- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
لا يجدر بالولايات المتحدة تكرار أخطائها في السودان
تفاجأ المجتمع الدولي بالثورة شبه المعجزة والسلمية التي قادها الشباب في السودان، والتي نجحت في الإطاحة بديكتاتور ظالم. فدولة غالبًا ما يتناساها سائر العالم أصبحت فجأة الشغل الشاغل لوسائل الإعلام وغزت أخبارها وسائل التواصل الاجتماعي وجذبت اهتمام حكومات من مختلف أنحاء العالم. ومن بين هذه الدول، كانت الولايات المتحدة تراقب عن كثب الوضع في السودان على المستوى السياسي والتنفيذي والإعلامي. وعلى الصعيد التشريعي، مرر مجلسا النواب والشيوخ قرارات وعقدا جلسة علنية استمرت لثلاث ساعات بشأن الوضع في السودان. كما أصدر وزيرا الخارجية والخزانة بيانين لممارسة الضغوط على "المجلس العسكري الانتقالي" محذرين رئيس المجلس من تأخير أو عرقلة المفاوضات وتشكيل حكومة جديدة.
ساهمت هذه التدابير، إلى جانب تعيين دونالد بوث مبعوثًا أمريكيًا خاصًا إلى السودان، في مماسة ضغوط دولية على "المجلس العسكري الانتقالي" لإجراء مفاوضات، وهو خبر أعلن بالأمس كنتيجة لوساطة الاتحاد الأفريقي/أثيوبيا والضغوط السياسية التي مارستها الولايات المتحدة على المجلس من خلال الدور الذي لعبه السفير بوث، المبعوث الأمريكي الخاص المعيّن حديثًا إلى السودان.
إن اهتمام الولايات المتحدة المستجد بالسودان جدير بالاهتمام، لكن لا بدّ من أن يكون مستدامًا أيضًا. فحاليًا، تبرز فرصة ذهبية لبناء علاقة جديدة مع السودان، لكن على الولايات المتحدة أن تتعلّم من دروس الماضي في المنطقة ولا تغفل عن السودان كما فعلت في دول أخرى في المنطقة مثل سوريا وليبيا. ولا بدّ للإدارة من اعتماد دبلوماسية استباقية وموقف سياسي واضح ومن المستحسن أن تفعل ذلك عاجلًا وليس آجلًا. فعلى الولايات المتحدة التحرك بسرعة لإعلان موقف صارم يدعم التغيير الجديد في السودان ويعترف بالحكومة ذات القيادة المدنية، مع مدّها في الوقت يد نفسه بالمساعدة الضرورية لأعادة بناء السودان.
علاوةً على ذلك، على الولايات المتحدة الحفاظ على دورها الراهن، بعدما ساعدت أساسًا خلال الفترة التي سبقت التوصل إلى اتفاق بين "المجلس العسكري الانتقالي" و"قوى الحرية والتغيير" على تشكيل حكومة بقيادة مدنية؛ وهو اتفاق عكس رغبة وإرادة الشعب السوداني في تحويل بلاده إلى دولة ديمقراطية بعد ثلاثة عقود من الديكتاتورية الظالمة. وإن انسحبت الولايات المتحدة الآن، سيفلت "المجلس العسكري الانتقالي" من الضغوط الضرورية لتطبيق الاتفاق برمته.
بالتوازي، على الحكومة الأمريكية التفكير في استضافة قادة "قوى الحرية والتغيير" و"تجمّع المهنيين السودانيين" في واشنطن العاصمة. فاستضافة هاتين الجماعتين ستبعث برسالة واضحة وقوية إلى "المجلس العسكري الانتقالي" مفادها الأعتراف بدوؤهم وأن الولايات المتحدة ستواصل دعم حكومة بقيادة مدنية وعملية الانتقال إلى الديمقراطية في السودان.
تجدر الملاحظة أن أهمية السودان بالنسبة للولايات المتحدة تنبع من ميزتها الجيواستراتيجية، فضلًا عن هويتها المزدوجة كدولة أفريقية وعربية في آن. فالسودان يقع على مفترق ثلاث مرتكزات جيواستراتيجية: القرن الأفريقي، شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء. مما جعله موقعه كطريق عبور رئيسي للمهاجرين من جنوب الصحراء إلى ليبيا ودول البحر الأبيض المتوسط كي يهاجروا بطرق غير شرعية إلى أوروبا. و يحتضن تجار بشر ومهربي مخدرات وأسلحة، كل ذلك في وقت ترزح فيه حدود البلاد مع ليبيا تحت وطأة التهديد نظرًا إلى الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا. فعناصر "داعش" و"القاعدة" يأخذون من ليبيا ملجأ لهم، في وقت تؤجج فيه مجموعات المرتزقة الأفريقية من دول مجاورة تضم تشاد والنيجر ومالي الحرب داخل ليبيا. ومن خلال الدعم المناسب من الدولة المناسبة، يمكن للحكومة السودانية الجديدة مساعدة البلاد كي تصبح منطقة عازلة من أجل الحؤول دون امتداد الصراع المسلح في ليبيا إلى أراضيها.
ويعتبر السودان حاجزًا طبيعيًا يمنع الإسلام السلفي من الانتشار في أفريقيا جنوب الصحراء، فهي ليست منطقة عازلة جغرافية فحسب، بل ثقافية أيضًا. فنفوذه الإقليمي كبير حيث أن إيقاعات الأغاني والموسيقى السودانية ليست لغة التواصل المشتركة بين الأفريقيين من موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد واليمن وأثيوبيا وجيبوتي فحسب، بل تلعب البلاد دور جسر ثقافي للمسلمين في شمال أفريقيا فتربط المنطقة بالبيت الحرام. وهذا، إلى جانب ممارسة الشعب السوداني للإسلام الصوفي بشكل كبير، يجعل منه حليفًا قيّمًا لأي دولة.
كذلك، يعتبر السودان دولة تقدمية على حدّ كبير في القارة الأفريقية. فالسودانيون، في الداخل والمهجر على السواء، لم ينتفضوا فقط ضد نظام البشير القمعي بل رفضوا أستمرار إيديولوجيته وسياساته التوسعية. وقد أصبحوا مدركين لضرورة بناء سودان جديدة استنادًا إلى قيم التعاون والمصالح المشتركة وهم حريصون على ذلك. فالشعب السوداني قرر بعزم أن ينأى بنفسه عن الحقبة القاتمة لديكتاتورية البشير، وكذلك عن العزلة السياسية والدبلوماسية.
وقد مثل الضغط الممارس من قبل مجلسي النواب والشيوخ ووزيري الخارجية والخزانة بمنع تحويل 3 مليارات دولار خصصتها السعودية والإمارات إلى "المجلس العسكري الانتقالي". وكي يكسب السودان حليفا له، على الولايات المتحدة التفكير في مساعدة السودان خلال سعيه نحو التحول الديمقراطي من خلال تقديم محفزات مالية ووسائل مساعدة مباشرة أخرى، عوضًا عن وقفها.
ويمكن أيضًا للولايات المتحدة أن تدرس احتمال تطبيق برامج لبناء القدرات ومنح هبات للصناديق المالية من أجل المساعدة على نمو منظمات المجتمع المدني والتوعية بحقوق الإنسان والبنية التحتية. كما أن قطاعي التعليم والصحة، حيث تعاني الجامعات من نقص في الكتب وحيث المختبرات بحاجة إلى تطوير، قد يستفيدان إلى حدّ كبير من مساهمات مماثلة. غير أن الشعب السوداني سيرحب ترحيبًا كبيرًا بأي مساعدة كانت.
هذا ويمكن للاستثمارات الأمريكية أن تساعد على التخفيف من سطوة الاستثمارات الصينية في السودان. فقد فتح نظام البشير الباب أمام الصين في تسعينيات القرن الماضي بعدما بدأت العقوبات الأمريكية تلقي بثقلها على الاقتصاد. وسدّ الصينيون فجوة كبيرة في قطاع النفط والطاقة، فساهموا في رفع اقتصاد السودان المتعثر من خلال شراء إحدى أبرز مواردها. غير أن علاقتهم بالسودان كانت أحادية عمومًا وغالبًا ما اتّسمت بالفساد.
يُذكر أن الصين تملك نسبة 40 في المائة من كافة المشاريع النفطية السودانية، ما يجعلها أكبر شريك اقتصادي للبلاد. ونتيجة لذلك، دعم الصينيون باستمرار نظام البشير حتى في وجه انتهاكات حقوق الإنسان. وخلال الحرب في دارفور، زوّدت الصين السودان والميليشيات السودانية المسلحة بأسلحة صغيرة، رغم فرض الأمم المتحدة حظرًا على توريد الأسلحة. كما عُرف نظام البشير بإبرام صفقات سرية مع صينيين للحصول على معدات حفر صينية. وقد استخدمت هذه المعدات للتنقيب في منطقة قد تكون غنية بالنفط في السودان تدعى أبيي. غير أن هذه الاتفاقات السرية سرعان ما انكشفت إلى العالم بفضل ائتلاف "أنقذوا دارفور" الذي حرّك تحت هذا الشعار احتجاجات مناصرة قوية في مختلف أنحاء العالم ضد دور الصين في دعم النظام في السودان، ما أضرّ بالعلاقة بين البلدين.
وبالتالي، ليست من مصلحة السودان الجديد مراجعة عقود النفط السابقة مع الصين فقط بل الانسحاب منها. عوضًا عن ذلك، على السودان مناقشة سبل جديدة لإبرام شراكات مع شركات نفط أمريكية تعمل أساسًا في السودان كـ"شيفرون" (نظرًا إلى واقع أنها كانت الشركة الأولى التي اكتشفت النفط في السودان وكانت تملك سابقًا امتيازات في حقول النفط).
ويمكن لثروة السودان من الموارد الطبيعية أن تسمح لها بأن تصبح عملاقًا في التعاون والتجارة في أفريقيا وسائر أنحاء العالم على السواء. فهذه الموارد ليست أساسية فقط للصناعة الأوروبية، إنما الدول المجاورة على غرار ليبيا ومصر ودول الخليج ترغب بشدة بهذه الموارد الزراعية السودانية. وبفضل الاستثمارات، يمكن تحويل منتجات السودان الطبيعية إلى منتجات مصنعة، ما قد يزيد بشكل كبير من قيمتها. فالزراعة والمعادن كالذهب وتصنيع المواد الغذائية على غرار اللحوم والفاكهة والخضار، هي أمور وفيرة في البلاد وتشكّل مجالات مربحة محتملة للمستثمرين الأجانب. كما أن هذه الاستثمارات الأجنبية قد تساهم في استحداث الكثير من الوظائف للشباب السودانيين الذين يشكلون غالبية الشعب.
وقد تستفيد البلاد أيضًا من الدعم المالي الدولي لترشيد النظم الصناعية المتكاملة واستقطاب المستثمرين وإنعاش اقتصاد البلاد الراكد، إلى جانب فتح أسواق جديدة وميادين تعاون مع دول وشركاء آخرين. وقد يؤدي ذلك إلى فتح أسواق جديدة للمنتجات السودانية وضخ تدفقات نقدية في اقتصاد البلاد.
كما يعدّ نفاذ السودان إلى البحر الأحمر أساسيًا للتجارة والتعاون الأمني الاستراتيجي على السواء، علمًا بأن السواحل السودانية تشكل حدودًا لدول مهمة في القرن الأفريقي تشمل إيريتريا وأثيوبيا وجيبوتي واليمن والسعودية، وهي منطقة تغرقها حاليًا المشاكل والتعقيدات الأمنية الماثلة والمحتملة. فالحرب في اليمن ونفوذ إيران ووجود "داعش" و"القاعدة" في المنطقة، كلها مخاطر تهدد المصالح الأمريكية. فضلًا عن ذلك، يمكن لنفاذ السودان إلى مضيق عدن والممر الحيوي لباب المندب وللتبادلات والتجارة الدولية عبر مضيق هرمز، حيث لا تنفك التوترات تتنامى بين الولايات المتحدة وإيران، فسيكوت للسودان أن يوفر مركزا استراتيجيا مهما للولايات المتحدة.
لهذه الأسباب جميعها، على الولايات المتحدة البدء في تغيير سياساتها وتنويعها بغية التعاون بشكل استباقي مع السودان. فالأخير قادر على أن يصبح العمود الفقري لنفوذ الولايات المتحدة في هذه المنطقة المتقلبة وشريكًا اقتصاديًا له ثقله. فعمليات التنقيب عن النفط والموارد المعدنية في السودان بحاجة إلى تكنولوجيا متطورة ومستثمرين جدد وأسواق جديدة. ولا يجدر بالولايات المتحدة أن تكرر في السودان الأخطاء التي ارتكبتها في سوريا وليبيا.