- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مجزرة داعش المنسية في دير الزور
حان الوقت لأن يؤدي المجتمع الدولي دوره، خاصة بعد ظهور بصيص من العدالة لضحايا مذبحة عشيرة الشعيطات.
يستمر شبح تنظيم الدولة الإسلامية في استحضار ذكريات مروعة في مختلف أرجاء مناطق عملياتهم وسيطرتهم السابقة. في محافظة دير الزور مثلًا، تتبادر فورًا إلى الأذهان إحدى ذكريات العنف: المجزرة التي ارتكبت بحق عشيرة الشعيطات في شرق دير الزور. ولكن في بلدات أبو حمام والكشكية وغرانيج، التي كانت مسرح هذه الهجمات المتعمدة عام 2014، يلوح اليوم في الأفق أمل بمستقبل أفضل على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية على الرغم من الصدمة التي لا تزال تطارد سكانها.
تتفرع عشيرة الشعيطات، التي تضم سكان بلدة أبو حمام وقرى الكشكية وغرانيج المجاورة لها، من عشيرة العقيدات الكبيرة التي تمتد إلى عمق العراق وكذلك سوريا. ذاع صيت عشيرة الشعيطات خلال فترة حملة تنظيم الدولة الإسلامية، من خلال مقاومتها الفريدة للتنظيم في الأيام الأولى من عملياته في سوريا والانتقام الوحشي الذي نفذه ردًا على ذلك.
لا بد من فهم العوامل التي أدت إلى المجزرة وتداعياتها التي لا تزال قائمة في المنطقة لفهم إرث داعش في سوريا، والعمل على تحقيق العدالة للضحايا وعائلاتهم.
رسم معالم الهجمات
في تموز/يوليو 2014، انتهت معارك تنظيم داعش العسكرية ضد معارضيه في فصائل "الجيش السوري الحر" و"جبهة النصرة"، التي أعيدت تسميتها الآن "هيئة تحرير الشام"، مع سيطرة التنظيم على منطقة الشحيل في شرق دير الزور، والتي شكلت نقطة العمليات الرئيسية لهذا الأخير في المنطقة. بعد سقوط الشحيل بأيدي داعش، انسحبت جبهة النصرة باتجاه الجنوب السوري، فيما انسحبت فصائل الجيش السوري الحر إلى شمال البلاد.
قام تنظيم داعش بتهجير أهالي الشحيل قسرًا على مدى أسبوعين، وبعدها طُلب منهم إعلان "توبتهم" لداعش مقابل ضمانات من التنظيم بعدم ملاحقة سكان المدينة. على الرغم من أن عشيرة الشعيطات لم تكن جزءًا من هذا الاتفاق، إلا أن الوعد بالرأفة عكس استراتيجية داعش في كل منطقة وقعت تحت سيطرته خلال تلك الفترة. تصدرت الشحيل القتال ضد داعش، وبالتالي، تُركت منطقة الشعيطات في الجنوب، بما في ذلك بلدات أبو حمام والكشكية وغرانيج الثلاث، لمصيرها عندما أبرمت الشحيل الاتفاق.
بعدها، أرسل تنظيم داعش بعض ممثليه إلى بلدات الشعيطات. كانت المعارك في هذه المنطقة قد انتهت أصلًا، واعتبرت قيادة داعش أنه من الضروري التوصل إلى اتفاق مع قبيلة الشعيطات، لا سيما في ما يتعلق بآبار النفط الخاضعة لسيطرة الشعيطات. وكان وجهاء الشعيطات قد وضعوا شروطًا مسبقة، بما فيها منع تنظيم الدولة الإسلامية من التمركز داخل بلدات الشعيطات، ووافق التنظيم بدوره على ذلك شرط أن تخضع منطقة الشعيطات بأكملها لسيطرته. كما نص الاتفاق على بقاء بعض الآبار تحت سيطرة العشيرة فيما تخضع الأخرى لسيطرة داعش.
اتضح لاحقًا أن تنظيم داعش استغل هذه الاتفاقات لاستمالة أكبر عدد ممكن من السكان والعشائر في هذه المرحلة المبكرة المهمة مع سيطرته على معظم ريف دير الزور الشرقي والغربي والشمالي، من دون أن ينوي فعليًا الوفاء بوعوده.
لم يدم الاتفاق بين داعش وعشيرة الشعيطات إلا قرابة شهر واحد. وحتى خلال تلك الفترة، نشبت مواجهات حول قضايا مثل ارتداء الحجاب وإطالة اللحى وقيود اجتماعية أخرى فرضها التنظيم. كان ما يسمى بجهاز الحسبة التابع للتنظيم يدخل بشكل دوري بلدات الشعيطات لإعطاء التعليمات وفقًا لقيم التنظيم ومبادئه، والتي لم يكن أهالي الشعيطات يكترثون لها كونهم كانوا عازمين على الاستمرار في ممارسة حريتهم.
ولكن الحادثة التي أبطلت الاتفاق رسميًا حصلت في نهاية شهر تموز/يوليو، عندما داهمت دورية تابعة لداعش منزل رجل مطلوب في أبو حمام، علمًا أن الاتفاق كان قد حظر تنفيذ مداهمات عسكرية ضد سكان البلدات الثلاث من قبل داعش، على أن يتم التنسيق بشأن أي اعتقالات مع وجهاء عشيرة الشعيطات.
قاوم المطلوب دورية داعش التي داهمت منزله لاعتقاله وقُتل خلال تبادل إطلاق النار. كما اشتبكت عائلته مع الدورية وقتلت جميع أفرادها، وأحرقت إحدى نقاط التفتيش التابعة لداعش واعتقلت المسؤولين عنها. كانت هذه هي الشرارة الأولى التي دفعت عشيرة الشعيطات بأكملها إلى الانتفاض ضد التنظيم ومحاربته.
رد تنظيم داعش بشن هجوم خلال الأسبوع ذاته، فاعتقل أكثر من 50 عاملًا مدنيًا من بلدة الشعيطات كانوا يعملون في حقل التنك النفطي في شرق دير الزور.
ولاحقًا، خاض وجهاء العشيرة مفاوضات مع داعش للإفراج عن الأسرى من الجانبين. وبالفعل، التزم أهالي الشعيطات بنتائج المفاوضات وأطلقوا سراح عناصر داعش العشرة الذين تم اعتقالهم خلال مداهمة نقطة التفتيش. ولكن رد داعش كان صاعقًا للعشيرة بأكملها.
فبدلًا من إطلاق سراح الرهائن، نشر تنظيم داعش شريط فيديو يُظهر إعدامه للأسرى المدنيين بدم بارد وطمرهم في مقبرة جماعية.
أدى هذا العنف إلى انتفاض الشعيطات على مقار داعش الواقعة خارج حدود مناطق العشيرة، ما أدى إلى مقتل عناصر التنظيم وإحراق مقاره في بلدات سويدان الجزيرة والطيانة وحدود الباغوز ومناطق أخرى خاضعة لسيطرة داعش.
عندها، استحصل تنظيم داعش على فتوى تبرر قتله لأفراد العشيرة على نطاق واسع. فقد اعتمد التنظيم على الفكر الديني واستخدام الفتاوى كسلاح للسيطرة على عقول أعضائه وقادته، والاستيلاء على مساحات شاسعة، وذبح مجموعات من الأشخاص على أساس الهوية. وفي هذه الحالة، أصدر المدعو أبو عبد الله الكويتي فتوى مفادها أن أهل الشعيطات ينتمون إلى "جماعة ترفض الانصياع للحكم الإسلامي بالسلاح." وتابع النص مؤكدًا أنه "لا يجوز عقد هدنة معهم ولا إطلاق سراح أسراهم لا بالمال ولا بأي وسيلة أخرى. ولا يجوز تناول لحوم الحيوانات التي يذبحونها، ولا يجوز لأحد أن يتزوج نساءهم. ويُسمح بقتل أسراهم ومطاردة كل من يهرب منهم وقتلهم. كما يسمح بقتل المصابين من بينهم، ويجب مقاتلتهم حتى لو لم يبدأوا القتال."
بحسب المنطق الديني لهذه الفتوى، يجب اعتبار جماعة مثل الشعيطات جماعة كافرة ويجب محاربتها، وفقًا لجميع علماء الإسلام، حتى لو لم تنكر الجماعة صحة الشريعة. باستخدام هذا التبرير، استقدم تنظيم داعش تعزيزات عسكرية كبيرة من محيط محافظة الحسكة إلى شمال دير الزور. فحاصرت هذه القوات عشيرة الشعيطات من جميع الجهات، محولةً مصير الجماعة إلى مسألة حياة أو موت. وعلى الضفة الشرقية لنهر الفرات، مقابل مناطق الشعيطات، كانت المليشيات الإيرانية والتابعة للأسد بكل بساطة تراقب الوضع وتنتظر.
في 5 آب/أغسطس 2014، أعلنت الدولة الإسلامية مدينة أبو حمام منطقة عسكرية ودعا المدنيين إلى إخلائها. وبدأ بقصفها بالمدفعية وقذائف الهاون، ليباشر بعدها توغله. وبعد خمسة أيام، سيطر التنظيم بالكامل على المدينة، بالإضافة إلى قريتي غرانيج والكشكية المجاورتين. فانسحب عناصر المعارضة المسلحة وفر الآلاف من سكان قرى جنوب البوكمال خوفًا من انتقام داعش. وتشير التقديرات إلى أنه سقط لدى الشعيطات ما بين ألف وألف وخمسمئة شهيد في مواجهة داعش. تيتم الآلاف، وأُحرقت القرى والبلدات، وصودرت الممتلكات. كما منع التنظيم الأهالي من العودة وطارد المهجرين وقتل من وجدهم في البلدات والقرى المجاورة.
التماس العدالة
استمرت الشعيطات في محاربة داعش حتى بعد المجزرة، إذ انضم شبابها إلى صفوف "قوات سوريا الديمقراطية"، المدعومة من التحالف الدولي لمحاربة داعش. ولعب أبناء عشيرة الشعيطات دورًا رئيسيًا في القتال ضد التنظيم، لا سيما على الجبهات الأمامية لمعارك الباغوز، وحتى قبل ذلك، ما أدى في النهاية إلى إنهاء وجوده العسكري. ويواصل أفراد العشيرة المساعدة في العمليات الاستخباراتية التي تستهدف أعضاء داعش، فيما انضم أفراد آخرون من العشيرة إلى قوات النظام وفصائله للثأر من القتلة.
علاوةً على ذلك، لا تزال العشيرة تدفع ثمن معارضتها لداعش. فحتى بعد إعلان هزيمة داعش عسكريًا في سوريا والعراق، استخدم التنظيم خلاياه النائمة لزعزعة استقرار المنطقة من خلال الاغتيالات، مستهدفًا بشكل خاص القيادات العشائرية. ويُعد ريف دير الزور الشرقي من أكثر المناطق تضررًا في دير الزور.
بالنسبة إلى من ظلوا في المنطقة، ما زال الكثيرون منهم يعاني من آثار التهجير والألم المستمر الذي لحق بهم من جراء خسارة أعزائهم. ولكن المأساة ساهمت بالمقابل في توحيد أسر المخطوفين في بحثها عن الحقيقة والعدالة. فقد أطلقت عائلات الضحايا مبادرات مدنية لتوثيق المجزرة، من خلال سرد قصصها عن المأساة للعالم. ويقول أفراد العشيرة إنهم يسعون إلى "توحيد منصات عائلات المختفين قسرًا على أيدي داعش من أجل بناء القضية كقضية إنسانية وحقوقية وسياسية." كما يسعون إلى تقديم أدلة على المظالم التي تعرض لها السوريون، ودحض الصورة النمطية التي قدمها البعض والتي توحي بأن ريف دير الزور يدعم داعش.
وبالفعل، تُظهر المجزرة وعواقبها كيف عارضت عشيرة الشعيطات وجود داعش منذ البداية وساهمت إلى حد كبير في القضاء على التنظيم في أوج قوته. قد يكون الخطاب الذي استخدمه تنظيم داعش للإشارة إلى من هم تحت سيطرته مضللًا، إذ قامت إحدى استراتيجيات داعش على إرغام السكان على مبايعته. وقد رضخت معظم القرى والبلدات لهذه المبايعات إما بدافع الخوف أو الجشع. وساهمت هذه المبايعات القسرية في توسع داعش وشرّعت في الوقت عينه الممارسات داخل التنظيم. كما سمحت له هذه الأيديولوجيا باستهداف هؤلاء الأشخاص بالذات من دون أن يرف له جفن.
بالنسبة إلى عائلات الضحايا، فهي ما زالت تدفع ثمنًا باهظًا. وجدت النساء أنفسهنّ مسؤولات بمفردهنّ عن إعالة أسرهنّ في ظل أوضاع اقتصادية هشة بعد أن فقدن أبناءهنّ وأزواجهنّ في معظم مناطق دير الزور. فمعظم الوظائف المتاحة لا توفر رواتب كافية لإطعام الأفواه الجائعة في المنزل. في غضون ذلك، ما زال أفراد العائلات من الذكور الناجين محاصرين في دوامة العنف، إذ يضطرون في الكثير من الأحيان إلى الانضمام إلى صفوف المقاتلين في مناطقهم لإعالة أسرهم.
لم يتمكن المئات من أسر الضحايا من التعرف على جثث أحبائهم أو دفنها. ففي كل مرة يتم اكتشاف مقبرة جماعية جديدة، تهرع هذه العائلات إلى الموقع، علها تعثر في النهاية على جثث أفرادها المفقودين. وعندما تجدها، تتجدد مأساتها، إذ تبقى عالقة في حالة انتظار أليم إلى أن يتم اكتشاف مقبرة جماعية أخرى.
مؤخرًا، بدأت بوادر تحقق العدالة تلوح في الأفق. فقبل أشهر، في نيسان/إبريل 2022، أدانت محكمة ألمانية رجلًا يُدعى "رائد ي." على خلفية ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وبحسب البيان الصادر عن النيابة العامة، كان المتهم قد شارك في المجازر المرتكبة بحق أهالي الشعيطات. كما وثقت مستندات المحكمة سجلات مروعة عن تعذيبه لثلاثة أسرى، إذ تشير التقارير إلى أن المتهم قام بتكبيل أيدي الضحايا، بمن فيهم طفل يبلغ من العمر 13 عامًا، وتعليقهم في السقف، وضربهم بالسياط والأسلاك، وصعقهم بالكهرباء.
شكلت هذه المحاكمة خطوة مهمة في إدانة مرتكبي المجزرة. ولكن العدالة الكاملة للضحايا ما زالت بعيدة المنال، ولا بد من الاستمرار في الكشف عن هذه الجرائم وملاحقة مرتكبيها. في التاسع من آب/أغسطس من كل عام، يحيي أهالي الضحايا ذكرى المجزرة، محاولين لفت أنظار العالم لما حدث قبل ثماني سنوات على يد داعش، وكلهم أمل بمعرفة مصير المفقودين والعثور على جثث الضحايا بغية دفنهم بشكل لائق.
في الذكرى السابعة لمجزرة الشعيطات عام 2021، شاركت السفارة الأمريكية في سوريا بإحياء ذكرى المجزرة عبر منشور باللغتين العربية والإنجليزية، واصفةً ما حدث بأنه مجزرة بحق أبناء عشيرة الشعيطات الأبرياء، ومعتبرةً داعش تنظيمًا بربريًا، مع الاعتراف بالتضحيات التي قدمتها العشيرة خلال تحرير المنطقة من داعش.
بما أن هذه المناطق باتت خاضعة اليوم لسيطرة التحالف الدولي، ومع الاعتراف بشكل خاص بآلاف الشباب العشائريين الذين شاركوا في المعارك التي أدت إلى انتصار التحالف الدولي على داعش، من الضروري بذل المزيد من الجهود العملية لمساعدة الشعيطات على إعادة بناء وحماية ذاتها. أولًا، يجب على التحالف الدولي توفير حماية أفضل للشخصيات العشائرية الناشطة التي تضطلع بدور مهم في تقويض الوجود المتبقي لداعش، فيمنع بذلك اغتيالها.
كما أن المنطقة بحاجة ماسة إلى مشاريع البنية التحتية، مثل بناء المستشفيات والمرافق الطبية، وإنشاء المختبرات، وتوفير فرص عمل للشباب. تضطلع البنية التحتية لكل من مياه الشرب والري بأهمية خاصة، لا سيما وأنها تحد من انتشار الكوليرا الذي أصبح جد خطيرًا في المناطق الريفية.
سيسمح دعم المشاريع المدنية القائمة في تلك المناطق وإشراك أفراد العشيرة فيها بالتحول من النشاط العسكري إلى النشاط المدني، الذي يعتمد عليه حاليًا الكثير من الرجال لإعالة أسرهم. ويُعد دعم الاحتفالات والأنشطة التذكارية التي تعترف بمساهمات الجماعة في مكافحة التطرف وتضحياتها أساسيًا كذلك من الناحية المعنوية، بالإضافة إلى الدعم المالي لضحايا المجزرة.
باختصار، لا ينبغي أن تكتفي الولايات المتحدة بالتعبير عن تعاطفها مع هذه المنطقة بصورة عابرة، إذ يجب على هؤلاء الحلفاء القيام بواجباتهم الإنسانية تجاه الشعيطات وأبنائها من خلال منحهم العدالة في ما يتعلق بالمجزرة الوحشية التي ارتُكبت بحقهم. من خلال الاعتراف بأن أولئك الذين قاتلوا وضحوا في سبيل هزم داعش يحتاجون إلى الدعم، لدى الولايات المتحدة فرصة لتكون نموذجًا يحتذى به في إرساء العدالة والإنسانية في تلك المجتمعات التي عانت وما زالت تعاني من جرائم التنظيمات الإرهابية.