- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
عملية السلام بين العرب وإسرائيل هي أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى
خلال فترة التسعينيات ومطلع عام 2000، كانت وسائل الإعلام الأمريكية تشير إلى الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني على أنه "عملية السلام في الشرق الأوسط"، وكان ذلك دليلاً على على التطورات السياسية الإيجابية التي تحققت في اتفاقيات "واي ريفر" و "أوسلو" تحت قيادة الرئيس الأمريكي السابق "بيل كلينتون"، والذي أعلن نفسه "وسيطاً صادقاً لعملية السلام"، إذ اتخذ مختلف التدابير اللازمة لمعالجة مظالم كلا الطرفين. فكان قاب قوسين أو أدنى من التوصل لصيغة فعالة حول الوضع النهائي؛ لكنه أعلن فيما بعد على أن الخلافات السياسية الموضوعية بين الطرفين لم تؤثر كثيراً على مسار المفاوضات، بقدر ما كانت "المماطلة" هي السبب الرئيسي وراء انهيار ذلك المسار.
وعندما تولى الرئيس "جورج دبليو بوش" مقاليد الرئاسة بعد كلينتون، قام بالبناء على ما أنجزه سلفه، حيث حصل على بعض التنازلات الأساسية من رئيس الوزراء اليميني العنيد "أرييل شارون"، ومن الوفد الفلسطيني الصعب المراس، فبدت المباحثات ناجحة أكثر من أي وقت مضى؛ غير أن سلسلة الهجمات الإرهابية التي حدثت في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، أدت إلى إبعاد الولايات المتحدة عن عملية السلام، لتصبح الكرة في ملعب المملكة العربية السعودية والملك عبد الله. وقد حاولت هذه الأخيرة المضي بالعملية، حيث طرحت فكرة السلام مقابل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة، لكن الآثار المريرة التي نتجت عن محادثات "كامب ديفيد"، والمقترنة بالريبة والشك المتبادل بين الطرفين، أدت إلى انهيار تلك الفكرة، وبدا أن كلا الطرفين ليس لديهما أي استعداد للمشاركة في المحادثات، ما لم تحقق لكل واحد منهما تقدماً سياسياً ملحوظاً.
وأما في يومنا هذا، فقد غاب الدعم الأجنبي الذي كان يمثل القوة المحركة لمحادثات السلام السابقة؛ فالولايات المتحدة - إلى جانب الدول العربية - أصبحت منشغلة بإدارة الصراعات العربية البينية، والتي أدت إلى سقوط آلاف الضحايا منذ منتصف العقد الماضي. كما أن السياسة العالمية غير الرسمية أعطت الأولوية لتسوية الصراعات الأكثر دموية، تاركة الصراع العربي الإسرائيلي في مرتبة ثانوية. ومع كل ذلك، مازال هذا الصراع حاضراً، بل صار أكثر حضوراً وإلحاحاً من أي وقت مضى، حيث ساهم في تشكيل الآلة الدعائية القوية للجماعات المشاركة في حروب الشرق الأوسط؛ فمثلاً، رفع الحوثيون الذين يقاتلون القوات الموالية للحكومة اليمنية شعارات مشينة كانت تستخدمها إيران وتضعها على علمها الرسمي، مثل: "الموت لأمريكا والموت لإسرائيل". كما أن «حزب الله» - الذي خاض عدة حروب ضد إسرائيل، وأحد الحلفاء الرئيسيين للرئيس السوري "بشار الأسد"- مازال مستمراً في حشد وجذب اتباع جدد، من خلال قوة خطابه المعادي لإسرائيل. ومن ناحية أخرى، فإن التوصل إلى تسوية سلمية للصراع العربي-الإسرائيلي، من شأنه أن يجرد إيران من دعمها المادي والمالي للجماعات الإرهابية التي تعارض وجود إسرائيل.
إن مجهودات السلام التي تبذل حالياً لتسوية هذا النزاع تعاني من تخبط شديد، وذلك لأن عملية السلام بين كلا الجانبين -الفلسطيني والإسرائيلي - تقدم فقط، حوافز قليلة للطرفين على حد سواء، حيث يرى بعض الساسة الإسرائيليين أن الوضع الراهن يمكن السيطرة عليه وإدارته بشكل جيد، طالما أن «حماس» لن تحصل على صواريخ متطورة. أما الفلسطينيون فهم يرون أن موقف "بنيامين نتنياهو" من مسألة القدس واللاجئين ووضع الحدود النهائية؛ كان سبباً في تراجع عملية السلام.
ولا تنحصر المشكلة هنا، في مواقف طرفي الصراع، بل تتجاوز ذلك إلى مسألة عدم تطوير الإطار التوجيهي التقليدي لعملية السلام، والذي عفا عليه الزمن، إذ بقي منحصراً في التنصيص على مبدأ الأرض مقابل السلام. وفى ظل تلك الوضعية تستمر معاناة الفلسطينيين من انقسام حاد بينهم؛ فلا «حماس» ولا "السلطة الفلسطينية" لديهما الرغبة في تحقيق انفراج سياسي لعملية السلام. فالرئيس الحالي للسلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) يولي اهتماماً شديداً لحماية إرثه أكثر من اهتمامه بحل الصراع، بينما نجد «حماس» منشغلة بحماية أعمالها وبسط نفوذها الأمني على قطاع غزة. وأما على الجانب الإسرائيلي، فالموقف ما زال أكثر تعقيداً، حيث يرى خبراء الأمن والدفاع الإسرائيليَيْن ضرورة الإبقاء على مرتفعات "الجولان" لحماية حدود إسرائيل مع الضفة الغربية، ولبنان، وسوريا.
وأساساً، فإن معادلة الأرض مقابل السلام التي تمت تجربتها، لن تساهم في حل الواقع الجيوسياسي الحالي الذي تطور وتفاقم على مدى الإثني عشر عاماً الماضية. ومع ذلك، يمكن استبدال الإطار القديم، والذي عفا عليه الزمن، بمبادرات دولية متعددة الأطراف، تقودها الولايات المتحدة، وتدفعها العلاقة الاستراتيجية المتنامية مع إسرائيل والرغبة في مواجهة الهيمنة الإيرانية الإقليمية. فخلال السنوات المريرة للحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة تنظر إلى إسرائيل باعتبارها حصناً ضد النفوذ السوفياتي التوسعي في الدول العربية، وكقوة رادعة إذا ما حاول العرب غلق طرق النفط التجارية الرئيسية؛ إلا أن الوضع -اليوم- مختلف تماماً. فعلى الرغم من محاولات "بوتين" الأخيرة لتأكيد حضور بلاده في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن النفوذ الروسي يقتصر فقط، على معاقله التقليدية في سوريا. وعلى النقيض من ذلك، فالدول الرئيسية المنتجة للنفط مثل: المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، تتمتع بتحالف عسكري واقتصادي متميز وقوي مع الولايات المتحدة. ومن ثم، يجب على الأمريكيين أن يسعوا جاهدين إلى تعزيز وإنشاء تحالف عربي -إسرائيلي موحد، لمواجهة التهديد العسكري الإيراني بشكل أكثر جدية من ذي قبل، خاصة مع تحرك إيران لامتلاك صواريخ باليستية متطورة.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد بذلت جهوداً دبلوماسية غير عادية خلال مساعي السلام السابقة، وعززت علاقاتها مع القيادة الفلسطينية، فإن المشهد السياسي الفلسطيني لا يزال غامضاً بأكمله بالنسبة إلى الدبلوماسيين الأمريكيين المنشغلين بحل صراعات أخرى كثيرة تفوق طاقاتهم. ومن ثم، يجب أن تظل المحادثات تحت رعاية الولايات المتحدة، شريطة العمل الجماعي والتواصل الفعال. فقد يؤدي قيام الولايات المتحدة بفك ارتباطها بالصراع العربي- الإسرائيلي إلى العديد من التداعيات التي قد تنعكس سلباً على السلطة الفلسطينية التي ينظر إليها الكثير من الفلسطينيين على أنها فاسدة وغير فعالة. وبكل صراحة ووضوح، سيكون من المستحيل التوصل إلى سلام دائم دون تأهيل جيل جديد من القادة الفلسطينيين المعتدلين الذين يستطيعون التفاوض نيابة عن شعبهم. وقد يدفع هذا السيناريو الكثير من الدول العربية إلى الاهتمام بالمناخ السياسي الفلسطيني أكثر من الغرب.
ومن جهة أخرى، يستوجب على إسرائيل والعرب الاستفادة من النجاح الاقتصادي الذي حققته دول «مجلس التعاون الخليجي»، كما يمكن للخبراء الإسرائيليين الذين لهم دراية علمية كبيرة، أن يساعدوا الدول العربية على إعادة بناء البنية التحتية بشكل أكثر كفاءة. ومن ثم، يبدو أن التوسط في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ممكن في نطاق ضيق، ودون الحاجة إلى التركيز على القضايا الطائفية الأخرى أثناء معالجة هذا الصراع. وإذا ما اتخذت المفاوضات مساراً جدياً وناجحاً، فإن الذين يخوضون حروباً طائفية تحت ذريعة الإضرار بمصالح إسرائيل، سيفقدون الكثير من شرعيتهم ومصداقيتهم.
وكما أفادت الأمم المتحدة مؤخراً، فإن النتائج المترتبة على الاستمرار في النأي عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ستكون لها عواقب وخيمة. فقد حذرت الجميع بالإشارة إلى أن "حل الدولتين أصبح في خطر"، وأن "هناك أكثر من 900,000 لاجئ سيكونون بحاجة إلى مساعدات إنسانية خلال عام 2016". وأخيراً فإن التقييم غير المتفائل لمسار عملية السلام في الشرق الأوسط، هو بمثابة نداء غير مباشر للقوى العالمية لإقناعها بالعودة لطاولة المفاوضات، على اعتبار أن هذا الإجراء هو السبيل الوحيد لتجنب الانهيار الاقتصادي لقطاع غزة، ولمواجهة انتشار الميليشيات الجهادية التي تسعى للقيام بعمليات "استشهادية " فيما يسمى بـ "الحرب المقدسة" ضد إسرائيل.
داني الطهراوي يعمل كمحرر لجريدة "العراق" مونيتور منذ عام 2014. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"