دائما ما كانت سوريا ولبنان تمتلك حدودا مثيرة للجدل، لكن الحرب السورية - وفصائلها المختلفة - جعلتها أكثر تعقيدا من ذي قبل.
بُعيد اغتيال القيادي في حزب الله الذي تسلّم تدريب مجموعات سورية في الجنوب السوري، سمير القنطار، في التاسع عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر عام 2015، خرج أمين عام حزب الله حسن نصر الله ليعلن أن الرد على هذه العملية آت في الزمان والمكان المناسبين. لكن الجديد الذي حملته كلمة نصر الله التأبينية، هو توحيد الجبهات وفتحها على بعضها البعض، ما يعني أن الجبهة الجنوبية اللبنانية، والجبهة الجنوبية السورية، أصبحتا جبهة واحدة. استند نصر الله في موقفه هذا إلى جملة معطيات، على رأسها اتساع النفوذ الإيراني على الحدود السورية الإسرائيلية وتحديداً في محافظة القنيطرة. في تلك المنطقة، يمثّل جبل الشيخ، أهمية استراتيجية لمختلف الأطراف، خاصة أنه مثلث الأضلع، تمتد سفوحه بين لبنان، سوريا، وإسرائيل.
على السفح اللبناني من جبل الشيخ، طريق قديم يربط لبنان بسوريا، وهو عملياً كان خط التواصل الأساسي بين لبنان وسوريا في تلك الفترة الزمنية. وهذا الطريق يمثّل أهمية استراتيجية بالنسبة إلى حزب الله في هذه الأيام، خاصة أنه يربط لبنان بسوريا بشكل مباشر وسريع، ويريد حزب الله إعادة تشييده والسيطرة على محيطه لتسهيل وتسريع عمليات انتقال مقاتليه بين لبنان وسوريا، ولتسهيل عمليات نقل الأسلحة. يحاذي الطريق منطقة تعرف باسم دير العشائر، الذي يشكّل نقطة وسط والتقاء بين مناطق الجنوب اللبناني ذات الأكثرية الشيعية، الخاضعة لسيطرة كاملة من قبل الحزب، وبين البقاع اللبناني الذي أيضاً يعتبر عمقاً استراتيجيا لنفوذ الحزب على الرغم من وجود مناطق سنيّة عديدة معارضة لحزب الله ووجوده بشراسة، لكن القدرة العسكرية للحزب سمحت له "بإخضاع" هذه المناطق، ما سمح له بتسهيل عمليات الانتقال بين الجنوب والبقاع.
يسيطر حزب الله على العديد من الطرق التي تربط المناطق ببعضها البعض، من بينها المعبر الجنوبي الشرقي المؤدى إلى دير العشائر، التي يعمل الحزب حالياً على شراء الأراضي فيها وفي محيطها بنسبة مرتفعة، وهي تعتبر معبراً آخر استحدثه الحزب، من الجهة الشمالية الشرقية لوجوده الجنوبي، عبر المنطقة الواصلة بين الجنوب والبقاع الغربي، جنوب منطقة جزين. كما عمل الحزب قبل أكثر من عشر سنوات على شراء أراض بشكل واسع في تلك المناطق واستحدث طرقاً جديدة ومجمّعات سكنية، لتصبح المنطقة بكاملها خاضعة لسيطرته، وعبرها يسهل الانتقال من الجنوب إلى البقاع ومنه إلى سوريا.
وعليه، لم يكن قول نصر الله عن فتح الجبهات ودمجها ببعضها البعض، يقتصر على المعنى السياسي، إنما في جانب أساسي منه، كان يرتكز على الجانب الجغرافي والعملاني. إذ أن ما يحصل على تلك المنطقة الحدودية، يشبه إلى حدّ بعيد ما تشهده سوريا من فرز ديمغرافي وعمليات ترانسفير سكاني من دمشق إلى القلمون، التي تعتبر طريق أساسي يمتد من دمشق إلى الساحل السوري وعنصر إستراتيجي من "سوريا المفيدة". وتقع القلمون على الحدود اللبنانية السورية، وهي إحدى أكبر المناطق في محافظة ريف دمشق، كما ترتبط بالغوطة الشرقية، جنوباً، وتصل إلى حمص شمالاً، وحمص هي أولى المحافظات السورية التي شهدت عمليات التغيير السكاني نتيجة الحرب الأهلية، عبر إحراق أحياء بكاملها، وإحراق كل الدوائر العقارية وكل ما يشير إلى صكوك ملكية السكان الأصليين. ويذكر أن أول اتفاق على انتقال مدنيين من منطقة إلى أخرى في سوريا، جرى في حمص، وتحديداً في أحياء حمص القديمة. ليستكمل التطهير ويطال حمص كلّها التي تم استبدل سكانها، بسكان آخرين من العلويين والشيعة.
أولى معارك حزب الله كانت في مدينة القصير في جبال حمص في السادس عشر من شهر أيار/ مايو عام 2013، حيث استطاع السيطرة عليها بعد قتال شرس، وتوسّع القتال فيما بعد إلى أحياء ومناطق أخرى من المحافظة، وجعل الحزب من القصير قاعدة عسكرية له، حتى أنه جرى نقل العديد من اللبنانيين المقيمين في القرى اللبنانية على المقلب الآخر من الحدود، إليها وإلى محيطها. ولاحقاً خاض حزب الله معارك القلمون السوري، واستطاع السيطرة على مدنه وقراه، حيث غادر السكان الأصليين، وجيء بغيرهم من مناطق سورية أخرى وكذلك من المناطق اللبنانية، لتصبح الهوية المذهبية لسكان هذه المناطق السورية واللبنانية المجاورة، من بيئة طائفية واحدة، من دون إغفال وجود قرى لبنانية سنّية، لكنها عملياً "ساقطة" بالمعنى السياسي والعسكري، ولا قدرة لها على إحداث أي تغيير.
عمليات التهجير والتغير الديمغرافي، طالت أيضاً قرية الطفيل، إحدى القرى اللبنانية الواقعة بين سوريا ولبنان التي يبلغ عدد سكانها حوالي الخمسة آلاف نسمة من السنة، تم إخراجهم من منازلهم ومن قريتهم في العام 2014، بعد انتهاء معارك القلمون بمرحلتها الأولى، وهم أصبحوا لاجئين يقطنون في الخيم. كان إخراج أهالي الطفيل (التي سيطر عليها كل من حزب الله والجيش السوري) هدفاً أساسياً بالنسبة إلى حزب الله، أولاً للحفاظ على "الانتماء الطائفي الواحد"، وثانياً، على المدى البعيد، فإن هذه المنطقة قد تشكل نقطة عبور سريعة بين لبنان وسوريا أيضا. والواقع أن الطريق الجبلي الذي يصل الطفيل ببلدة بريتال، يعتبر أسهل بكثير للانتقال بين لبنان وسوريا. والهدف من ذلك، هو توفير خطّ انتقال سريع للمقاتلين وللسلاح من سوريا إلى لبنان. لكن طموح حزب الله يبقى أكبر من ذلك، وأبعد.
قبل أشهر، أثارت الكنيسة المارونية في لبنان، مسألة شراء الأراضي والعقارات في عدد من المناطق المسيحية، وأبرزها منطقتي العاقورة وجرودها، ولاسا، في قضاء جبيل. جغرافياً، فإن الجبال، هي التي تفصل بين قضاء جبيل وبين قضاء بعلبك الهرمل، الخاضع لسيطرة مطلقة من قبل حزب الله. ويهدف حزب الله من شراء الأراضي في تلك المنطقة، إلى ربط كل هذه المناطق ببعضها البعض، من العمق السوري، إلى البقاع وصولاً إلى قضاء جبيل، الذي تقع عاصمة قضائه بيبلوس على البحر الأبيض المتوسط. وثمة من يشير إلى أن الهدف من ذلك، هو لقطع الأوتوستراد الدولي الذي يربط بيروت بالشمال اللبناني. ولذلك هدف آخر أيضاً وأساسي بالنسبة إلى إيران، الداعمة الأولى والأساسية لحزب الله.
قبيل التدخل الروسي في الحرب السورية، كانت إيران تعمل على وصل دمشق بالساحل السوري، واستخدمت في سبيل ذلك كل الأساليب من عمليات عسكرية، وعمليات تهجير طائفي ومذهبي، فخرج في ذلك الوقت إلى العلن مصطلح سوريا المفيدة. وبعد التدخل الروسي وإقامة قاعدة عسكرية أساسية في قاعدة حميميم، أصبح الساحل السوري خاضعاً للسيطرة الروسية. وفي ظل الدخول التركي ضمن عملية درع الفرات، تعزز الصراع على النفوذ في سوريا، فتمسّكت إيران أكثر بالمناطق التي تسيطر عليها، وتحديداً في حمص ومحيط دمشق، بالإضافة إلى الاحتفاظ بوجود على الحدود الجنوبية في كل من سوريا ولبنان للضغط على إسرائيل في مواجهة أي استحقاقات دولية. لكن أيضاً، لدى إيران بحسب معطيات متوافرة، هو كيفية إيصال النفط والغاز الإيرانيين إلى البحر الأبيض المتوسط لإيصالها منه إلى أوروبا، وتعتقد طهران التي تسيطر على المنطقة النفطية في العراق، أن بتأمينها هذا الخط الواصل من البصرة ويمرّ عبر حمص، وصولاً إلى لبنان، تعتقد أنها قادرة على توريد نفطها وبيعه بقيمة أقل، خاصة أن أنابيب النفط موصولة تاريخياً بين لبنان والبصرة، في منطقتي الزهراني، على الساحل الجنوبي للبناني، ودير عمار على الساحل الشمالي، وهذه الأنابيب فقط تحتاج إلى إصلاحات لإعادة تشييدها وضخ البترول عبرها.
وبحسب العديد من التقارير، وعلى حد قول أحد المسئولين الإيرانيين السابقين، تسعى إيران إلى السيطرة العسكرية على أربعة مناطق أساسية في سوريا ولبنان. آخر مشاهد التغيير الديمغرافي، الذي تسعى إيران إلى فرضه هو ما جرى في منطقتي الزبداني ومضايا في دمشق، مقابل مدينتي كفريا والفوعة في إدلب، إذ نقل "الأهالي السنّة" من ريف دمشق إلى إدلب، واستقدم شيعة مكانهم من الشمال، وهذا أيضاً ما حصل لاحقاً، في حيّي برزة والقابون في دمشق، حيث جرى إخراج المدنيين والمسلحين منهما. وإلى جانب هذا الضغط العسكري لتثبيت هذا المتغيّر وتعزيز النفوذ، فإن إيران تراهن فيما بعد على التسويات السياسية وخاصة في لبنان، لأجل الحصول على مناقصة على تشغيل أنابيب النفط هذه، لكن لا شك أن ذلك يحتاج إلى المزيد من الوقت، وإلى تبلور المعطيات الدولية في كيفية التعاطي مع إيران.
يأخذ الصراع هذا طابعاً مذهبياً وطائفياً، يجري عبره فرز مناطق بشكل ديمغرافي لخدمة أهداف سياسية. كل الشعارات التي استخدمتها إيران في المنطقة العربية، وفي غالبيتها ارتكزت على مفاهيم دينية، وروحية، وقومية وعلى رأسها قضية فلسطين ونصرة المستضعفين، هدفت إلى توسيع مناطق النفوذ الإيرانية في تلك المنطقة، وأسهمت في وصول إيران إلى إبرام إتفاق نووي مع الغرب. وهذا كلّه يصبّ في خانة جعل نفسها، قوة إقليمية مقرّرة في الشرق الأوسط، تطمح إلى التوسع الاقتصادي والمالي، والذي تحقّقه من خلال تصعيدها العسكري.