- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
لفتةٌ نحو إدلب في سوريا – هل الهدف هو "تحقيق التجانس" في البلد؟
على غرار أي بلد آخر، تحظى سوريا بنصيبها من النوادر المحلّيّة؛ فكل منطقة تقريبًا هي ضحية النكات والسخرية بنظر المناطق الأخرى بشكل أو بآخر. وينطبق الأمر نفسه على إدلب، التي يتمتع سكّانها بصيت له خاصيته إلى حدٍ ما – على الأقل بين أبناء دمشق – إذ يُعتبَرون شديدي التعنت. وبالطبع، تغدو التداعيات الواقعية لهذا الرأي المتواجد منذ زمن ذات طبيعة أكثر جدّيّة بكثير في سوريا الحالية. ففي بلدٍ دمّرته الحرب لأكثر من سبع سنوات، لا يشعر النظام السوري بالذنب حيال قصف أجزاء معينة من الأرض ليخضع سكانها بسبب طبيعتهم "المتعنّتة".
قد يتم تسليط الضوء على هذه الدينامية وفهمها عاجلًا أم آجلًا في الأوساط الدولية. فقد أعلن التحالف الدولي ضد ما يُدعى تنظيم "الدولة الإسلامية" وحلفاء هذا التحالف على الأرض – أي "قوات سوريا الديمقراطية" – النصر بعد سقوط آخر معقل للتنظيم الجهادي. إلا أن احتفالات الانتصار على هذا العدو المشترك لن تدوم طويلًا. فقريبًا، ومع قدوم الربيع وتمكُّن جنازير الدبابات من السير بثباتٍ أكبر، سيشهد المجتمع الدولي على الأرجح تصعيدًا على ساحة قتالٍ أخرى أكثر تعقيدًا بكثير – وهي محافظة إدلب، التي تحتوي على حوالي 3 ملايين ساكنٍ معظمهم من النازحين، وعلى بعض المجموعات المسلحة الأكثر تطرفاً في البلد.
يبدو أن روسيا، اللاعب العسكري الرئيسي في سوريا، ليست مرتاحة بشكلٍ خاص لفكرة الحملة العسكرية الكبيرة على الأرض. لكنّ تركيا التي أوكلت إليها المهمة الشاقة المتمثلة في حفظ السيطرة على إدلب من خلال المفاوضات الثلاثية الأطراف مع روسيا وإيران، قد تقوم بتنازلاتٍ إذا استطاعت أن تتوقع في المقابل بعض الدعم لمسعاها من أجل "إحلال السلام" في شمال شرق سوريا الذي يسيطر عليه الأكراد. إلى ذلك، من المهم أن نتذكّر أن النظام السوري يتمتع بإرادته الخاصة وليس دميةً متحرّكةً في يد موسكو، ولو أنه قد يرتاح أحيانًا لإعطاء هذا الانطباع ولإلقاء اللوم بشأن ركود أي عملية سياسية على خلافات الخصوم الجيوسياسيين.
يبدو أن القوات داخل النظام السوري، متحمسة للعودة إلى الحرب في إدلب. فإن النظام، وبالرغم من تذبذبه وعدم استقراره على موقف واضح في عدة محافل، لم يوارب في حفظ وعده باسترداد كل قدَم مربّع من الأرض سبق أن خسره منذ سنة 2011، أي أنه يسعى لاسترداد كل جزء من سوريا سواء كان "مفيداً" أو "غير مفيد جدًّا" بحسب تصنيف النظام وحلفاؤه. علاوة على ذلك فقد برز بشكلٍ غير متوقّع سببٌ إضافي سيدَفَعَ النظام إلى الثبات على عزمه في هذا المقام. إذ أن قرار الرئيس ترامب الأحادي الطرف بالاعتراف بهضبة الجولان المحتلة كجزءٍ من إسرائيل ذكّر السوريين بواقع أن النظام السوري منذ عهد الأسد الأب وحتى الآن تعايش نوعًا ما مع واقع احتلال الجولان من قبل إسرائيل. هذه المسألة، وعلى خلفية السعي لطمس هذه الذاكرة، ستشكل عاملاً مهماً من العوامل التي ستدعم اهتمام النظام بتصعيد الوضع في إدلب في الأسابيع القادمة.
إذا كان هذا هو الحال، لا بد من أن يُدرك المراقبون الدوليون في خلال التعاطي مع مسألة إدلب أن مجتمعها أثبت مراراً وتكراراً خلال الحرب عكس الصورة النمطية التي تعتبر شعبها "متطرفًا"، إذ انتفض المجتمع الإدلبي عدة مرات على المجموعات الجهادية. فتلك المجموعات حاولت كسب موطئ قدمٍ دائم في المنطقة، إلا أنها فشلت في كسب قلوب السكان وعقولهم. من هنا، فقد وجدت إدلب نفسها في موقفٍ صعب. إذ أن المقاتلين الجهاديين ظلوا يمارسون اضطهاداً ضد الأقليات الدينية. ومن جانب آخر فقد تم نقل المقاتلين الذين قبلوا الخروج من خلال اتفاقات الهدنة مع النظام من مناطق مختلفة في شاحناتٍ إلى إدلب بشكلٍ منهجي وتُرِكوا يجوبون المحافظة. فمن الواضح أن إدلب لم يكن ينظر إليها على أنها جزء من "سوريا المفيدة" خلال الحرب، لذا أصبحت بمثابة مكان الخردة بالنسبة للنظام. فقد تخلّص النظام من "العناصر غير المرغوب بهم" في هذه المنطقة بهدف إعادة بناء باقي البلاد وفقًا لشروطه الخاصة.
قد يفسّر ذلك أيضًا سبب عدم قدرة إدلب على التعويل على التعقل والرحمة إذا ما قرر النظام غزوها واحتدمت المعركة. فثمة حسابات يجب أن تُصفّى هناك أكثر من أي محافظة أخرى بالنسبة إلى النظام والأوساط الموالية له. فإدلب وسكّانها جعلوا قوات النظام تتكبد أعدادًا هائلة من الضحايا، وهم في نظره أشخاص متعنتون ومتعصبون لا سبيل إلى تقويمهم أو إصلاحهم.
ثمة سببٌ وراء مستوى الوحشية الذي تشهده الحرب السورية عموماً، تترسخ ملامحه في انعدام الثقة المتبادلة والازدراء والكراهية. فتغذية مشاعر الكراهية شكّلت عاملًا مهمًّا أدّى إلى تصعيد العنف إلى مستويات غير مسبوقة. فاشتركت الميليشيات من كافة الجهات في مسابقة تصعيد العنف، وصعّبت عن قصد التمييز بين المدنيين والمقاتلين، ومارست العدالة أو اللاعدالة كما يحلو لها. لكنّ النظام هو من برَعَ حقًّا في هذا المضمار.
بين الأغلبية السنّيّة، اشتدّت الضغينة التي غذّاها المتطرفون إزاء الأقليات. وبدلًا من إلقاء اللوم حصريًّا على أشخاص النظام المرتكبين والمتسلطين بذاتهم، استهدفت الضغينة السنية الطائفة العلوية، التي اعتبر أفرادها بنظر السنة السورية عموماً المستفيدين المباشرين من تولي أحدٍ منهم حُكم البلاد، على حساب باقي أفراد الشغب السوري.
يتعيش النظام من جهته على مخاوف من يسمون مجازاً بالأقليات من الإبادة أو الرضوخ القسري للأكثرية السنية أو استيلاء الإسلام المتشدد التام على السلطة. فإثارة هذه المخاوف كانت مسألة متعمدة من السهل ملاحظتها، إلا أن هذه الاستراتيجية كانت فعّالة جداً. فقد وجد العلويون والمسيحيون والسّنّة الموالون للنظام (الذين أصبحوا يرون أنفسهم أقليةً خاضعة للهجوم أيضًا) أنفسهم في معركةِ بقاء. مع أن الضحايا في هذه الحرب من جميع الأطراف، لكن - وفي الواقع السوري - يندفع من شعروا بأن كامل وجودهم (ووجود مجتمعاتهم) قاب قوسين أو أدنى إلى السعي نحو الانتصار الكامل أو حتى الادعاء به على ضوء الواقع العسكري الحالي القائم على الإقليم السوري.
نصف سكّان سوريا تقريبًا، ومعظمهم من المسلمين السنة، أجبروا على الهرب وترك كل شيءٍ خلفهم – بغض النظر عما إذا كانوا قد دعموا الانتفاضة أم لم يفعلوا. لكن بدلًا من التحسّر على هذا الرحيل باعتباره "ضرراً اجتماعياً" أو "نتيجةً مأسوفًا عليها لفوضى الحرب الأهلية"، على المجتمع الدولي أن يضع الأمور في نصابها وينظر إلى هذا الموضوع على أنه قد يشكل تغييراً بنيويا لسكّان سوريا بشكلٍ دائم.
في سنة 2011، نزل السوريون إلى الشوارع وتبنوا شعار ما يُسمّى بـ"الربيع العربي": "الشعب يريد إسقاط النظام"، فلم يوافق النظام، والحرب أنتجت شكلاً جديداً للشعب بدلًا من ذلك، أو كما وصف الأسد الشعب في العام الماضي في خطاب استرعى انتباهًا شديدًا بأنه أصبح "أكثر صحة وأكثر تجانسا بالمعنى الحقيقي".
على أنه يجب التأكيد بأنه ليس هناك أي دليلٍ قاطعٍ حتى الآن بأن هذا الوضع الذي وصل إليه السوريون هو هدف للحرب بحد ذاته. من جهة أخرى فقد اعتاد حكام الشرق الأوسط على تشريد شعوبٍ كاملة وترحيلها وإعادة توطينها منذ زمن التوراة. إلا أن النظام السوري وبناء على هذا الوضع فقد اقترب بشكل كبير من إنشاء "سوريا الغد" بنظره، بغض النظر عما إذا كان ذلك نتيجة "لهندسة ديمغرافية" أو أنه مفرز من مفرزات الحرب التي طالت كافة مجالات الحياة.
يتألف النظام السوري اليوم من مجموعة كبيرة من أرباب الحرب وعناصر من الاستخبارات والجيش، بالإضافة إلى جزءٍ كبيرٍ من عامة الناس. هذه المجموعات سبق واقتنعت بفكرة أن العودة للعيش بطريقة ما قبل سنة 2011 لا يمكن أن تكون خياراً. فالسكان الذين يبلغ عددهم 20 مليونًا، كما تفكر تلك المجموعات، يشكّلون علامةً أكيدةً على الاكتظاظ السكّاني. والأغلبية السنّيّة، التي شكلت 75 في المئة وكانت ستستمر في الازدياد حتمًا، شكلت عقبة أمام التعايش السلمي. وبحسب وجهة النظر هذه، لم يكن تنظيما "القاعدة" وما يُدعى "الدولة الإسلامية" مجرد حالتين شاذتين عن المذهب السني، إنما جسّدا بالأحرى جوهره الحقيقي. من هنا وعلى ضوء طريقة التفكير هذه، يمكن القول بأن ظهور هذين التنظيمين ساعد فعليًّا النظام السوري في المراحل الأولى من الحرب.
لكن، وبغض النظر عن تحليل الأسباب والدوافع، ماذا لو لقي الشكل الجديد لسورية حسب الوضع الراهن استحسانًا بين هؤلاء السوريين الباقين في البلد؟ في تلك الحالة، سيحصل أولئك الذين لم يشتركوا في الانتفاضة على عدد أكبر من المنافع المرتبطة بعدد أكبر من الوظائف والعقارات وموارد المياه والموارد الاقتصادية بشكل عام. على أنه يجب القول، بأن هذا الخط من التفكير يشكل حتى الآن تصوّرًا هامشيًّا ليس له دور يذكر. لكنّ، ما هو هامشيٌّ قد يصبح تيّارًا في سوريا في أية لحظة.
إن حدوث التبديل الديمغرافي المذكور أعلاه، وجعله واقعًا غير قابلٍ للتغيير من خلال ردع النازحين السوريين بشكلٍ قوي عن العودة – عن طريق نزع ملكيتهم مثلاً، يشكّل في الحقيقة كابوسًا لا سيما بالنسبة إلى أولئك السوريين الذين ما زالوا متمسكين برؤية بلدهم سوريا بعد الحرب يشبه ما كان عليه قبل الحرب، أو بالأحرى سوريا في أيامها الأولى. على الجانب الآخر، فإن تثبيت هذا التبديل الديمغرافي وجعله جزءاً من واقع له صفة الديمومة سيسبب المشاكل أيضًا لكل أصحاب القرار في أوروبا، الذين وضعوا وظائفهم على المحك من خلال المراهنة على أن أي حلٍ لأزمة الهجرة إلى أوروبا سيشهد في النهاية حتماً عودة معظم اللاجئين السوريين.
بالمناسبة، قد ترى الأحزاب الشعبوية اليمينية في أوروبا نفسها في مأزق تضارب المصالح: فبصفتها مدافعة عن النظام السوري، تتبنى الرأي القائل بأن التعايش مع مجموعة كبيرة من السكان المسلمين شبه مستحيل، ولهذا السبب عينه تدفع باتجاه عودة اللاجئين إلى سوريا. فالمفاجأة قد تكون صاعقة، إذا تلقّت تلك الأحزاب من دمشق نبأ يؤيد بقاء ملايين السوريين المرحَّلين في أوروبا.
مع ذلك، إن سيناريو التغيير الديمغرافي العميق هذا، بعيدٌ من أن يكون صفقةً منتهية. فما زال هناك الكثير من السوريين – من جميع الاتجاهات وجميع المكونات الاجتماعية – يرفضون من أعماق قلبهم فكرة التغيير الديمغرافي، حتى أنه يمكن القول بأن هؤلاء قد يشكلوا الرأي الغالب بين السوريين. يؤمن هؤلاء السوريون بالتعايش ويرون أن التنوّع يشكّل قوّةً. هذا الاعتقاد هو أكثر من مجرّد عبارةٍ لتبرير مفهوم تعدد الثقافات، إنه واقعٌ حي. فبالنسبة لهؤلاء السوريين، ثمة مصلحة حقيقية في المصالحة، بغض النظر عن الجهة المسؤولة عن تطور الأحداث في سوريا. من هنا يمكن الجزم في النهاية، على أن النظام الذي مازال يتفاعل مع شعبه، لا يزال بحاجة إلى جزءٍ مهمٍ من السكان السوريين حتى يبقى ويحافظ على وجوده. وهكذا، يكمن مصير السوريين في خارج سورية ومصير إدلب أيضاً في العلاقة الخاصة التي تربط بين النظام وشعبه وقدرة هذا الشعب في التأثير على النظام.
من هذا المنطلق يبرز المجتمع السوري كلاعبٍ قويٍ في لعبةٍ كان من المفترض أن يسيطر عليها النظام السوري وروسيا وإيران وتركيا. ومع أن "المجتمع السوري" هو مصطلحٌ مبهمٌ وصعب الفهم بالنسبة إلى الجهات الفاعلة السياسية فيه، فربما يشكّل القوة الوحيدة التي يمكن أن تردع الواقع وتمنع الحكم في النهاية على جزءٍ كبيرٍ من سكّان سوريا بالرحيل الدائم، وتجنب البلد ويلات اندلاع جولة جديدة من الصراع في إدلب.