- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
لا تدعوا النظام الإيراني يكسب قلوب وعقول الغزاويين
ينبغي على الولايات المتحدة مواجهة نفوذ إيران القائم على القوة الناعمة في غزة عند التعامل مع القضايا الإسرائيلية الفلسطينية.
صحيح أن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة "حماس" قد أصبح ساري المفعول وصحيح أن هذه المرحلة العسكرية من الصراع أشرفت على نهايتها، لكن المعركة على كسب القلوب والعقول في غزة مستمرة. وفي حين أن العديد من القادة الدوليين كانوا يدعون إلى تخفيف التصعيد خلال فترة الصراع، كان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي، يحض حركة "حماس" على زيادة حدتها. وقد صرّح في 11 أيار/مايو بعد إطلاق "حماس" موجة جديدة من الصواريخ التي هي بجزء كبير منها إيرانية الصنع ضد إسرائيل قائلًا: "الصهاينة لا يفهمون إلا لغة القوة، لذا على الفلسطينيين تعزيز قوتهم ومقاومتهم لإرغام المجرمين على الاستسلام ووقف جرائمهم".
وتتماشى تصريحات خامنئي تمامًا مع سردية النظام الذي يعتبر نفسه المدافع عن القضية الفلسطينية. فقد أنفق نظام طهران مليارات الدولار على تغذية النزعة القتالية في أرجاء الشرق الأوسط بغية تحقيق هدفه الإيديولوجي المتمثل باجتثاث ما يسميه "الورم السرطاني" (أي إسرائيل) من الخارطة.
غير أن الجمهورية الإسلامية تنظر أيضًا إلى الدمار في غزة على أنه منفذ آخر لبسط نفوذها. فقد اعتبرت طهران – التي ستحصل على مليارات الدولارات عقب تخفيف العقوبات عنها في حال عادت الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي المبرم عام 2015 – أن تقديم المساعدات إلى غزة ما بعد الحرب هو السبيل إلى توسيع نفوذها القائم على القوة الناعمة من أجل غرس التطرف في عقول الفلسطينيين وتجنيدهم في معركتها الإيديولوجية ضد إسرائيل.
وهذه الاستراتيجية أثبتت فعاليتها بالنسبة لإيران؛ فاستغلال الدمار الذي تخلّفه الحرب لبناء قاعدة دعم محلي لطالما كان عنصرًا أساسيًا في استراتيجية الجمهورية الإسلامية لتوسيع قوتها ونشر إيديولوجيتها الإسلامية في المنطقة. وفي حين غالبًا ما يتعاطى صناع السياسة والمحللون مع خطر النزعة القتالية التي تغذيها إيران عبر التركيز بشكل شبه حصري على الأصول الميليشياوية من القوة الخشنة التي يملكها "الحرس الثوري الإسلامي"، من المهم تسليط الضوء على أن الجماعات الرسمية التي تشكّل شبكة إيران الميليشياوية ليست سوى غيض من فيض. هذا وأسس الحرس الثوري أيضًا بنية تحتية قائمة على القوة الناعمة في أرجاء الشرق الأوسط وخارجه بدعم كامل من وكالات القوة الناعمة الإيرانية. وترمي هذه البنية التحتية إلى تجنيد وغرس التطرف في عقول السكان المحليين كما هو الحال في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن.
ويتمثل النموذج المعتمد في هذا التكتيك بالمساعدات التي قدمها "الحرس الثوري الإسلامي" – وهو الجيش الإيديولوجي للنظام الديني - إلى جنوب لبنان بعد حرب "حزب الله" التي دامت 33 يومًا مع إسرائيل في العام 2006، في إطار سيناريو يأمل الحرس الثوري أن يتكرر اليوم في غزة. وغالبًا ما تركز التحليلات التقليدية لهذه الحرب على الصراع الوجيز بحدّ ذاته، لكن الأحداث التي تلته كانت الأهم بالنسبة لخامنئي ونظامه. فبقيادة الجنرال حسن شاطري، قائد "فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري الإسلامي" الإيراني الذي قُتل لاحقًا خلال الحرب السورية، دخل الحرس إلى ساحة ما بعد الحرب تحت عباءة "الهيئة الإيرانية لإعادة إعمار لبنان". وبعد أقل من أسبوعين على انتهاء الحرب، كان الحرس متواجدًا على الأرض وتمكّن من حلّ مشاكل الكهرباء في 73 قرية جنوب لبنان وفق تصريحاته.
وبحلول العام 2009 – عندما كانت عقوبات الولايات المتحدة والأمم المتحدة على طهران في أوجها – كانت إيران نفذت نحو 400 مشروع تطويري في جنوب لبنان حيث بنت المدارس والمراكز الدينية والمجمعات الرياضية والمستشفيات، وكل ذلك بغرض الترويج للإيديولوجيا الإسلامية الشيعية المتطرفة التي تنتهجها طهران. وقد أنفقت هذه الأخيرة 100 مليون دولار على إعادة بناء البنية التحتية للطرق في جنوب لبنان وحدها. في المقابل، وبعد مرور 31 عامًا على انتهاء الحرب الإيرانية-العراقية، لا تزال البنية التحتية في قسم كبير من المحافظات الإيرانية الحدودية على غرار خوزستان، مدمرة، ما يظهر الأولوية التي يمنحها النظام الديني الإيراني لنشر إيديولوجيته على رفاه ومصلحة شعبه.
وترافقت جهود إعادة الإعمار والمساعدات التي بذلتها إيران مع حملات دعائية إيديولوجية مصممة لتجنيد السكان المحليين وغرس عقيدتها في عقولهم لصالح "حزب الله". وبالنظر إلى استراتيجية حسن شاطري في جنوب لبنان التي هدفت إلى "نشر وتوسيع رقعة الثورة الإسلامية"، يستشهد المسؤولون في "الحرس الثوري" علنًا بكيفية "بناء شاطري لمدراس كرة القدم للأطفال والتذرع بها لتجنيد عناصر يعملون في خدمة الثورة الإسلامية".
وهذا هو النموذج الذي تأمل طهران تصديره إلى الأراضي الفلسطينية، مع تركيز خاص على غزة. فلطالما استغل كافة المتطرفين الإسلاميين القضية الفلسطينية في محاولة لحشد الدعم لإيديولوجيات خاصة بهم، وحتمًا لن تكون الجمهورية الإسلامية خارجة عن القاعدة. فبعد أيام فقط من الثورة الإسلامية عام 1979، بذل إسلاميو الخميني جهودًا استثنائية لضمان أن يكون ياسر عرفات، بصفته رئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" التي كانت عسكرية آنذاك، أول قائد أجنبي يزور طهران.
وكان نجاح نموذج القوة الناعمة في لبنان أسفر عن إنشاء "الحرس الثوري الإسلامي" لـ"الهيئة الإيرانية لإعادة إعمار غزة"، بعد حرب غزة بين عاميْ 2008 و2009. فعقب الدمار الناتج عن صراع استمر 22 يومًا، تعهدت الهيئة ببناء "ألف وحدة سكنية و10 مدارس و5 مساجد" وإعادة إعمار وتجهيز "500 وحدة تجارية ومستشفى وحرم جامعة في غزة".
وبخلاف لبنان الذي كانت طهران قادرة على دخول أراضيه لجلب الأفراد والمعدات عبر سوريا، فالدخول إلى غزة خاضع لإشراف إسرائيل الحصري. وهذه القيود تعني أنه في النهاية عوّل "الحرس الثوري" حتى اليوم على المساعدات النقدية فحسب لتقديم الدعم للفلسطينيين وحشد التأييد لقضيته. وبغية تحقيق ذلك، استهدف الجرحى و"عوائل الشهداء" - في تطبيق مباشر للتكتيكات التي يستخدمها الحرس في أماكن أخرى والتي حققت النجاح الأكبر ضمن إيران نفسها.
وبناء على ما تقدّم، ستصبح "حماس" الأداة الرئيسية لطهران لتنفيذ عمليات قوة ناعمة مماثلة. ورغم الآليات العديدة التي تعتمدها إسرائيل لمنع وصول الموارد إلى أيدي "حماس"، تمكّن "الحرس الثوري" من اختراق هذا النظام. وهذا يشمل تزويد مسؤولي "حماس" بحقائب مليئة بملايين الدولارات نقدًا، كما حصل عام 2006 بعد زيارة وفد من "حماس" إلى طهران.
لكن وفي حين تتلقى "حماس" الأسلحة والتمويل والتدريب من الجمهورية الإسلامية، إلا أنها ليست أحد وكلاء إيران؛ فطهران لا تقود أو تتحكم بأي من أفعال الحركة. وبصفتها منظمة إسلامية سنّية، لا تنصاع "حماس" إلى الإيديولوجية الإسلامية الشيعية لإيران، ولا حتى تعترف بآية الله خامنئي كسلطة عليا كما يفعل "حزب الله". والأهم أن "حماس" رفضت دعوة خامنئي للدفاع عن نظام بشار الأسد عام 2012 – وهي خطوة أسفرت عن وقف طهران كافة عمليات التمويل التي تزودها للحركة والبالغة قيمتها 15 مليون دولار شهريًا.
غير أنه منذ العام 2017، سعى الطرفان إلى إصلاح العلاقات انطلاقًا من هدفهما الاستراتيجي المشترك المتمثل بالقضاء على إسرائيل ومعارضتهما المتبادلة للاتجاه السائد مؤخرًا بتطبيع العلاقات بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. يُذكر أن تدمير غزة يمنح خامنئي و"الحرس الثوري الإسلامي" فرصة لترسيخ نفوذهما أكثر فأكثر والفوز ربما بقلوب وعقول السكان المحليين، مقدمين المساعدة على شكل هبات نقدية من خلال "حماس" و"الجهاد الإسلامي في فلسطين" من أجل تجنيد الشباب العرب وغرس عقيدتهما الرسمية في عقولهم المتمثلة بـ"محو إسرائيل عن الخارطة".
كما يأمل خامنئي أن تساهم هذه الأنشطة ودعم طهران للحرب ضد إسرائيل في جعل نظامه أكثر شعبية في أوساط العالم الإسلامي الأشمل، تمامًا كما حصل عقب حرب لبنان في 2006. فالدعم الذي قدمته طهران لـ"حزب الله" في حربه ضد إسرائيل في ذلك الوقت أسفر عن تأييد متزايد للجمهورية الإسلامية في أرجاء العالم الإسلامي، حيث أظهرت استطلاعات الرأي في دول عربية سنّية زيادة ملحوظة في شعبية الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. وفي حين سيخسر النظام الإيراني قريبًا كل رأسماله من القوة الناعمة في أوساط المجتمعات السنّية عقب المستوى غير المسبوق من الطائفية الذي طبع دعمه للأسد خلال الحرب الأهلية السورية، إلا انه يأمل في استغلال الصراع الأحدث بين إسرائيل و"حماس" من أجل عكس السردية لمصلحته.
ولهذه الغاية، يهدف النظام الديني مرة جديدة إلى جعل دعمه للقضية الفلسطينية بمثابة فريضة من فرائض الإسلام مرتبطة بحشد الدعم لصالح طهران باعتبارها المدافع الحقيقي والوحيد عن الفلسطينيين. وبذلك، يسعى إلى الاستفادة من تأييد الشعوب المسلمة في أنحاء العالم ووصم تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل على السواء، مصوّرًا اتفاقات السلام التاريخية على أنها "خيانة للأمة الإسلامية والقضية الفلسطينية". ويكتسي ذلك أهمية كبيرة بالنسبة لخامنئي الذي يسعى جاهدًا إلى إيجاد سبل لشرعنة الدور الذي نسبه لنفسه باعتباره قائد الإسلام، وعرقلة أي آفاق للسلام بين الدولة اليهودية والعالم الإسلامي. وإذا ما نجحت طهران في مسعاها هذا، يمكن أن نتوقع المزيد من التوتر والعنف في المنطقة خلال المستقبل القريب.
ومن هذا المنطلق، تُطرح أمام الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية عدة خيارات لوضع حدّ لهذه المساعي. في الدرجة الأولى، على الولايات المتحدة أن تقيّم بدقة وحذر ما إذا كان الوقت مناسبًا لمنح الجمهورية الإسلامية المليارات من خلال تخفيف العقوبات في إطار عودتها إلى الاتفاق النووي المبرم عام 2015. وأصبح من الواضح الآن أن أي تخفيف للعقوبات حصلت عليه إيران في إطار الاتفاق لم يعجز عن وقف زعزعة الاستقرار التي تمارسها طهران في المنطقة فحسب، بل ساعد أيضًا على تأجيج النزعة القتالية التي ينشرها "الحرس الثوري الإسلامي" ودعمه للميليشيات المسلحة. وحاليًا، تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ على طهران وعليها استغلاله للحصول على المزيد من التنازلات، أقلّه لتقويض النزعة القتالية المدعومة من إيران.
وبالطبع، لن تسمح إسرائيل بوجود إيراني كبير في غزة وقد أقامت أكثر الحواجز الأمنية صرامةً للحؤول دون ذلك. ولكننا ندرك أن المال الإيراني لا يزال يصل إلى غزة متخطيًا هذه الإجراءات وأن الوقوف في وجه نفوذ القوة الناعمة أصعب من التدخل المباشر. مع ذلك، أوضحت "حماس" و"حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين" خلال الأسابيع القليلة الماضية أن الصواريخ التي تملكها والقدرات التي تتمتع بها تأتي من طهران. وفي حين ستتمكن المقاربات الأمنية من دون شك من الحدّ من قدرات القوة الخشنة هذه، إلا أنها في المقابل لن تتمكن من محو الأفكار الكامنة خلف أعمال العنف – وهو أمر يدركه نظام خامنئي تمام الإدراك. وعليه، ليس هناك أدنى شك في أن نتائج تخفيف العقوبات ستتمثل في تشجيع "الحرس الثوري الإسلامي" وتمكينه من مضاعفة رهاناته على خطط ما بعد الحرب في غزة.
هذا وتٌعتبر الصدامات الأحدث بين إسرائيل و"حماس" بمثابة تذكير على أنه لا يمكن للولايات المتحدة والقوى الأوروبية صياغة سياسة إزاء إيران من دون الأخذ في الحسبان التداعيات الأشمل للصراعات في المنطقة. بدلًا من ذلك، عليها إعداد استراتيجية شاملة تجاه الشرق الأوسط تقرّ وتعالج الطبيعة المتداخلة للصراع وعدم الاستقرار في المنطقة. فمعالجة كل مسألة على حدة ليست بالأمر الواهي فحسب، بل قد تتسبب بتصعيد وعدم استقرار على المدى الأطول.
والأمر نفسه ينطبق على دول المنطقة. فمن شأن التزام خامنئي الواضح والصريح باستغلال القضية الفلسطينية أن يطلق جرس الإنذار بالنسبة للدول العربية إذ إن التردد والممانعة إزاء القضية يصبّان في صالح طهران. وللمرة الأولى – وبفضل "اتفاقات أبراهام" – تجد الدول العربية نفسها في موقع قوي يمكّنها من إعادة تأكيد دورها في حماية المصالح الفلسطينية، بصفتها دول صديقة لإسرائيل وللفلسطينيين على السواء. وبذلك، تخدم التطبيع وتساعد على الوقوف في وجه قدرات القوة الناعمة والخشنة للنظام الإيراني – ما يمثل أحد أكبر التحديات أمام إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط. فمنع أي صراع مستقبلي يعني السعي إلى الفوز بالقلوب والعقول حاليًا.