- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
لباس المرأة في إيران: من "الستر" الإسلامي الى "الحجاب" السياسي
لا شك أن موقف الحكومة الايرانية كمنفذ لتفويض ديني هو موقف مخادع، كما هو واضح من تاريخ الحجاب في المجتمع الإيراني. وفي حين يظل مفهوم الستر منفصلاً عن السياسة في إيران، أصبح الحجاب الآن مفهوماً سياسياً بشكل لا لبس فيه.
على مدار تاريخ البشرية، شكل الستر جزءًا طبيعيًا من الاحتياجات الثقافية والمجتمعية الأخرى بما في ذلك المبادئ التوجيهية الدينية الصادرة عن السلطات الدينية الإسلامية. ومع ذلك، بدأنا نشهد بشكل تدريجي ظهور مفهوم “الحجاب” المتميز والمسيّس في عدد من المجتمعات الإسلامية خلال القرنين الأخيرين، ولا سيما استخدام هذا المصطلح عوضاً عن الستر في إيران، حيث أصبح ارتداء الحجاب أو خلعه يحمل دلالات سياسية بالنسبة للنساء الإيرانيات. شكلت قضية الحجاب محورا للاحتجاجات الشعبية الكبيرة ضد الحكومة الإيرانية وكان آخرها الحركة الاحتجاجية التي انطلقت بعد وفاة مهسا أميني، واصبح النظام ومعارضيه يتبارون في فرضه أو رفعه.
كلمة الحجاب باللغة العربية تعني المنع والعزل أو الحائل المانع عن تلاقي شيئين أو أثرهما، سواء كانا مادّيّين أو معنويّين أو مختلفين، وسواء كان الحاجب مادّيا أو معنويّا. ومن الجدير بالذكر أن استخدام مصطلح الحجاب في القرآن لا يُقصد به ثياب معين يُلبس بل يُشيرإلى شيء حائل من قبيل الستارة. في المقابل، استخدمت مصادر الفقه الإسلامي قبل الحداثة لفظ "الستر والساتر “، عوضا عن لفظ " الحجاب". قد يكون هناك بعض المصادر القليلة التي استخدمت لفظ الحجاب ولكن في الغالب في سياق الصلاة، مثل "رسالة في حجاب المرأة المسلمة في الصلاة" للشيخ ابن تيمية.
الحجاب في الأصل بمعنى الحجب والعزل ويستبطن معنى عزل المرأة عن المجتمع والتزامها البيت. بينما الستر لا معنى له إلا مقابل الناظر. فسبب وجوده هو الاختلاط والخروج للمجتمع. الشاهد على هذا قول القران: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ... قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) (النور: 30 و31)، ويندرج نفس الأمر على كل من الرجال والنساء.
نفس اللفظ العربي دخل اللغة الفارسية واستخدم بنفس المعنى. فمن أول شاعر شعر بالفارسية أبو عبد الله الرودکي (858ـ 941م) الى من تلاه من قبيل ناصر خسرو، عطّار النيسابوري، الخاقاني، الرومي، سعدي، حافظ، عنصري، صائب التبریزي و... جميعهم كانوا يستخدمون لفظ الحجاب في أشعارهم بهذه المعاني وليس كزي خاص بالنساء. ويتجلى هذا الاختلاف بين الحجاب والستر أيضا في المصادر الفقهية الشيعية الفارسية وصولاً إلى كتب الخميني.
إن عدم الإشارة إلى "الحجاب" باعتباره لباس من ملابس النساء هو أمر صارخ بشكل خاص حتى في رسالة الخميني العملية الطويلة (وهى كتاب يدوّن فيه الفقيه أحكام الشريعة)، والتي تسمى "تحرير الوسيلة"، وتم إصدارها باللغة العربية وتشتمل على اكثر من 4500 مسألة في مختلف الأبواب الفقهية. (روح اللّٰه الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة، 2ج، قم: مؤسسة مطبوعات دار العلم، ط1). وكسائر الفقهاء ناقش الخميني أحكام الستر والساتر والنظر لكلى الجنسين في أبواب مختلفة وتحت عناوين متعددة من قبيل أحكام التخلي (ج1، ص: 17)، غسل الميت (ج1، ص: 65) وتكفينه والصلاة عليه (ج1، ص: 73)، مقدمات الصلاة والخلل الواقع فيها (ج1، ص: 135) إحرام الحج والطواف، أحكام الدفاع، وفي بعض مسائل باب النكاح (ج2، ص: 236 و245). ومن الجدير بالذكر أن مصطلح "الحجاب" الذي يشير إلى غطاء الرأس للنساء لا يظهر في تلك المسائل الفقهية. كذلك رسالته العملية الفارسية "توضيح المسائل" أيضا لم يرد فيها لفظ الحجاب وبيّن مسائل اللبس تحت عناوين الستر والنظر والعورة.
"الحجاب" كمفهوم سياسي في إيران
استخدم الخميني لفظ الحجاب وأكد عليه في خطاباته السياسية كإشارة للباس المرأة. ومن ثم، يعكس هذا التباين بين كتاباته الدينية والسياسية الدور السياسي المتزايد الذي أصبح غطاء رأس المرأة يلعبه في المجتمع الإيراني.
علاوة على ذلك، ظهر ارتباط بين السياسة ولباس المرأة في العالم الإسلامي، وربما أصبحت فاطمة برغاني، المعروفة بقرة العين (1814-1852)، أول امرأة مسلمة أسفرت عن وجهها في حضور الرجال. حيث كشفت عن وجهها في مؤتمر البابيّين الذي انعقد سنة 1848 قرب خراسان، وفیما بعد قتلت ضمن الحملة التي شنّت ضد البابيّين في ايران.
قامت النساء أيضا في بلدان إسلامية أخرى بالكشف عن وجوههن واعتلن المنابر وتكلمن عن ضرورة مشاركة المرأة في المجتمع. ثم كتبت الرسائل والأشعار التي تدعوا إلى السفور. ومن ناحية أخرى، أثارت هذا القضية جدلاً حادًا بشكل خاص في مصر بين تيار يدعو "للحجاب" و أخر يدعو "للسفور"، وانتقل هذا النقاش الى ايران وترجــم أحمد مهذب الدولة كتابي قاسم امين "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" إلى الفارســية ونشرتهما وزارة الثقافة الإيرانية. كذلك كانت الأفكار الجديدة تدخل ايران من الهند وتركيا والاتحاد السوفيتي ومن الغرب.
محاولات نزع الحجاب
بعد الحرب العالمية الأولى ظهرت أنظمة علمانية في بعض الدول المسلمة حاولت بعضها أن تتدخل في تحديد لبس النساء، وكان لذلك أثاره على إيران. على سبيل المثال، كانت تجربة اتاتورك في منع المحجبات من العمل في مؤسسات الدولة ودخول المدارس والجامعات ملهمة لرضا البهلوي الذي كان متأثرا به كثيرا. سعى كلا الرجلين إلى إنشاء دول قومية علمانية جديدة على الأراضي التي كانت تحكمها الدولة (العثمانية أو القاجارية) حيث كانت السلطة الدينية والعلمانية متداخلة. حضر رضا البهلوي مع أسرته مراسيم تحويل السنة الإيرانية في مزار السيدة فاطمة المعصومة عام 1928 من دون أن يرتدين الزي المتعارف عليه آنذاك وصدم الجميع بسلوكه هذا وسبب ردة فعل عند رجال الدين.
تواصلت جهود البهلوي وأسس في عام 1935 جمعية "تحرير المرأة من الحجاب" وفي عام 1936 صدر أمر عرف تحت مسمى "كشف الحجاب"، حيث منع لبس جميع أنواع الحجاب بما في ذلك لبس الشادور، وهو نوع من الغطاء شائع بشكل خاص في إيران. (مرادعلى توانا، زن در تاريخ معاصر ايران، تهران: برگ زيتون، ط1، 1380ش، ص 260 ـ 258، 255.) وسمي هذا اليوم (17 من شهر دي) يوم "تحرير المرأة" لكن الكثير من الباحثين اعتبروا هذه الخطوة ذريعة لقمع الشعب بأسره وليس المرأة فقط. (الهه رستمى، جنسيت، اشتغال واسلام گرايى، ترجمه: رؤيا رستمى، تهران: جامعه ايرانيان، ط1، 1379ش، ص 59.)
وظّف البهلوي المنبر الحسيني للترويج لتحديث لباس المرأة وضرورة إطاعة الملك وتبعيته، وحتى يدفع عن نفسه تهمة التبعية للغرب روّج بأن الزي الذي ترتديه النساء اليوم في الدول المتقدمة هو لباس نساء ايران في الماضي.
عقب هذه الأحداث انتشرت ظاهرة كتابة رسائل "حجابية" من قبل رجال الدين جمع رسول جعفريان ثلاثين منها في كتاب "الرسائل الحجابية". وفّر منع الحجاب بواسطة ديكتاتور قمعي وبهذه الطريقة الاستفزازية أرضية لربط هذا الموضوع بالنظام الاستبدادي والقوى الاستعمارية التي تدعمه.
دخل الحجاب كأداة في المعترك السياسي في ايران لأول مرة واصبح بدن المرأة ساحة صراع الديكتاتور مع معارضيه. لهذا في السنتين الأخيرتين من حكم الابن وخليفته محمد رضا بهلوي، بدأت الطالبات الجامعيات بسرعة غريبة في ارتداء الحجاب الذي كان محظورًا قبل عقود من ولادتهن، وهو شكل من أشكال المقاومة ضد النظام الملكي، فمخالفة النظام الملكي قادتهن للحجاب أي من الإسلام السياسي وصلن الى الحجاب وليس من الحجاب الى الإسلام السياسي. لأن الالتزام به اصبح رمزا للاسلاموية، بينما كان خلعه يشير إلى الاستغراب الذي فرضه الشاه.
الثورة الإيرانية تفرض الحجاب
ما سبق كان سياق قضية الحجاب حين صعود آية الله الخميني إلى سدة السلطة السياسية كمنتصر في الثورة الإيرانية، فمنذ الأيام الأولى بعد انتصار الثورة الإيرانية، صار قائدها الخميني يكرر عبارة "ديانتنا عين سياستنا" فطبيعي أن يصبح ستر المرأة امر سياسي اكثر من قبل وحينما تؤسلم كل مناحي الحياة أكيد لباس المرأة أيضا يؤسلم ويتحول الى جزء من مهام الدولة الإسلامية. لهذا اصبح الخطباء يكررون على المنابر بأن الحجاب ليس مجرد حكم شرعي بل سلاح من أسلحة الثورة ودماء الشهداء أريقت من أجله فمن يتساهل فيه يخون دماء الشهداء. هكذا تحول الحجاب الى أداة لتثبيت النظام السياسي الحديث، واستمراريته وإعادة إنتاج علاقة القوى فيه.
تدريجيا منذ الأيام الأولى بدأ النظام خطوات فرض الحجاب ابتداء من أماكن العمل وثم التعليم، وفي التاسع من أب/ أغسطس 1983، شمل حتى الشارع ووضع عقوبات تشمل الجلد لمن لا تلتزم به. خلال أربعة عقود تطور هذا التشريع بحيث دخل في تفاصيل اللباس والسلوك والأسرة والفن والمسرح وما إلى ذلك.
بعدما وصل خامنئي للسلطة، ردّا على من كانوا يقولون بأن الشادور تقليدا للعباءة العربية أو مجرد مطلب ديني، أكّد كونه وساما وطنيا ايرانيا.
ورغم توصّل مراكز دراسات حكومية متعددة الى تصاعد الاعتراض على الحجاب الإجباري إلا أن سياسات النظام لم تتراجع بل ظهر في السنوات الأخيرة مصطلح "الحجاب السيء" أي اللباس الذي يجسد ما تحته أو غطاء الرأس الذي لا يغطي جميع الشعر، كظاهرة يجب مكافحتها، بل افتى خامنئي قبل اربع سنوات بوجوب مراعاة الحجاب في الرسوم الثلاثية الأبعاد.
الستر فی الاسلام خلافا للحجاب حکم عام للبشر وان اختلفت حدوده بين الجنسين، وكذلك للظروف الاجتماعية والثقافية دورا في تحديده. ولم يدع الفقهاء طوال التاريخ لفرضه بالقوة خلافا لقانون الحجاب في ايران الذي لم يراع جميع تلك الحيثيات. مما دفع خلال السنوات الأخيرة قسم من المجتمع الإيراني، خاصة الشابات منه بفعاليات مختلفة للتعبير عن رفضهن لـ"الحجاب الإجباري" من قبيل حملة "بنات شارع الثورة" في عام 2018 ومحاولات مشابهة. اعتقل على اثرها عدد كبير من البنات والناشطات الى أن وقعت حادثة "مهسا اميني" قبل سنة التي أشعلت اقوى احتجاجات بعد انتصار الثورة. ولكن كما يوضح التاريخ، لا يُشكل تسييس الناشطين للحجاب بأي حال من الأحوال اتجاهاً جديداً أو غير عادي في المجتمع الإيراني، بل إن لباس المرأة شكل جانباً مسيساً للغاية من جوانب الحياة الإيرانية على مدى قرن من الزمان، حيث تحكمت في تحديده السلطات المتعاقبة التي كانت تسعى لفرض سيطرتها على جميع مناحي الحياة الإيرانية.
وعلى هذا النحو، لا شك أن موقف الحكومة الايرانية كمنفذ لتفويض ديني هو موقف مخادع، كما هو واضح من تاريخ الحجاب في المجتمع الإيراني. وفي حين يظل مفهوم الستر منفصلاً عن السياسة في إيران، أصبح الحجاب الآن مفهوماً سياسياً بشكل لا لبس فيه. لهذا أكّد إسحاق الفياض أحد كبار مراجع النجف حينما استقبل وفدا من ايران أن استخدام القوة لفرض الحجاب أمر غير نافع.