- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مع الاهتمام بقطاع غزة، تواصل كل من روسيا والصين تحركاتهما الاقتصادية والعسكرية في الدول العربية
في الشهرين الماضيَين، واصلت الصين توسّعها الاقتصادي الإقليمي، إذ حققت تقدّمًا مركّزًا في مجال صفقات الطاقة والتنمية. وطوّرت روسيا أيضًا محفظتها الاقتصادية في المنطقة، ولو كان انتشارها محدودًا أكثر من الصين.
منذ عدة سنوات، تعرب الجماهير العربية في أنحاء منطقة الشرق الأوسط كافة عن اهتمام متزايد ببناء شراكات مع روسيا والصين، في ظل شبه إجماع على المواقف السلبية تجاه الولايات المتحدة. وقد فاقم الدعم النشط الذي تقدّمة الولايات المتحدة لإسرائيل والحرب ضد حركة "حماس" منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الآراء المعارضة للولايات المتحدة على مستوى المنطقة، وأشعل فتيل احتجاجاتٍ استثنائية مناهضة لإسرائيل والولايات المتحدة على السواء في بلدانٍ مثل مصر والأردن ولبنان.
تشير نتائج استطلاع الرأي الأخير الذي أجراه "معهد واشنطن" بين 14 تشرين الثاني/نوفمبر و6 كانون الأول/ديسمبر إلى أن الأشهر الأخيرة خلّفت أثرًا على الآراء الشعبية إزاء الأدوار الإقليمية للقوى العالمية. فتوافق غالبية المستطلَعين في الإمارات العربية المتحدة (66%) والمملكة العربية السعودية (67%) والكويت (62%) ومصر (57%) والبحرين (68%) وقطر (63%) ولبنان (72%) على البيان التالي: "لم يعد بإمكاننا الاعتماد على الولايات المتحدة، لذا علينا أن نتطلّع أكثر إلى دول أخرى مثل روسيا والصين كشريكتين". وارتفعت نسبة مؤيدي هذا الرأي بشكلٍ ملحوظ في كل من البلدان المشمولة في الاستطلاع، بما في ذلك زيادة بمقدار 11 نقطة في البحرين (مقارنة بنسبة 57% في تموز/يوليو 2022).
مع تركّز انتباه العالم على التطورات في غزة وبروز المواقف العربية المعارضة للولايات المتحدة، واصلت روسيا والصين توثيق علاقاتهما مع الدول الإقليمية خلال الشهرين الماضيين، وبعيدًا عن الأضواء في أغلب الأحيان. وتشمل أنشطة الدولتين الأخيرة في الشرق الأوسط المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية.
إنجازات الصين وروسيا الاقتصادية
بحسب استطلاعات الرأي العام الأخيرة التي أُجريت في وقتٍ سابقٍ من هذه العام، ينعكس التقدّم الاقتصادي الذي حققته روسيا والصين في الشرق الأوسط على الآراء الشعبية تجاه هاتين الدولتين في صفوف المواطنين العرب. في نيسان/أبريل 2023، أفاد بين 60 و62% من المستطلَعين في مصر والبحرين والسعودية والإمارات والكويت أنهم يعتبرون الصين "شريكًا اقتصاديًا" في المقام الأول. وشملت الخيارات الأخرى وصف الصين كشريك أمني أو كدولة صديقة من جهة، وكدولة منافسة أو عدوّة من جهةٍ أخرى.
وفي الاستطلاع عينه، رأت أغلبية المستطلَعين روسيا كشريكٍ اقتصادي في المقام الأول أيضًا في كل من السعودية (41%) والبحرين (41%) والإمارات (42%) والكويت (43%) ومصر (48%). وفي كل من الدول المذكورة، لم يعتبر سوى ثلث المستطلَعين تقريبًا الولايات المتحدة "شريكًا اقتصاديًا" وليس شريكًا أمنيًا أو دولة صديقة أو دولة منافسة أو عدوّة.
في الشهرين الماضيَين، واصلت الصين توسّعها الاقتصادي الإقليمي، إذ حققت تقدّمًا مركّزًا في مجال صفقات الطاقة والتنمية. في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، وقّعت "الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس" في مصر صفقةً بقيمة 15.6 مليار دولار مع عدد من الشركات الصينية تغطي أحد عشر مشروعًا مختلفًا في المنطقة، بما في ذلك مشاريع الوقود الأخضر ومشاريع صناعية. وتُذكّر هذه الصفقة باتفاق مشابه تم إبرامه بين الهيئة و"مجموعة الصين لاستثمارات الطاقة" (China Energy Investment) في تشرين الأول/أكتوبر وبلغت قيمته 6.75 مليارات دولار وشمل أيضًا عدة مشاريع للهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء. وعلى إثر انعقاد النسخة الثالثة من "منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي" في بكين في أوائل تشرين الأول/أكتوبر، صرف "بنك التنمية الصيني" قرضًا بقيمة 957 مليون دولار لصالح "البنك المركزي المصري" في مسعىً لتمويل المشاريع المتفق عليها خلال المنتدى.
وفي إطار "منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي" أيضًا، عززت الصين علاقاتها الاقتصادية مع دول الخليج، والسعودية على وجه الخصوص. في خلال القمة، أبرم عددٌ من الشركات الصينية، بما في ذلك "الشركة الحكومية لاستثمارات الطاقة" (SPIC) و"بنك الصين" (Bank of China) ومجموعة "باور تشاينا" (Power China Group) ومجموعة "إينرجي تشاينا" (Energy China Group)، اتفاقيات تعاون في مجال الطاقة الخضراء مع شركة "أكوا باور" السعودية. وعززت الصين أيضًا علاقاتها المالية والاستثمارية مع المملكة في الأسابيع التي تلت المنتدى، ونجحت في توقيع اتفاقية لتبادل العملات المحلية لمدة ثلاث سنوات مع "البنك المركزي السعودي" بقيمة 6.97 مليارات دولار في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر، ووقّعت أكثر من 60 مذكرة تفاهم بين شركات صينية وسعودية مختلفة في إطار "مؤتمر الاستثمار الصيني السعودي" في منتصف كانون الأول/ديسمبر. وغطت مذكرات التفاهم هذه مجالات عدة، بما في ذلك الطاقة والزراعة والسياحة والتعدين والخدمات المالية والبنية التحتية والتكنولوجيا والرعاية الصحية.
وفي بلدانٍ أخرى في المنطقة، واصلت الصين استثمارها في قطاعات النفط والغاز الطبيعي المربحة في الشرق الأوسط. في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، وقّعت شركة محطات تكرير النفط المملوكة للدولة الصينية "سينوبك" صفقتها الثانية لإمدادها بالغاز الطبيعي مع شركة "قطر للطاقة". وتعد هذه الصفقة بتزويد الصين بثلاثة ملايين طن من الغاز الطبيعي في السنة على مدى السنوات السبعة والعشرين القادمة.
وفي العراق، يبدو أن الصين ستحقق مكسبًا بالغ الأهمية في حقل "غرب القرنة 1" النفطي، وهو أحد أكبر حقول النفط في البلاد. في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، وقّع العراق اتفاقية وافق فيها على خروج شركة الطاقة الأمريكية العملاقة "إكسون موبيل" من حقل "غرب القرنة 1"، ما مهّد الطريق أمام شركة النفط والغاز المملوكة للدولة الصينية "مؤسسة البترول الوطنية الصينية" لتصبح المقاولة الرئيسية في هذا الحقل. وأعلن العراق مؤخرًا أنه ينظر في زيادة إمدادات الخام إلى الصين بنسبة 50% كجزءٍ من اتفاق النفط مقابل المشاريع المبرمة بين البلدين لمدة 20 عامًا، على أمل تسريع تطوير مشاريع الإسكان والمستشفيات في جميع أنحاء العراق.
تزيد هذه التطورات من اعتماد الصين المتزايد على نفط الشرق الأوسط. في الواقع، يأتي نصف واردات النفط الصينية، التي تعتمد عليها البلاد لتلبية 72% من احتياجات النفط لديها، من الخليج العربي. كما أن الصين هي المستهلك الأهم للنفط السعودي، وقد زادت استهلاكها للنفط الإيراني بواقع ثلاثة أضعاف في العامين الماضيَين. وفي أيلول/سبتمبر، أفادت التقارير أن الصين اشترت 87% من صادرات النفط الإيراني.
وطوّرت روسيا أيضًا محفظتها الاقتصادية في المنطقة، ولو كان انتشارها محدودًا أكثر من الصين. في العراق، أعلنت شركة النفط والغاز الروسية العملاقة "لوك أويل" أنها أبرمت صفقةً مع "شركة نفط البصرة" المملوكة للدولة العراقية تقضي بتمديد عقدها في حقل "غرب القرنة 2" النفطي لمدة 10 سنواتٍ إضافية. وأحكمت شركة "لوك أويل" أيضًا سيطرتها على حقول النفط الواقعة في المربّع رقم 10 في العراق، حيث تملك حصة الأكثرية البالغة 60%. وفي منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر، وافقت وزارة النفط العراقية على خطط تقضي ببيع شركة النفط اليابانية "إنبكس" حصتها البالغة 40% في منطقة المربّع رقم 10، ما يعزز مكانة شركة "لوك أويل" باعتبارها المشغل والمطور الرئيسي للمربّع.
أما على المستوى المالي، فأعلن رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين في أواخر تشرين الأول/أكتوبر عن إنشاء منطقة تجارة حرة بين "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي"، الذي تسيطر عليه روسيا، وإيران بحلول نهاية عام 2023. وقد تحقق هذا التطور الأخير بعد أن شهدت التجارة بين البلدين نموًا قياسيًا لتصل قيمتها إلى 350 مليار روبل (أي 3.6 مليارات دولار) في السنة الماضية. ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، بات الاقتصاد الروسي يعتمد بشكلٍ متزايد على التجارة مع دول الشرق الأوسط في ظل استمرار عزل الغرب لموسكو.
روسيا توطّد علاقاتها في مجال الدفاع
على الرغم من انتقاد روسيا الشديد لدعم الولايات المتحدة لإسرائيل على الصعيدين الدبلوماسي والعسكري، اتخذت روسيا خطواتها الخاصة في الشهرين الماضيَين لتعزيز علاقاتها الدفاعية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. فقد أظهرت روسيا على سبيل المثال التزامها المستمر بالعلاقة الدفاعية التي تربطها بالجزائر في أوائل كانون الأول/ديسمبر من خلال إرسال "أسطول البحر الأسود" الروسي إلى البحر المتوسط للمشاركة في المناورات البحرية المشتركة مع النظراء الجزائريين. وفي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، أفاد نائب وزير الدفاع الإيراني مهدي فرحي بأن روسيا وإيران أنجزتا الترتيبات التي طال انتظرها لشراء مقاتلات "سوخوي سو-35" ومروحيات روسية الصنع وتسليمها لإيران، إلا أن عدد المقاتلات الذي تنطوي عليه الصفقة غير واضح.
في ليبيا، تشير التقارير إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يشارك منذ بضعة أسابيع في محادثات مع قائد "الجيش الوطني الليبي" في شرق ليبيا خليفة حفتر بهدف إبرام صفقة دفاعية تقضي بإمداد الجيش بتكنولوجيا الدفاع الجوي وتدريب طياريه مقابل إنشاء قاعدة بحرية روسية في ليبيا. وفي 2 كانون الأول/ديسمبر، قام نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف بزيارة إلى حفتر في مدينة بنغازي هي الثالثة في هذا العام.
وعلى الرغم من أن روسيا قد حافظت على الروابط التي تجمعها بـ"الجيش الوطني الليبي" من خلال "مجموعة فاغنر"، تمثّل هذه المحادثات نقلةً نوعيةً نحو بناء علاقاتٍ رسمية. ويشكّل هذا التطور جزءًا من الجهود الروسية لبسط نفوذها والحفاظ على وجودها في منطقة الساحل كما في المتوسط، وتغيير صورة "مجموعة فاغنر" في الوقت عينه. ففي بلدانٍ رئيسية متعددة، بنت المجموعة سمعةً سلبيةً لدى عامة الشعب. وفي تموز/يوليو 2023، أي قبل أسابيع من مقتل قائد المجموعة يفغيني بريغوجين في تحطم طائرة، أعرب نحو ثلثَي المواطنين المستطلَعين في السعودية (67%) والإمارات (64%) عن آراء سلبية إلى حد ما أو سلبية جدًا تجاه مجموعة المرتزقة هذه الخاضعة للسيطرة الروسية.
وحتى خارج نطاق صفقات الأسلحة والمناورات المشتركة، يبدو أن روسيا تنشط في تنفيذ العلاقة الدفاعية الوطيدة التي تجمعها بنظام الأسد في سوريا، إذ شاركت في تكثيف قصف النظام لشمال غرب البلاد الخاضع لسيطرة المجموعات المقاتلة على الرغم من التوسط في اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في المحافظة عام 2020. ومنذ أوائل تشرين الأول/أكتوبر، أبلغت المجموعات الإنسانية المحلية والدولية عن غارات جوية متعددة نفذتها الطائرات الحربية السورية والروسية واستهدفت المستشفيات والمدارس والبنى التحتية المدنية في شمال غرب سوريا. وفي 24 تشرين الأول/أكتوبر، أبلغ "الدفاع المدني السوري"، المعروف باسم "الخوذ البيضاء"، تحديدًا عن غارة جوية روسية على مخيم "أهل سراقب" للنازحين في غرب إدلب، قيل أنها أسفرت عن مقتل خمسة مدنيين وجرح آخرين.
تشير تقديرات التقرير الأخير لـ"مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" الصادر في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر إلى مقتل أكثر من 70 شخصًا، وأكثر من ثلثهم من الأطفال، في الغارات الجوية السورية والروسية على شمال غرب سوريا منذ أوائل تشرين الأول/أكتوبر، فضلًا عن إصابة المئات ونزوح أكثر من 120 ألف شخص. وبحسب "الخوذ البيضاء"، تتزايد هذه الأعداد مع استمرار الهجمات. ومنذ بداية كانون الأول/ديسمبر، أبلغت "الخوذ البيضاء" عن 48 هجومًا استهدف المدنيين في 15 مدينةً وبلدةً، ما أدى إلى مقتل تسعة أشخاص منهم ثلاثة أطفال وامرأة واحدة.
واصلت الصين في الأسابيع الأخيرة جهودها الحثيثة لتوسيع علاقاتها الدفاعية في الشرق الأوسط، ولو على نطاقٍ أضيق بالمقارنة مع روسيا. في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، حذّر مسؤولون أمريكيون من محادثات بين الصين وسلطنة عُمان تهدف إلى إنشاء قاعدة عسكرية صينية في البلاد، على غرار المنشأة العسكرية التي بنتها الصين في جيبوتي عام 2017، وهي القاعدة الوحيدة التي تملكها الصين في الخارج اليوم. وبعد أيام، أعلنت الإمارات عن إنجاز صفقة مع "شركة الصين الوطنية لاستيراد وتصدير تكنولوجيا الطيران" تقضي بشراء أسطول من طائرات التدريب القتالية المتطورة L-15 مع تقديم الدعم الفني اللازم.
إلا أنه يجدر التحذير من نقطة مهمة في التقدم العسكري الظاهر للصين في الشرق الأوسط، ألا وهي رفض الصين المستمر للمشاركة في أي عمليات دفاعية فعلية في المنطقة. وعلى وجه التحديد، لم تبدِ بكين اهتمامًا يُذكر في الانضمام إلى التحالف الدولي الأخير الذي تقوده الولايات المتحدة المعروف باسم "تحالف حارس الازدهار" والرامي إلى توفير الأمن للسفن التجارية في ضوء الهجمات المستمرة التي تنفذها الميليشيات الحوثية على هذه السفن في البحر الأحمر. وقد تبدو الصين توّاقةً لإبرام الاتفاقات العسكرية، إلا أنها تفتقر حتى الآن للتنفيذ اللازم لكي تتمكن فعلًا من ترسيخ وجودها الدفاعي في المنطقة.