تمثل العلاقات الجيدة مع إقليم كردستان العراقي رصيدًا إستراتيجيًا قيما للولايات المتحدة، لكن ينبغي أن يكون الدعم من قبل إدارة بايدن مشروط.
بينما تعيد إدارة الرئيس بايدن تقويم سياسة الولايات المتحدة إزاء الشرق الأوسط، يُعتبر "إقليم كردستان العراق" من الأماكن المهمة التي يجب إيلاؤها اهتمامًا، وهو إقليم يتمتع بحكم ذاتي ويحتل موقعًا جيو-استراتيجيًا في المنطقة الأشمل. وكان الإقليم المنطقة الأكثر استقرارًا في العراق وشريكًا راسخًا للولايات المتحدة لما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن. كما لعب دورًا أساسيًا في محاربة التهديدات الجهادية من جماعات على غرار "الدولة الإسلامية" و"القاعدة" في العراق وسوريا المجاورة، ومكانًا لقي فيه الجنود الأمريكيون والدبلوماسيون والشركات من الغرب ترحيبًا.
وفي حين تعيد فيه إدارة بايدن صياغة سياستها في الشرق الأوسط، عليها الالتزام بدعم الأكراد على جبهتين مهمتين: أولًا، عليها الاستمرار في توفير الدعم لحماية "حكومة إقليم كردستان" وتمكينها لمواجهة التهديدات المتنامية التي تطرحها جماعات الميليشيات الموالية لإيران وجهاديو "الدولة الإسلامية" الذين يستهدفون الأكراد بسبب تعاونهم مع الولايات المتحدة في الإقليم بشكل رئيسي. وثانيًا، عليها أن تجعل هذا الدعم المقدّم إلى الأكراد مشروطًا بإصلاحات جدية في مجال الحوكمة المحلية وإضفاء الطابع المؤسسي على قوات الأمن من خلال وضعها تحت قيادة حكومة الإقليم وتحسين حقوق الإنسان – حيث أن هذه النقطة الأخيرة هي ركيزة سياسة بايدن الخارجية المعلن عنها.
وكان وجود الجيوش الأمريكية في كردستان قد أغضب إيران وحلفاءها من الفصائل الميليشياوية الشيعية العراقية التي شنت سلسلة من الهجمات الصاروخية على أراضي "حكومة إقليم كردستان" خلال السنة الماضية. وكان أحدثها في 15 شباط/فبراير حين أمطرت ميليشيا شيعية مدعومة من إيران وابلًا من الصواريخ على إربيل، عاصمة كردستان، مستهدفةً مطار المدينة الدولي الذي يضمّ قاعدة أمريكية وعددًا من الأحياء المدنية. وأسفر الهجوم عن مقتل شخصين، بمن فيهم مقاول عسكري أمريكي، وعن جرح أكثر من 12 شخصًا، بمن فيهم سكان محليون ومقاولون من الحكومة الأمريكية وجندي أمريكي. وأعلنت جماعة تطلق على نفسها اسم "سرايا أولياء الدم"، التي تُعتبر على نطاق واسع جماعة واجهة ميليشياوية إيرانية، مسؤوليتها عن الحادثة.
وصحيح أن الهجمات الميليشياوية ترتبط جزئيًا بمساعي طهران الرامية إلى اكتساب ميزة على واشنطن في إطار المفاوضات النووية المتوقعة، ولكن لا بدّ أيضًا من النظر إليها على أنها تندرج ضمن حملة إيرانية أشمل لترسيخ هيمنتها في المنطقة. وعليه، وكجزء من تلك الحملة، تسعى إيران وحلفاؤها العراقيون إلى إضعاف، وربما تفكيك، "حكومة إقليم كردستان" إذ إنها الطرف الوحيد الذي يقاوم عمومًا تنامي نفوذ إيران في العراق وهي صديقة للغرب في آن. وحتى في ظل سعي الولايات المتحدة إلى إحياء الدبلوماسية مع إيران، من شأن تمكين حكومة الإقليم أن يزوّد واشنطن بميزة أكبر في التعامل مع التهديدات بغض النظر عما إذا كانت قادرة على التوصل إلى اتفاق مع طهران بشأن المسائل النووية والإقليمية.
إلى ذلك، يتأتى مصدر عدم استقرار آخر من تنظيم "الدولة الإسلامية" الذي زاد أنشطته في العراق وسوريا بوتيرة بطيئة ولكن مطردة خلال الأشهر القليلة الماضية. ويُعتبر الأكراد طرفًا أساسيًا في الحملة لمكافحة التهديد الجهادي حيث تمثل إربيل مركزًا مهمًا للعمليات في الأقسام الشمالية من العراق وسوريا على السواء. وكان التنظيم قد عزز نشاطه في المناطق الحدودية بين منطقة "حكومة إقليم كردستان" وباقي أجزاء العراق. ويُعتبر التفجير المزدوج مؤخرًا الذي هزّ بغداد، بعد سنوات من توقف هذه الهجمات، مؤشرًا إضافيًا على تجدّد نشاط "الدولة الإسلامية" المتنامي ومعاناة القوات الأمنية. فالانقسامات في أوساط الجيش التابع للحكومة العراقية والميليشيات الشيعية التابعة اسميًا للحكومة تحت اسم "قوات الحشد الشعبي" لم تسهم سوى في إضعاف الجهود الرامية إلى محاربة التنظيم. كما أن التقاعس عن مواجهة التهديد الجهادي يجب أن يمثل مصدر قلق للولايات المتحدة، حيث يبيّن التاريخ الحديث لنا أن تكلفة عدم التحرك قد تكون باهظة في وقت لاحق. وبالتالي، تُعتبر كردستان أساسية لأي مسعى يرمي إلى إبقاء العنف الجهادي تحت السيطرة بما فيه أمن المنطقة الأشمل والمصالح الأمريكية.
ولكن في حين أثبتت كردستان أنها جهة فاعلة قادرة بشكل نحو كبير على مواجهة "الدولة الإسلامية" وتوفير قوة مقابلة نسبية في وجه الميليشيات الموالية لإيران في العراق، إلا أن سجل حقوق الإنسان المحلي لـ"حكومة إقليم كردستان" وحزبيها الحاكمين الرئيسيين تراجع بشكل إضافي في الفترات الأخيرة. فغالبًا ما ترد القوات الأمنية على الاحتجاجات بالعنف، كما حصل في مدينة السليمانية أواخر العام الفائت. وفي خطوة أدانتها منظمات حرية الصحافة المحلية والدولية، حكمت محكمة في إربيل مؤخرًا على خمسة صحفيين وناشطين بالسجن لست سنوات في مدينة إربيل.
ويرتبط هذا الوضع المتدهور لحقوق الإنسان بشكل وثيق بجوانب أخرى من الحوكمة في كردستان، ولا سيما السيطرة الإدارية على قوات الأمن. فضلًا عن ذلك، وبينما تمّ إحراز بعض التقدم في إضفاء الطابع المؤسسي على قوات الأمن الخاضعة لسيطرة الأحزاب وتوحيدها، إلا أن هذا الطريق لا يزال طويلًا. وكانت الولايات المتحدة والدول الأعضاء في حلف "الناتو" قد قدمت دعمًا مهمًا في هذا الخصوص، ولكن عليها ممارسة بعض الضغوط على حكومة الإقليم وأحزابها الحاكمة من أجل اتخاذ خطوات جدية على هذا الصعيد.
وعليه، وفي حين على الولايات المتحدة مواصلة تقديم الدعم الأمني إلى الأكراد باعتبارهم شريكًا قيّمًا، عليها وبشكل قاطع أن ترهن هذه المساعدة بتحسين حقوق الإنسان والحوكمة المحلية وتوحيد القوات الأمنية والتبادل السلمي للسلطة على مختلف مستويات الحكومة. ومن شأن مقاربة شاملة مماثلة إزاء الأمن وحقوق الإنسان وحوكمة أفضل – بخلاف مقاربة تعتبر هذه النقاط خيارات متعارضة في السياسة – أن تنعكس في نهاية المطاف إيجابًا على الاستقرار المحلي ومتانة النظام الكردي ككل في التعامل مع التهديدات الخارجية، التي تؤثر العديد منها على المصالح الأمريكية وجنودها في الإقليم وحتى على أمنها المحلي أيضًا.
والحال أن الدعوة إلى دعم "حكومة إقليم كردستان" في مجاليْ الأمن والحوكمة قد تبدو دعوة إلى محاولة عقيمة أخرى لبناء دولة. ولكن نظرًا إلى أن الأكراد، باعتبارهم مجتمعًا مضطهدًا منذ فترة طويلة، محاطون بجهات فاعلة عدائية تطرح تهديدًا وجوديًا عليهم، فهم مدركون تمامًا أن الدعم الغربي عمومًا والأمريكي خصوصًا أساسي لبقائهم. ويوفر ذلك درجة كبيرة من الميزة للدول الغربية الداعمة لكردستان، ولا سيما الولايات المتحدة، وعليها الاستفادة من هذه الميزة. وفي الوقت الذي تعتقد فيه الجماعات الميليشياوية الشيعية الموالية لإيران التي تزداد الآن هيمنتها على الساحتين السياسية والأمنية في العراق أن دورها في البلاد يجب أن يتصدى لدور الولايات المتحدة وأنه عليها التقرّب أكثر من الصين وروسيا، لا تزال النظرة السائدة في كردستان تتمثل باعتبار الولايات المتحدة شريكها الرئيسي. ولا بدّ من أن تعزز الآفاق القاتمة للوضع في أجزاء أخرى من البلاد، على ضوء العسكرة العميقة وتنامي نفوذ إيران وازدياد أنشطة "الدولة الإسلامية"، قيمة كردستان الاستراتيجية في مواجهة التهديدات المستمرة داخل العراق والمنطقة الأشمل. وينطوي هذا على الكثير من الاحتمالات، مما يدعو إلى مشاركة متبادلة أعمق من الطرفين.