق أحد تطلعات الشعب السوداني المتمثّل في رؤية بلدهم يتحرر من أكثر الأنظمة الاستبدادية والدموية في التاريخ السوداني. ويستعد الشعب السوداني الآن للدفع باتجاه مجموعة من الأهداف والغايات الطموحة إنما القابلة للتحقيق. وستتطلب هذه الأهداف جهودًا حثيثة، تكون عاطفية وفكرية، وتبذلها مجموعة من الأشخاص الوطنيين من أجل تنفيذ التغيير اللازم للسودان حتى يظهر مجددًا كبلدٍ ناجح.
غير أن الحكومة الجديدة في السودان، أو السودان نفسه، يمكن أن يزيد فرصه في تحقيق تغييرات سياسية واقتصادية وديمقراطية طالما كانت منتظَرة، من خلال استخدام موردٍ فريدٍ لم يسبق أن تم استغلاله. فبموازاة السعي إلى الحصول على التوجيه والعون الدولييْن، يجب أن تعمل الحكومة السودانية أيضًا على تشجيع عودة الشتات السوداني الكبير، مع التركيز خاصةً على الشباب السوداني المثقَّف جدًّا الذي يستطيع استخدام مهاراته المكتسبة في الخارج من أجل المساهمة في بناء بلد سوداني جديد تترسخ فيه الديمقراطية الناجحة والمزدهرة.
في خلال ثلاثين عامًا مضى على الحُكم الدكتاتوري الذي مارسه عمر البشير، أُجبر ملايين السودانيين على مغادرة البلاد والاستقرار سواء في البلدان المجاورة أو في أماكن بعيدة في أمريكا الشمالية وأوروبا. ويمثّل هؤلاء الملايين من السودانيين الذين يعيشون في الشتات الآن رأسمالٍ بشريٍّ محتملٍ كبيرٍ للسودان، لا سيما نظرًا إلى الوطنية والمعرفة والخبرة والثروة الفكرية والشبكات التي يتمتع هذا الشتات بإمكانية إعادتها إلى البلد. فإذا أُعطي التكنوقراطيون السودانيون الشباب الذين يعيشون في الخارج، أو أولئك الذين يستوفون معايير مشابهة ويتمتعون بالنزاهة نفسها من داخل السودان، فرصةً لخدمة شعبهم وبلدهم، سيستفيد البلد إلى حدٍّ كبير من تدفق المواهب الشابّة. لذلك يجب أن تقوم الحكومة بكل ما في وسعها ضمن صلاحياتها من أجل جذب هؤلاء التكنوقراطيين الشباب للعودة والمشاركة في إعادة بناء البلد.
يدرك أيضًا ذلك الشعب السوداني الذي احتجّ – وبقي في السودان – الفرص الضائعة التي اتّسم بها التاريخ الحديث في بلده المتنوع. كما أنه يعي عمليات الاحتكار المتعمَّدة التي طبعت الاقتصاد في البلد، فضلًا عن السلوك السياسي والاقتصادي غير المنطقي المتَّبَع في النظام الحالي إزاء هذه الموارد.
قد يعود السودانيون الشباب المتواجدون في الشتات على الأرجح نظرًا إلى الدور الذي أدّاه الشباب السوداني حتى الآن في الثورة. فكانت الانتفاضة بمعظمها حركة جماعية دفع إليها الشباب، وهي تمثّل انتفاضة سياسية شاملة بشكلٍ غير مسبوق في السودان. وحتى الآن، يشير ما تلا الإطاحة بالنظام عبر الوسائل السلمية إلى أنه ليس من المستبعد أن يتحقق أمل الشتات السوداني في أن تكون الخطوات السياسية والقانونية والإدارية الشرعية المتَّخَذة في الحكومة الانتقالية خاضعة لتوجيه سيادة القانون ويقودها في النهاية التمثيل المنتخَب ديمقراطيًّا. فترفض شعارات الانتفاضة بشكلٍ واضح كافة أشكال القمع وسياسات السياسة الفاسدة.
إلّا أن الشتات السوداني في بعض البلدان يحظى بميزة المشاركة في الاقتصادات الأكثر فعالية والمزيد من الحريات السياسية. إلى ذلك، يمثّل السودانيون الشباب سواء داخل البلد أو خارجه جيلًا جديدًا من المواطنين الذين يَعون تطوّر القواعد القانونية الدولية التي تشدد على رفض أشكال المعاناة البشرية وسوء المعاملة التي ميّزت السلوك السياسي والاقتصادي الخاص بالنظام القائم حاليًّا في السودان.
يعكس تسليط الضوء على الرأسمال البشري واقع أن الأسباب الجذرية لصراعات السودان هي حتمًا من صنع البشر. فلا يعاني السودان من نقص الموارد، بل بالأحرى من نقص الإدارة الفعّالة. لكن لتقديم حجّة مقنعة تثبت أن زمن سوء الإدارة قد ولّى، على السودان أن يعالج بشكلٍ طارئ الأسباب الجذرية الكامنة خلف أزمته السياسية والاجتماعية-الاقتصادية والداخلية الراهنة. ويجب أن يشكّل الاستقرار السياسي في البلد الأولوية في خلال الحكومة الانتقالية، وأن يكرر السودان بشكلٍ خاص التزامه بتحقيق استمرارية الدولة وسيادتها واعترافه الكامل بحقوق الإنسان. كما يجب أن يؤكّد مجددًا على أن جميع المواطنين متساوون تحت القانون بغض النظر عن خلفيّتهم الاجتماعية أو دينهم أو إثنيّتهم أو عرقهم أو انتمائهم السياسي. وسيشعر السودانيون الشباب المتواجدون داخل البلد وخارجه على حدٍّ سواء بالأمل عند تعيين "وكالة استرداد الأصول" التي تُعنى بالتحقيق السريع في الأفعال الجنائية وبتنفيذ إجراءات من أجل توفير ضمانات للموارد والأموال العامة إزاء كافة الممارسات السيئة واسترداد الأصول والأموال والممتلكات السودانية المأخوذة تحت حُكم البشير.
يجب أن تُصدر هذه الوكالة أوامر بمصادرة الأصول والأموال والممتلكات المسترَدّة في السودان أو الخارج من كافة الأشخاص والوكالات والمؤسسات والشركات العامة والخاصة في آن، التي استفادت بشكلٍ غير قانوني أو غير شرعي من الاستخدام المخطط له مسبقًا للأموال أو الموارد أو الخدمات الماليّة. ويمكن أن تُشرف هذه الوكالة أيضًا على الجرائم المتعلقة بتبييض الأموال والإتجار بالبشر وتهريب الأسلحة والمخدرات. وفي ما يخص هذه المسائل الأخيرة، يمكن أن تستفيد الحكومة السودانية الجديدة كثيرًا من العمل مع المجتمع الدولي بهدف التصدي لها، لا سيما إذا استطاعت الحكومة السودانية إعادة الاندماج في الجهود الدولية الرامية إلى محاربة الإرهاب والإتجار بالبشر والتهريب غير الشرعي للأسلحة والحفاظ على السلام والأمن الإقليمييْن.
ما يمكن أن يجذب عودة السودانيين أيضًا هي قدرة الحكومة الجديدة على تسهيل الحوار المنفتح والقوي والشامل بين التكنوقراطيين السودانيين أكانوا متواجدين خارج السودان أو داخله. ويجب أن يشدد هذا الحوار على الحلول المبتكَرة محليًا من أجل تجاوز العراقيل الاجتماعية-الاقتصادية والعوائق السياسية التي يسعى السودان إلى تخطّيها.
الطريق التي يجب أن يسلكها السودان واضحة: فلا بد من تحقيق تغيير ملموس وجدّي في ما يتعلق بالمسائل الأساسية في المجتمع السوداني مثل انعدام الأمن الاقتصادي السوداني – ابتداءً من نقص الأغذية والغاز إلى الارتفاع الشديد في الأسعار – وفي الوقت نفسه تعزيز ثقافة المساواة الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان، وحرية التعبير. إلى ذلك، يجب أن تضمن الحكومة توافر الوظائف للشباب السوداني، من بينهم أولئك الذين يسعون إلى العودة إلى بلدهم الأم، وهو أمرٌ مهمٌّ جدًّا يضمن جودة العيش للجيل المقبل. فستكون أي خطوة حول هذه المسألة بشكلٍ خاص حيوية من أجل إثبات حدوث التغيير في البلد للشباب السوداني.