- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
من خاشقجي إلى الجبري سؤال رئيسي
دأب مجموعة من المعارضين السعوديين على تناول شخصيتي جمال خاشقجي وسعد الجبري بوصفهما شخصيات مناضلة ومشاريع شهداء، متناسين تاريخ الرجلين في العمل الرسمي داخل المملكة. يكشف هذا الموقف عن بعض نقاط الضعف في خطاب هؤلاء المعارضين والذي يفتقر إلى المنطق الواضح الذي تستند عليه مزاعم مطالباتهم بتغييرات حقيقية في بلادهم.
منذ صعود ولي العهد السعودي الحالي الأمير محمد بن سلمان، واجه هو وإدارته موجة من الانتقادات الشديدة والممنهجة من قبل بعض وسائل الإعلام الدولية. وقد ساهم المعارضون السعوديون في تلك الموجة من الهجوم على حكومة بلادهم عن طريق الظهور في وسائل الإعلام المختلفة كضيوف ومحللين وكتّاب. تصاعدت عدوانية هذه الموجة من الانتقادات الموجهة ضد محمد بن سلمان منذ حادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018، لتتبعها التطورات الأخيرة للدعوى القضائية المقدمة من قبل ضابط الاستخبارات السعودي السابق سعد الجبري ضد حكومة بلاده.
شكل اغتيال خاشقجي فرصة للعديد من المعارضين السعوديين لتكثيف ظهورهم في وسائل الإعلام العربية والأمريكية والأوروبية مشيدين بخاشقجي كبطل يشاركهم قضاياهم. وقد رفد هؤلاء المعارضون ظهورهم الإعلامي بالترويج لخاشقجي في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. فجأة بعد واقعة اغتيال خاشقجي، بدأ بعضهم بالادعاء أنه كان على تواصل معه! وآخرون وصفوا خروجه من السعودية إلى واشنطن على أنه عمل شريف ونضالي، ومازال أكثرهم يلقبونه بالشهيد. وكما هو معلوم في الأدبيات الإسلامية، فإن مفردة "شهيد" صفةٌ تدل على الشخص الذي قدّم حياته من أجل قضية ومبادئ نبيلة. وقد أطلق بعض أولئك المعارضين منصة على إلكترونية تحمل اسمه: أكاديمية جمال خاشقجي للحريات والحقوق. توفر هذه المنصة التعليمية -التي لا تمنح شهادات أكاديمية- تعليمًا افتراضيًا مجانيًا يقوم بتدريس مقرراته عدد من الأكاديميين السعوديين المعارضين يتقدمهم مضاوي الرشيد وعبد الله العودة.
وفي الفترة القريبة الماضية، حصل سعد الجبري على دعم مقارب لخاشقجيمن قبل أولئك المعارضين. الجبري الذي يدعي أنه مستهدف من قبل السلطات السعودية، تقدم برفع دعوى قضائية تُنظر حاليا في محكمة فيدرالية أمريكية. بناء على هذه القصة المدعاة، بدأت بعض وسائل الإعلام في تداول قصص حول أولاد سعد الجبري. وذكرت أنهم مُنعوا من زيارة والدهم، مما دفع العديد من المعارضين السعوديين لإعلان تعاطفهم مع وضع الجبري.
خاشقجي والجبري اللذان حظيا بتعاطف ودعم المعارضين للدولة السعودية، يشتركان في صفة جوهرية هي التاريخ الطويل في خدمة حكومة بلدهما وتنفيذ سياساتها التي يناهضها داعموهم! فقد قضى الرجلان ردحا من عمرهما في تنفيذ سياسة المملكة في أمور تتعلق بمكافحة الإرهاب، وقضايا الأمن القومي.
عمل خاشقجي كمراسل صحفي يغطي حرب أفغانستان في الثمانينيات قبل أن يصبح مستشارًا إعلاميًا للأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات السعودية والسفير السعودي السابق لدى المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وبالمثل، عمل الجبري وزيرا للدولة وكان أقرب مساعد لولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف، حيث اضطلع بمهام خاصة تتعلق بالحرب على الإرهاب.
ممّا سبق، يتضح تاريخ عمل الرجلين في خدمة سياسيات حكومة المملكة قبل أن يفقدا مكانتهما المرموقة مع صعود الإدارة الجديدة بقيادة ولي العهد الشاب ورؤيته الجديدة للبلاد. ومن الجدير بالملاحظة، أنه رغم تفاقم خلافاتهم مع الحكومة السعودية، فإن أيّا منهما، لم يدع علنا أنه معارض لحكومة بلاده. فعلى الرغم من التعليقات السلبية المعدودة التي أدلى بها خاشقجي ضد الحكومة السعودية، فقد ظلّ مصرّا على دعمه لرؤية 2030 وطموحات ولي العهد.
حتى مع الأخذ في عين الاعتبار جريمة قتله الوحشية، فإن تجاهل المعارضين لتاريخ شخصية خاشقجي يطرح أسئلة مهمة حول المبادئ التي ينطلق منهاهؤلاء المعارضين في طرح نقدهم ورؤاهم. نتساءل هنا: ماهي معاييرهم للتميز بين الخيّر والشرير؟ وعلى وجه التحديد، هل النهاية المؤسفة لحياة شخص ما، كفيلة -في نظر المعارضين- بمحو تاريخه الحافل بالسنوات التي قضاها في خدمة حكومة بلاده، والتي لا تتوافق مع أهداف هؤلاء المعارضين الذين يدّعون أنهم ضد السياسات الكبرى للحكومة السعودية؟ نتساءل أيضا، كيف سيكون موقفهم لو أن خاشقجي قد توفي بشكل طبيعي قبل مغادرته البلاد في يونيو 2017، بالنظر إلى أنه كان مؤيدا لمعظم الإجراءات السعودية الرسمية التي ينتقدها هؤلاء المعارضون؟
لا يختلف الحال كثيرا مع قضية الجبري. فهؤلاء المعارضون الذين يصادقون على ادعاءاته باستهداف الدولة السعودية له، يتجاهلون العنصر الأهم في الحكاية: شخصية الجبري نفسه! فبالنظر لموقف المعارضين من الإدارة السعودية، يتوقع المرء أن يكون موقفهم تجاه الجبري سلبيا بشدّة، وذلك نظرًا لدوره الرئيسي في التعامل مع من يتبنى معارضة حكومة المملكة من الداخل. وعليه، فإن جميع انتقاداتهم للسياسات الأمنية السعودية يجب أن تطال الجبري أولا بصفته مهندس النظام الأمني الذي يصفونه بأنه قاس وقمعي. يبدو أنموقفهم من الجبري يستند على المثل القائل "عدو عدوي صديقي".
دعونا نتساءل الآن: ماذا سيكون موقف هؤلاء المعارضين إذا ما توصل الجبري إلى تسوية مع السلطات السعودية في قضيته؟
يبدو أن الواقع يقول أن هؤلاء المعارضين يقفون -مؤقتًا- مع عدوهم الأقل خطورة "الجبري" ضد عدوهم الرئيسي "الدولة السعودية". يكشف هذا الموقف المتناقض عن نقضة ضعف منهجية في أوساط معارضي الدولة السعودية. فبغض النظر عن مستواهم الفكري، فإنه من الواضح أن المستند الذي يبنون عليه حججهم في موقفهم هذا يبدو ذاتيًا أكثر منه موضوعيا مبنيا على مبادئثابتة.
نستطيع طرح الأسئلة نفسها على وسائل الإعلام التي تحتفي بخاشقجي والجبري. فقد ركزت قناة الجزيرة -التي اتخذت موقفا عدوانيا تجاه السعودية بعد الأزمة الخليجية- باستمرار على قضية اغتيال جمال خاشقجي، متهمة الحكومة السعودية بالضلوع في جريمة سياسية. إضافة إلى ذلك، فقد أنتجت الجزيرة لحد الآن العديد من التقارير حول مزاعم الجبري، وجعلته الموضوع الرئيسي الذي تتم تغطيته في الأخبار اليومية وبعض البرامج المنتظمة. بل إن برنامجها الأسبوعي "فوق السلطة" وصف الجبري بأنه الشهيد الحي.
بغض النظر عن الموقف من الحكومة السعودية وما يرد في الإعلام حول مزاعم تورطها في أعمال غير أخلاقية ضد هاتين الشخصيتين، فإن تاريخ خاشقجي والجبري لا يمتّ بصلة للأنشطة التي يتبناها المعارضون الذين يصورونهما لنا بأنهما فدائيان. وعليه، فالسؤال يدور حول الأساس -غير الواضح- الذي يبني عليه هؤلاء المعارضون تقييم أعدائهم وأصدقائهم.
ختاما، فإن الدعم الشديد لرجلين لا يمثلان في الأصل وجهات نظر وأهداف داعميهم من معارضي سياسات الحكومة السعودية يلقي بظلال من الشك على مصداقية الطرح الذي يعبرون عنه. فهؤلاء الأشخاص الذين يطرحون أنفسهم كأكاديميين ونشطاء يرغبون في تغيير المعادلة داخل المملكة ويسعون إلى ما يصفونه بإصلاحات جذرية تحسن من حياة الشعب، يصطفون مع رمزين من الحرس القديم للسياسة السعودية -خاشقجي والجبري- بشكل يثير التساؤل حول كفاءة طرحهم المعارض وقدرتهم على توفير رؤية بديلة.