في حال باءت المساعي الدبلوماسية الأمريكية-الروسية بفشل محتم ودائم، قد تكون سوريا على شفير أن تصبح مركز الجهاد الدولي.
في حال باءت المساعي الدبلوماسية الأمريكية-الروسية بفشل محتم ودائم، قد تكون سوريا على شفير أن تصبح مركز الجهاد الدولي. فمعركة حلب التي لا تنتهي أبدًا تعيد إحياء مشاهد بائسة لصراع مرير لم نشهده منذ الحرب العالمية الثانية، ونتيجةً لذلك يبدو أن بعض المواطنين السنّة "الذين يعيشون على أنظمة الدعم الاقتصادي" يحتضنون الإسلام المتشدّد كوسيلة للبقاء على قيد الحياة. و"نشر" موقع إخباري غير مشهور ومناهض للجهاديين مؤخرًا صورًا لسكان شرق حلب يحملون لافتات موالية لـ"جبهة فتح الشام" ومناهضة للأمم المتحدة خلال تظاهرة صغيرة أمام قافلة مساعدات تابعة للأمم المتحدة. وجاءت رواية الموالاة "للنصرة" هذه لتأكّد تقارير سابقة عن جهاديين يوزعون مساعداتٍ غذائية ضئيلة "علنًا" بهدف الفوز بدعم السكان الذين يتضورون جوعًا.
ويتمثّل الدليل التالي على التطرف المستفحل بالبروز المفاجئ لجنود أطفال على كافة جبهات الصراع. ففي نيسان/أبريل 2016، نشر "مكتب الممثل الخاص للأمين العام المعني بالأطفال ونزع السلاح" التابع للأمم المتحدة تقريرًا شديد اللهجة يسلّط الضوء على محنة أطفال سوريا. وورد في التقرير أن كافة الفصائل المشاركة في الحرب الأهلية السورية تقريبًا تجنّد الأطفال، واللافت أن الفصيلتين الأكثر "اعتدالًا" - أي "الجيش العربي السوري" و"الجيش السوري الحر" - متهمتان بتجنيد أطفال في السابعة من عمرهم للقتال في الصفوف الأمامية. وإن لم يكن هذا الأمر مروّعًا بما فيه الكفاية، وثّق "مكتب الممثل الخاص للأمين العام المعني بالأطفال ونزع السلاح" أيضًا أنّ نسبة تجنيد المراهقين قد ارتفعت بنسبة عشرين في المئة في فترة إثني عشر شهرًا فحسب. وقد يمثّل الشباب السوري المستقبل لشكل أكثر عنفًا وتدميرًا حتى من الجهاد الدولي، ما يُطلق العنان للخطر الكبير التالي الذي يهدّد وجود سوريا كدولة مدنية. وقد يدفع انتصار ساحق روسي-سوري في معركة حلب بالمتمردين المدعومين من الغرب إلى التخلي عن الجهات الراعية الدولية التي عجزت عن الوفاء بوعودها القاضية بإحضار النظام إلى طاولة الحوار. وقد يصبّ أي شرخ بين الدول الغربية والمتمردين المعتدلين في مصلحة الجماعات الجهادية الني انتهزت سابقًا الفرص لتجنيد مقاتلين علمانيين غارقين في أزمة وغرس بذور التطرف في عقولهم. وخلال مشاحنة علنية نادرة مع الولايات المتحدة، ألقى خالد خوجة، وهو عضو بارز في "الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة"، اللوم على الولايات المتحدة لعجزها عن توفير أسلحة هجومية دقيقة لتغيير ميزان القوى في حلب.
وستصبّ خطة روسيا الرامية إلى استئصال المتطرفين من سوريا - مع ممارسة ضغوط على الولايات المتحدة للقضاء على الجنود المشاة التابعين لتنظيم "القاعدة" - في مصلحة المتطرفين والنظام السوري على حدّ سواء، الراغبين في جرّ الولايات المتحدة إلى مأزق. لكن رغم المخاطر الكبيرة المحيطة بالصراع السوري الذي بات أشبه بقنبلة قد تنفجر، قلّلت إدارة أوباما من أهمية سوريا الجيوستراتيجية، حيث أشارت إلى أن "حلًا سياسيًا" صعب المنال وحده قادر على إنهاء هذا الصراع. وكان هذا العذر لتجاهل حجم الصراع ليُعتبر كافيًا قبل سنوات، غير أن النتائج الفورية للحرب - كالإرهاب الدولي وبروز تنظيم "القاعدة" في سوريا - تسلّط الضوء على الحاجة إلى انخراط شامل للولايات المتحدة في الحرب. لكن أي تحرّك أحادي الجانب تتخذه جهة فاعلة واحدة في الصراع المتعدد الجهات قد يكون مؤذيًا على المدى الطويل. ويتوجب على الولايات المتحدة استخدام نفوذها لإقناع الجهات الدولية بضرورة إعادة احتساب انخراطها في الحرب من خلال تفويض قوات حفظ السلام للإشراف على مناطق عازلة مستقبلية تفصل بين الفصائل المتعددة. فوجود قوات حفظ سلام متعددة الجنسيات سيكون رادعًا كبيرًا بالنسبة لكافة الجهات.
يجب على الإدارة الأمريكية المقبلة أن تتخذ موقف أكثر تشدّدًا إزاء روسيا وإيران والنظام السوري للحؤول دون أن تصبح سوريا ملاذًا آمنًا للجهاديين الدوليين. وكان المسؤولون في مجال الدفاع قد حذّروا من أن التدخل في الصراع قد يعرّض المقاتلات الأمريكية للخطر، غير أنه من المؤكّد تقريبًا أن القوات الروسية والسورية لن تخاطر في دخول حرب مع الولايات المتحدة بشأن مناطق في سوريا هي أساسًا مهجورة ومدمّرة.
ويتعيّن على الولايات المتحدة الأمريكية انتهاج مقاربة منهجية، تؤكّد بعناية على النفوذ الأمريكي عبر المحاورين الأتراك الذين تربطهم علاقات جيدة مع مقاتلي المعارضة السورية. وتنطوي الخطوة الأولى لجعل سوريا ملاذًا آمنًا في تصفية قيادة الجماعات الجهادية ومنح جنود المشاة فرصة الانضمام إلى فصائل أكثر اعتدالًا مقابل حصولها على دعم "سياسي". وبحسب تقديرات البعض، فإن أغلبية المقاتلين المنتمين إلى "جبهة فتح الشام" و"جند الأقصى" وحتى "الدولة الإسلامية" لا يعتنقون الإسلام المتطرف بل انضمّوا فعليًا إلى الجهاديين للاستفادة من أجور أعلى وسلاح متقدّم ومساكن أفضل. وسيبعث توحيد أطياف المعارضة تدريجيًا على أرض الواقع تحت جناح الولايات المتحدة وتركيا والتحالف الدولي برسالة واضحة إلى سوريا وروسيا وإيران مفادها أن التعنّت المستمر في العملية السياسية سيدمّر النظام السوري لا محالة.
وإن افترضنا أن النظام السوري سيبقى متمسكًا بموقفه السياسي، على الولايات المتحدة وحلفائها السماح للمعارضة التي تمت إعادة تكوينها ببسط سيطرتها وحوكمتها على الحدود السورية-التركية. فوجود حكومة منافسة ترافقه زيادة في العقوبات قد يرغمان النظام على التفاوض أخيرًا بحسن نية. وقد اقترح بعض الخبراء في الصراع فكرة استخدام جنود أجانب لضمان أمن "مناطق مستقلة" مستقبلية، لكن هذا الأمر يكاد يكون مستحيلًا من دون الإقدام أولًا على مصالحة الفصائل المختلفة المشاركة في الصراع أو على الأقل تسوية الخلافات بينها. وتقترح إستراتيجية بديلة استخدام المتمردين الأكثر اعتدالًا لتشكيل وحدات مستقلة لمكافحة الإرهاب من أجل حماية المناطق ذات الأغلبية السنّية والدفاع عنها، ما يدفع بالمرء إلى التساؤل ما إذا كان الوقت قد حان لكي تبدأ الولايات المتحدة وحلفاؤها بتقييم المتمردين وتدريبهم وتجنيدهم، بعد أن سلّحتهم في الأساس. وقد تمثّل هذه الخطوات أفضل آمال سوريا للحؤول دون مستقبل يهيمن عليه الجهاديون الانتحاريون العازمون على تدمير الغرب. وفي الوقت نفسه، سيكون من الضروري نوعًا ما طمأنة إسرائيل وإيران وجهات فاعلة أخرى في الشرق الأوسط إلى أنه حتى إن ازداد عديد المعارضة، لن تكون سوريا الجديدة دولة سنّية مارقة. وسيكون ذلك توازنًا هشًا في أحسن الأحوال، غير أن البديل المحتمل - أي أرض لا تنتهي ينبثق منها الجهاديون واللاجئون تحدّ بعض أقرب حلفائنا - أسوأ حتى.