- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2838
مكاسب قصيرة الأمد لمقامرة عباس، لكن مقابل أي ثمن نهائي؟
في 26 تموز/يوليو، وفي محاولته إعادة بناء علاقاته وأهميته الدبلوماسية والسياسية، هدّد الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالتصعيد ما لم تبطل إسرائيل جميع الاجراءات المتخذة في القدس في أعقاب الاعتداء الإرهابي الذي وقع 14 تموز/يوليو وأودى بحياة شرطيين إسرائيليين. ولم يكن هذا التهديد بالتصعيد عنيفاً في الظاهر، بيد أنه ينطوي على مخاطر عالية للغاية نحو الخروج عن نطاق السيطرة. وبعد وقت قصير من إدلاء عباس بتصريحاته، أزالت إسرائيل ما تبقّى من الهيكليات الأمنية بعد أن كانت قد أبعدت بالفعل أجهزة كشف المعادن - التي تمّ تركيبها في أعقاب اعتداء 14 تموز/يوليو وشكّلت الشرارة الأساسية للسخط الفلسطيني - استجابةً للدبلوماسية الأردنية والدولية.
وفي حين نسب عباس الفضل في انتهاء الأزمة إلى نفسه، ليس من المعروف ما إذا كان سيتمكن من السيطرة على التطورات على الأرض. وتتحمل إسرائيل بعض اللوم أيضاً. فلو أنها عمدت إلى تطبيق قرارها بالعودة بشكل أسرع إلى الوضع الذي كان سائداً قبل 14 تموز/يوليو، لكانت الأزمة قد انتهت بنصرٍ للدبلوماسية الإسرائيلية والأردنية والدولية.
الخلفية
منذ اندلاع أزمة "الحرم القدسي الشریف/جبل الھیکل" في 14 تموز/يوليو التي أسفرت عن مقتل شرطيين إسرائيليين وإقدام القوات الإسرائيلية بعدها على قتل مطلقي النار، اعتُبر كل من عباس و"السلطة الفلسطينية" وحركة «فتح» غائبين إلى حدّ كبير. وكانت إسرائيل والأردن الطرفين الدبلوماسيين الرئيسيين في هذه الأزمة، حيث كان قد تمّ الاعتراف بالمملكة الهاشمية على أنها الوصيّة على الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس، وذلك في كل من معاهدة السلام التي وُقّعت عام 1994 بين الأردن وإسرائيل وفي معاهدة عام 2013 بين الأردن والفلسطينيين. وفي غضون ذلك، لم يكونوا سكان القدس الفلسطينيين المتورطين في الأزمة مرتبطين أساساً بأي حركة سياسية. وفي حين أدلى قادة حركة «فتح» و"السلطة الفلسطينية" بتصريحات منذ البداية، وكثير منها كانت تحريضية، إلّا أن دعوات «حماس» الناشطة والمنسّقة بشكل جيد والتي دعت للتصعيد قد هيمنت على الرسالة العلنية. وحيث شعر عباس بتهميشه المتزايد، تصرف وفق تهديد «فتح» القائم منذ فترة طويلة بقطع التعاون الأمني مع إسرائيل. غير أن هذه الخطوة الصارمة لم تستقطب الكثير من الاهتمام في الشارع الفلسطيني وطغت عليها المواجهات التي اندلعت يوم الجمعة 21 تموز/يوليو وقُتل فيها ثلاثة فلسطينيين وأعقبها لاحقاً إزالة أجهزة الكشف عن المعادن.
غير أن إزالة أجهزة الكشف التي حصلت على الأرجح في وقت متأخر من مساء 24 تموز/يوليو لم تنهِ الأزمة، وذلك نظراً لبقاء البنية التحتية الأمنية الأساسية في مكانها - وبشكلٍ خاص السقالات الحديدية المستخدمة لتركيب كاميرات المراقبة الأمنية. وواصل المصلّون المسلمون رفض دخول "الحرم القدسي الشریف/جبل الھیکل" من دون العودة التامة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل 14 تموز/يوليو. واستغلت حركة «حماس» هذه التطورات، حيث دعت إلى "يوم غضب" يوم الجمعة 28 تموز/يوليو. فقد واجهت هذا الوضع المتطور من خلال دعوة عباس إلى اتخاذ تدابير تصعيدية تهدف بوضوح إلى استعادة أهميته ومكانته.
التحليل
على المدى القصير، أتت خطوة عباس بثمارها. فبعد وقت قصير من تصريحاته، أجرى مكالمة هاتفية - الأولى له منذ اندلاع الأزمة - مع العاهل الأردني الملك عبدالله وافق خلالها الزعيمان على التنسيق، مما رسّخ عملياً مكانة عباس من جديد كمحاور أساسي. ومن الناحية السياسية، سمح لنفسه الادعاء بأن تحديه أجبر إسرائيل على التراجع عن كافة التدابير الأمنية التي اتخذتها.
غير أن هذه المكاسب الفورية قد تكون مكلّفة للغاية على المدى الطويل. ومن غير المرجح أن يكون الأردن، الحريص دائماً على حماية دوره الخاص والمتميز في القدس، سعيداً بمشاركة المنصة الدبلوماسية مع عباس (والتنازل عنها في وقت لاحق لصالحه)، كما أن العلاقات المتوترة أساساً بين "السلطة الفلسطينية" والأردن قد تتفاقم نتيجة لذلك. وقد يخسر الآن عباس - الذي واجه انتقادات من قبل المجتمع الدولي بسبب سوء إدارته وسلبيته الدبلوماسية - ما تبقى من أصول السمعة الأساسية لديه، وهي: التزام متصوّر بعدم اللجوء إلى العنف.
وعلى الأرض، قد تؤدي خطوة عباس إلى دوامة جامحة تتسبب في تدهور الوضع الأمني في الضفة الغربية. وبالفعل، بدأ نشطاء حركة «فتح» بالإعداد لنشاط مثير، كما أن التوترات عالية بسبب الإجراءات الإسرائيلية في القدس والخطاب التحريضي القادم من مختلف الدوائر الفلسطينية والعربية. وإذا جرت مظاهرات كبيرة يوم الجمعة، سواء كانت للاحتجاج أو للاحتفال، سيكون خطر التصعيد ملموساً. أما نشطاء «فتح»، الذين يشعرون بالإحباط منذ فترة طويلة على ما يعتبرونه إهمال عباس ويُعرفون بعدم الانضباط في أفضل الظروف، فقد يتجاهلون دعوات الرئيس الفلسطيني لإبقاء التظاهرات سلمية. وتضم لائحة النشطاء فصيل "التنظيم"، وهو عنصر مسلح تابع لحركة «فتح» شارك في الأعمال الإرهابية خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، واشتبك خلال الأشهر الأخيرة بشكل متقطع مع قوات الأمن التابعة لـ "السلطة الفلسطينية"، ولا سيما في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية. ومن ناحية أخرى، لدى حركة «حماس»، التي سعت منذ فترة طويلة إلى إشعال فتيل المواجهات في الضفة الغربية بهدف إضعاف عباس و"السلطة الفلسطينية"، عدد كبير من الحوافز لجعل الاحتجاجات عنيفة، وهي مهمة سهلة نسبياً. وفي المقابل، قد يؤدي رد مفرط من جانب إسرائيل إلى ارتفاع عدد الإصابات في صفوف الفلسطينيين.
أما بالنسبة لإسرائيل، فإن عدم العودة بشكل كامل وفوري إلى الوضع الذي كان سائداً ما قبل 14 تموز/يوليو في أعقاب التفاهم الدبلوماسي مع الأردن، أفسح المجال أمام عباس للوقوع في سياسة حافة الهاوية التي ينتهجها. وبالفعل، فبعد أن قررت إسرائيل التخفيف من حدّة الأزمة، بدأت تعتمد خطة التنفيذ البطيء لتجرّد بذلك الخطوة من قوتها التحسينية المحتملة. وستهيمن الآن القوى التي تهدّد بالتصعيد على مشهد الرد على - إن لم يكن حل - أحد عناصر الأزمة، وهو "الحرم القدسي الشریف/جبل الھیکل"، بدلاً من الدعوة للدبلوماسية التي سيتم إضعاف مؤيديها.
وستتمثل إحدى النتائج الأخرى لهذه التطورات زيادة توتر العلاقات بين إسرائيل والأردن. وعلى الرغم من التوصل إلى حلّ ظاهري لحادثة 23 تموز/يوليو التي أقدم فيها حارس أمن إسرائيلي في سفارة البلاد في عمّان على قتل مهاجم وأحد المارة، بقيت القضية متأزمة وتسببت بازدياد العلاقات سوءاً بين البلدين. واعتُبر التعاون بين إسرائيل والأردن حول هذه المسألة في بادئ الأمر - على الرغم من أن كلا الجانبين أنكرا رسمياً وجود أي مقايضة - المحرك لإنهاء أزمة القدس. بيد أنه رداً على التطورات في القدس، دعا العاهل الأردني إسرائيل في 27 تموز/يوليو، إلى مقاضاة الحارس بدلاً من معاملته كبطل.
الخاتمة
وبالنسبة لجميع الأطراف، تتمثل الأولوية القصوى بالتعاون إلى أقصى حد ممكن لضمان عدم تدهور الوضع الأمني يوم الجمعة 28 تموز/يوليو [قُتل فلسطينيَيْن اثنيْن في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأول عندما حاول مهاجمة جنود إسرائيليين بسكين، قرب الخليل، والثاني في مواجهات عنيفة بالقطاع، في "يوم غضب" فلسطيني احتجاجاً على تقييد الشرطة الإسرائيلية الدخول إلى المسجد الأقصى أثناء أداء صلاة الجمعة. وأجبرت قوات من الشرطة والوحدات الخاصة في جيش الدفاع الإسرائيلي" والمخابرات - كانت قد استبقت يوم الجمعة بتعزيزات زاد قوامها على 5 آلاف عنصر - عشرات آلاف الفلسطينيين على أداء صلاة الجمعة في شوارع مدينة القدس، وسمحت لمن تتجاوز أعمارهم الخمسين عاماً فقط بالدخول إلى المسجد]. وتحقيقاً لهذه الغاية، على واشنطن إقناع الفلسطينيين بالضرورة الملحة لاستئناف التعاون الأمني وإقناع الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء بأهمية الحد من احتمالات المواجهة وممارسة أقصى قدر من ضبط النفس. وعلى وجه الخصوص، يتعين على كل من إدارة ترامب وحلفائه العرب الإقليميين أن يُفهموا عباس بشكل واضح أن التهديد باللجوء إلى العنف، ولو بشكل ضمني، غير مقبول وتترتب عليه تكاليف واضحة وجلية.
وحالما ومتى زال الخطر الأمني الوشيك، فإن أحد الدروس الرئيسية المستفادة من هذه التطورات، هو أن الفشل في التعويل على الدبلوماسية بشكل كامل أثناء الأزمات - والاعتماد على الدبلوماسية لحل الأزمات - سيشجع مؤيدي العنف الذين سيكونون دائماً على استعداد لملء الفراغ.
غيث العمري هو زميل أقدم في معهد واشنطن ومؤلف تقريره الأخير "الحوكمة كمسار نحو التجدد السياسي الفلسطيني". وقد عمل سابقاً في مناصب استشارية مختلفة مع السلطة الفلسطينية.