- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
من سوريا إلى أوكرانيا: تحديد أوجه التشابه بين استراتيجيتي "دبيب النمل" الروسية والأرض المحروقة
بعد مرور أكثر من شهرين على الغزو المتعثر لأوكرانيا، كان على روسيا إعادة حساباتها واللجوء إلى تكتيك مألوف لدى السوريين جميعا، وهو ما يطلق عليه "دبيب النمل" أو "سياسة الأرض المحروقة".
ربما أن المحاولة الأولية للغزو الروسي لأوكرانيا قد فشلت في تحقيق النصر الخاطف الذي كانت تتوقعه موسكو بلا شك، فإن الرئيس بوتين وجنرالاته يقومون حاليا بإعادة ترتيب الميدان بغية فرض واقع جديد شديد الوحشية. تلك الوحشية الروسية مألوفة إلى حد كبير لدى كثير من السوريين، حيث تتشابه الحرب في أوكرانيا في عدد من الأوجه مع الحرب في سوريا، وهذا التشابه يمكن أن يوفر نظرة ثاقبة بخصوص الأشهر المقبلة. ومع ذلك، فإن الرد القوي من قبل الغرب على العدوان الروسي في أوكرانيا يشكل هاجسا يلازم أيضًا كثيرا من السوريين الذين يقارنون حجم الدعم المقدم لأوكرانيا بالدعم المقدم لهم في محنتهم.
في الواقع، يعكس الصراع الحالي في أوكرانيا - والذي يتشابه بشكل كبير مع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط - صراعاً قديماً يسبق الصراع في سوريا. فمن جهة، حرَمت التحذيرات التي أصدرتها "وكالة المخابرات المركزية" وغيرها من وكالات الاستخبارات الغربية في مرحلة ما قبل الغزو، الروس من عنصر المفاجأة. فزودت هذه الوكالات وسائل الإعلام بفيضٍ من المعلومات الدقيقة عن عدد القوات الروسية المنتشرة على حدود أوكرانيا ومعداتها ويوم الهجوم.
ولم تترك هذه التسريبات للمسؤولين الروس سوى خيار اللجوء إلى الكوميديا السوداء من أجل محاولة تضليل الأوكرانيين والدول الغربية. ففيما طالبت ماريا زاخاروفا بسخرية وسائل الإعلام الغربية بتقديم جدول الغزو حتى يتمكن الدبلوماسيون الروس من "التخطيط لعطلاتهم"، نصح دبلوماسي روسي آخر هو ديمتري بوليانسكي القادة الغربيين بمراجعة طبيب بسبب إصابتهم بـ"جنون الارتياب". وبعد أسبوع من حملة التضليل هذه، سرعان ما تُرجمت نوايا روسيا إلى غزو واسع النطاق لأوكرانيا.
إلا أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين حول عدم رغبتهم في التورط في نزاع مباشر مع روسيا ربما سهلت قرار بوتين ببدء الغزو. وبما أن أوكرانيا ليست عضوًا في حلف الناتو، أقدم مضى المسؤولون الأمريكيون بالتصريح بأن أمريكا لن ترسل قوات أمريكية إلى أوكرانيا ولا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا. وأعطت هذه التصريحات لروسيا انطباعًا بأن أمريكا كانت جادة بشأن "حيادها"، لا سيما أن تركيزها ينصب على الصين التي تهدد بغزو تايوان.
ربما فسر بوتين هذه التصريحات على أنها تعكس لامبالاة أمريكية أو حتى تعطيه ضوءً أخضر للشروع في خططه في أوكرانيا، فوفقاً لمراقبين إقليميين، بدا كأنه يعيد للذاكرة المحادثات التي سبقت غزو صدام حسين للكويت. ففي عام 1990، عندما نشر الرئيس العراقي صدام حسين قواته على الحدود الكويتية، التقى بالسفيرة الأمريكية في بغداد أبريل غلاسبي لاكتشاف ما سيكون عليه الرد الأمريكي إذا غزا الكويت. وبحسب عدة مصادر، ومن بينها تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في 23 أيلول/سبتمبر 1990، أكدت غلاسبي للرئيس العراقي على القرار الأمريكي "بعدم التدخل في النزاعات العربية-العربية مثل الخلافات الحدودية بين العراق والكويت". واعتُبرت تصريحات غلاسبي خلال الاجتماع بمثابة ضوء أخضر أعطته الولايات المتحدة حتى يشرع صدام حسين في غزو الكويت الذي حدث بعد أسبوع من ذلك الاجتماع.
لكن سرعان ما قادت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا دمّر قدرات القوات العراقية وطردها من الكويت. وفي حين بدت الولايات المتحدة في البداية على أنها ستعمل على تقييد مشاركتها النشطة في الصراع، أكدت التقارير الأخيرة أن الولايات المتحدة عازمة على بيع طائرات قتالية بدون طيار لأوكرانيا، بالإضافة لإقرارها مؤخراً مشروع قانون يهدف الى توفير 40 مليار دولار من المساعدات العسكرية والإنسانية لأوكرانيا.
الاستراتيجية الروسية
يشير المسار الروسي في سوريا إلى أن تعرض روسيا لانتكاسات في أي صراعات غالبا ما سيكون له عواقب وخيمة على الأوكرانيين في نهاية المطاف. وبما أن استخدام الصواريخ الباليستية لا يحسم المعارك البرية، كان على بوتين البحث عن مخرج لإنقاذ نفسه وتجنب أن تلحق به "هزيمة استراتيجية".
وبالتزامن مع المفاوضات الأولية المباشرة التي جرت بوساطة تركية في أواخر أذار/مارس، وقيام بوتين بإعادة تقييم انتكاسة قواته حول مدينة كييف، استغل بوتين المفاوضات لتقليص نطاق أهدافه حتى تشمل السيطرة على دونيتسك ولوهانسك الواقعتين في إقليم دونباس. وكان من الواضح أن الروس قد أدركوا أن الطريقة الوحيدة للسيطرة على مناطق في أوكرانيا هي من خلال تطبيق سياسة "الأرض المحروقة" حيث تقضم الأراضي بأسلوب "دبيب النمل".
إنَ فَهْم ما ينتظر الأراضي الأوكرانية الآن يتطلب ببساطة إلقاء نظرة على أحدث مسرح للعمليات الروسية. فقد انخرطت روسيا في مساعدة الأسد في محاولاته لقمع شعبه عقب استقدام الأسد ميليشيات طائفية من إيران والعراق وأفغانستان وباكستان، بالإضافة إلى "حزب الله" اللبناني بغية القضاء على الثورة. ومع ذلك، لم تتمكن تلك المليشيات من إخضاع السوريين الذين كانوا يطالبون بالحرية والكرامة.
ورغم المعاناة في ظل وجود كل هذه القوات - إضافة إلى تمدد تنظيم "داعش" في المنطقة – إلا أن الحياة ساءت بعد أن أقحمت روسيا نفسها. فمنذ سبع سنوات حتى الآن، تساعد كانت الطائرات الحربية الروسية تساعد الأسد بقوة في استعادة مناطق واسعة من قبضة الثوار السوريين وتشكيل دولة يسيطر عليها النظام في غرب البلاد.
أطلقت روسيا عملية "دبيب النمل"، وهي سياسة "الأرض المحروقة"، بهدف القضاء على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من خلال تقطيعها مع مرور الوقت، ثم محاصرة المدن والبلدات الصامدة في وجهها. وتعرضت المدن والبلدات المحاصرة لغارات جوية وهجمات صاروخية روسية مكثفة استهدفت بنيتها التحتية ومناطقها السكنية، مما أوقع إصابات كبيرة في صفوف المدنيين وأدى إلى نزوح كافة سكانها بشكل جماعي. ونتيجة لذلك، تمكنت الميليشيات الموالية للأسد، خلال فترة قصيرة نسبيًا، من استعادة مناطق واسعة من المعارضة السورية مباشرة عقب التدخل العسكري الروسي.
وفي ذا السياق، فقد اتهمت الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى القوات الروسية والميليشيات الموالية للأسد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وبسبب الخسائر البشرية الفادحة، نزح أكثر من 13 مليون سوري (أي أكثر من نصف عدد السكان السوريين) أو أصبحوا لاجئين في عدة بلدان مجاورة وبعيدة.
في حين كانت محنة اللاجئين السوريين واضحة على المستوى الدولي، إلا أن مئات الآلاف من النازحين السوريين داخليًا يعيشون في خيامٍ على الحدود بين سوريا وتركيا منذ عدة سنوات. ويمثل هذا التهجير المتعمد جزءً من عملية تغيير ديموغرافي شامل، ففي تقرير أصدرته "منظمة الدفاع المدني السوري" ("الخوذ البيضاء") في أيلول/سبتمبر 2021، وجهت اتهامًا إلى القوات الروسية والموالية للأسد بتنفيذ "حملات تهجير... من أجل إخلاء مدنٍ تُعتبَر مناهضة للحكومة". وأدت هذه الحملات إلى "تدمير الأحياء الشرقية لمدينة حلب في عام 2016، وما نتج عنه من تهجير لأهالي الأحياء... وتهجير أهالي ريف دمشق الغربي والأحياء الشرقية لدمشق في عام 2017".
وتحديدًا في عام 2018، عانت المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من "تهجير منهجي... [في] أحياء الغوطة الشرقية والقلمون في ريف دمشق الجنوبي، و[في] مناطق في ريف حمص الشمالي، و[في] جنوب سوريا في القنيطرة ودرعا".
إن قرار تطهير أجزاء من سوريا من معارضي الأسد، وتقسيم البلاد مع ضمان الدعم الكامل أو الخضوع للأسد في مناطق سيطرته النظام، يمثل استراتيجية ربما تتكرر في إقليم دونباس. وبعد أن حقق بوتين أهدافه في سوريا، قاده نهمه الذي لا يشبع من إخضاع الشعوب الأخرى وحرمانها من نظامها الحر والديمقراطي إلى التوجه نحو هدفه التالي: أي أوكرانيا.
ومع فشل الجهود الروسية الأولية لإجبار كييف على الخضوع من خلال غزو بري واسع النطاق، عادت روسيا الى استخدام تكتيك الأرض المحروقة – أو "دبيب النمل" – وهو طريقتهم الوحيدة لتحقيق "النصر". ومن أجل تطبيقه، نُقِل كبار الضباط الذين قادوا عملية "دبيب النمل" الروسية من سوريا لقيادة العملية الروسية في أوكرانيا. وفي وقت لاحق، ورد في التقارير أن بعض هؤلاء الضباط قُتِلوا في حوادث مختلفة في أوكرانيا.
وما لا يمكن إنكاره أيضًا هو أن التقارير الدولية التي تناولت الفظائع الروسية في أوكرانيا تشبه لحد كبير تلك الفظائع التي ارتُكبت في سوريا، مذبحة بوتشا إلى الروايات عن اغتصاب النساء والفتيات الأوكرانيات على نطاق واسع. وعندما تنسحب القوات الروسية من المدن الأوكرانية بالتفاهم أو تُطرد منها، فإنها تترك وراءها قصصًا مروعة عن عمليات القتل الجماعي والاغتصاب في محاكاة للعنف الممنهج الذى ارتُكِب بحق المدنيين في سوريا.
المعاناة مع الفارق في الاستجابة الدولية
يعكس الانخراط المتزايد للولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية في الأزمة الأوكرانية مدى التباين في تعاطى تلك الدول مع الأزمة السورية والأوكرانية فعلى الرغم من أوجه التشابه الكبيرة في التدمير الممنهج للمدن السورية والأوكرانية، إلا أن الاختلاف في التعامل الدولي مع كلا الأزمتين كان صادماً. فقد لاقت الفظائع التي ارتُكبت في أوكرانيا تعاطفًا دوليًا واسعًا رافقته دعوات إلى محاكمة المسؤولين الروس في "المحكمة الجنائية الدولية". وفضلًا عن ذلك، فقد فُرِضت عقوبات اقتصادية ومالية قاسية على القيادة والمؤسسات الروسية. كما سارع مسؤولون رفيعو المستوى من دول مختلفة بالإضافة إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة إلى أوكرانيا ليشهدوا الدمار والمجازر التي ارتكبتها القوات الروسية.
في المقابل، فقد شجّع الصمت الدولي الروس والقوات الموالية للأسد على ارتكاب مجازر مروعة بحق الشعب السوري. لذلك، لا يمكن رد أسباب هذا الموقف الدولي لندرة المعلومات، حيث تم توثيق تلك الفظائع بشكل جيد لعدة سنوات. ففي تقرير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" الصادر في آب/أغسطس 2019، تم تسليط الضوء على قيام القوات الروسية والموالية للأسد بـ"الاستخدام الواسع النطاق والمتكرر" لـ"الأسلحة الحارقة والذخائر العنقودية والصواريخ العادية والصواريخ المملوءة بالمسامير والبراميل المتفجرة وصولًا إلى أسلحة الدمار الشامل الكيميائية".
ومع أن تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان قيّمت هذه الانتهاكات في أحيان كثيرة على أنها ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لم تتم محاسبة الجناة الروس والسوريين حتى الآن. وفى حين قامت الولايات المتحدة بسن عقوبات قانون قيصر، إلا أنها لم تفرض أي عقوبات على روسيا على وجه التحديد، كما تم التشكيك مرارًا في مدى فعالية تلك العقوبات ضد مسؤولي النظام السوري. كل ذلك يشكل تناقضاً حاداً مع الجهود السريعة والمنسقة جيدا من قبل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ردًا على الإجراءات الروسية في أوكرانيا.
وفى ظل تغيير مجريات الحرب التي كانت تتوقع فيها روسيا تحقيق نصر خاطف، ربما تعيد إدارة بايدن إحياء خطة غلاسبي لجرّ بوتين إلى الفخ الأوكراني من أجل تدمير القدرات العسكرية والاقتصادية الروسية. وستوفّر هذه الخطة على أمريكا الدخول في مواجهة مستقبلية مع خصمين قويين ومتعاونين هما: الصين وروسيا. على نحو مماثل، فقد أشار أوباما إلى أن تورط روسيا في سوريا سيكون بمثابة التورط في "مستنقع" - ومع ذلك فإن صراعاً واحداً فقط أثار تدفق الكثير من المساعدات العسكرية للقتال ضد روسيا بشكل صريح.
على عكس أوكرانيا، لم يتم تزويد الثوار السوريين بأي صواريخ أرض - جو أو أسلحة فتاكة أو معلومات استخباراتية للحد من فعالية الغارات الجوية الروسية والسورية. عوضا عن ذلك، ركزت المساعدة على محاربة تنظيم "داعش"، ففي مطلع عام 2018، قدمت الولايات المتحدة ما يقدر بنحو 28.5 مليار دولار لمحاربة التنظيم في العراق وسوريا، واستثنت فصائل الجيش السوري الحر من تلك المساعدات. كما طلب ترامب 300 مليون دولار فقط في السنة المالية 2020 "لمواصلة تجهيز ودعم القوات الشريكة السورية".
ربما أن المحاولة الأولية للغزو الروسي لأوكرانيا قد فشلت في تحقيق النصر الخاطف الذي كانت تتوقعه موسكو بلا شك، فإن الرئيس بوتين وجنرالاته يقومون حاليا بإعادة ترتيب الميدان بغية فرض واقع جديد شديد الوحشية. تلك الوحشية الروسية مألوفة إلى حد كبير لدى كثير من السوريين، حيث تتشابه الحرب في أوكرانيا في عدد من الأوجه مع الحرب في سوريا، وهذا التشابه يمكن أن يوفر نظرة ثاقبة بخصوص الأشهر المقبلة. ومع ذلك، فإن الرد القوي من قبل الغرب على العدوان الروسي في أوكرانيا يشكل هاجسا يلازم أيضًا كثيرا من السوريين الذين يقارنون حجم الدعم المقدم لأوكرانيا بالدعم المقدم لهم في محنتهم.
في الواقع، يعكس الصراع الحالي في أوكرانيا - والذي يتشابه بشكل كبير مع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط - صراعاً قديماً يسبق الصراع في سوريا. فمن جهة، حرَمت التحذيرات التي أصدرتها "وكالة المخابرات المركزية" وغيرها من وكالات الاستخبارات الغربية في مرحلة ما قبل الغزو، الروس من عنصر المفاجأة. فزودت هذه الوكالات وسائل الإعلام بفيضٍ من المعلومات الدقيقة عن عدد القوات الروسية المنتشرة على حدود أوكرانيا ومعداتها ويوم الهجوم.
ولم تترك هذه التسريبات للمسؤولين الروس سوى خيار اللجوء إلى الكوميديا السوداء من أجل محاولة تضليل الأوكرانيين والدول الغربية. ففيما طالبت ماريا زاخاروفا بسخرية وسائل الإعلام الغربية بتقديم جدول الغزو حتى يتمكن الدبلوماسيون الروس من "التخطيط لعطلاتهم"، نصح دبلوماسي روسي آخر هو ديمتري بوليانسكي القادة الغربيين بمراجعة طبيب بسبب إصابتهم بـ"جنون الارتياب". وبعد أسبوع من حملة التضليل هذه، سرعان ما تُرجمت نوايا روسيا إلى غزو واسع النطاق لأوكرانيا.
إلا أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين حول عدم رغبتهم في التورط في نزاع مباشر مع روسيا ربما سهلت قرار بوتين ببدء الغزو. وبما أن أوكرانيا ليست عضوًا في حلف الناتو، أقدم مضى المسؤولون الأمريكيون بالتصريح بأن أمريكا لن ترسل قوات أمريكية إلى أوكرانيا ولا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا. وأعطت هذه التصريحات لروسيا انطباعًا بأن أمريكا كانت جادة بشأن "حيادها"، لا سيما أن تركيزها ينصب على الصين التي تهدد بغزو تايوان.
ربما فسر بوتين هذه التصريحات على أنها تعكس لامبالاة أمريكية أو حتى تعطيه ضوءً أخضر للشروع في خططه في أوكرانيا، فوفقاً لمراقبين إقليميين، بدا كأنه يعيد للذاكرة المحادثات التي سبقت غزو صدام حسين للكويت. ففي عام 1990، عندما نشر الرئيس العراقي صدام حسين قواته على الحدود الكويتية، التقى بالسفيرة الأمريكية في بغداد أبريل غلاسبي لاكتشاف ما سيكون عليه الرد الأمريكي إذا غزا الكويت. وبحسب عدة مصادر، ومن بينها تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في 23 أيلول/سبتمبر 1990، أكدت غلاسبي للرئيس العراقي على القرار الأمريكي "بعدم التدخل في النزاعات العربية-العربية مثل الخلافات الحدودية بين العراق والكويت". واعتُبرت تصريحات غلاسبي خلال الاجتماع بمثابة ضوء أخضر أعطته الولايات المتحدة حتى يشرع صدام حسين في غزو الكويت الذي حدث بعد أسبوع من ذلك الاجتماع.
لكن سرعان ما قادت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا دمّر قدرات القوات العراقية وطردها من الكويت. وفي حين بدت الولايات المتحدة في البداية على أنها ستعمل على تقييد مشاركتها النشطة في الصراع، أكدت التقارير الأخيرة أن الولايات المتحدة عازمة على بيع طائرات قتالية بدون طيار لأوكرانيا، بالإضافة لإقرارها مؤخراً مشروع قانون يهدف الى توفير 40 مليار دولار من المساعدات العسكرية والإنسانية لأوكرانيا.
الاستراتيجية الروسية
يشير المسار الروسي في سوريا إلى أن تعرض روسيا لانتكاسات في أي صراعات غالبا ما سيكون له عواقب وخيمة على الأوكرانيين في نهاية المطاف. وبما أن استخدام الصواريخ الباليستية لا يحسم المعارك البرية، كان على بوتين البحث عن مخرج لإنقاذ نفسه وتجنب أن تلحق به "هزيمة استراتيجية".
وبالتزامن مع المفاوضات الأولية المباشرة التي جرت بوساطة تركية في أواخر أذار/مارس، وقيام بوتين بإعادة تقييم انتكاسة قواته حول مدينة كييف، استغل بوتين المفاوضات لتقليص نطاق أهدافه حتى تشمل السيطرة على دونيتسك ولوهانسك الواقعتين في إقليم دونباس. وكان من الواضح أن الروس قد أدركوا أن الطريقة الوحيدة للسيطرة على مناطق في أوكرانيا هي من خلال تطبيق سياسة "الأرض المحروقة" حيث تقضم الأراضي بأسلوب "دبيب النمل".
إنَ فَهْم ما ينتظر الأراضي الأوكرانية الآن يتطلب ببساطة إلقاء نظرة على أحدث مسرح للعمليات الروسية. فقد انخرطت روسيا في مساعدة الأسد في محاولاته لقمع شعبه عقب استقدام الأسد ميليشيات طائفية من إيران والعراق وأفغانستان وباكستان، بالإضافة إلى "حزب الله" اللبناني بغية القضاء على الثورة. ومع ذلك، لم تتمكن تلك المليشيات من إخضاع السوريين الذين كانوا يطالبون بالحرية والكرامة.
ورغم المعاناة في ظل وجود كل هذه القوات - إضافة إلى تمدد تنظيم "داعش" في المنطقة – إلا أن الحياة ساءت بعد أن أقحمت روسيا نفسها. فمنذ سبع سنوات حتى الآن، تساعد كانت الطائرات الحربية الروسية تساعد الأسد بقوة في استعادة مناطق واسعة من قبضة الثوار السوريين وتشكيل دولة يسيطر عليها النظام في غرب البلاد.
أطلقت روسيا عملية "دبيب النمل"، وهي سياسة "الأرض المحروقة"، بهدف القضاء على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من خلال تقطيعها مع مرور الوقت، ثم محاصرة المدن والبلدات الصامدة في وجهها. وتعرضت المدن والبلدات المحاصرة لغارات جوية وهجمات صاروخية روسية مكثفة استهدفت بنيتها التحتية ومناطقها السكنية، مما أوقع إصابات كبيرة في صفوف المدنيين وأدى إلى نزوح كافة سكانها بشكل جماعي. ونتيجة لذلك، تمكنت الميليشيات الموالية للأسد، خلال فترة قصيرة نسبيًا، من استعادة مناطق واسعة من المعارضة السورية مباشرة عقب التدخل العسكري الروسي.
وفي ذا السياق، فقد اتهمت الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى القوات الروسية والميليشيات الموالية للأسد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وبسبب الخسائر البشرية الفادحة، نزح أكثر من 13 مليون سوري (أي أكثر من نصف عدد السكان السوريين) أو أصبحوا لاجئين في عدة بلدان مجاورة وبعيدة.
في حين كانت محنة اللاجئين السوريين واضحة على المستوى الدولي، إلا أن مئات الآلاف من النازحين السوريين داخليًا يعيشون في خيامٍ على الحدود بين سوريا وتركيا منذ عدة سنوات. ويمثل هذا التهجير المتعمد جزءً من عملية تغيير ديموغرافي شامل، ففي تقرير أصدرته "منظمة الدفاع المدني السوري" ("الخوذ البيضاء") في أيلول/سبتمبر 2021، وجهت اتهامًا إلى القوات الروسية والموالية للأسد بتنفيذ "حملات تهجير... من أجل إخلاء مدنٍ تُعتبَر مناهضة للحكومة". وأدت هذه الحملات إلى "تدمير الأحياء الشرقية لمدينة حلب في عام 2016، وما نتج عنه من تهجير لأهالي الأحياء... وتهجير أهالي ريف دمشق الغربي والأحياء الشرقية لدمشق في عام 2017".
وتحديدًا في عام 2018، عانت المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من "تهجير منهجي... [في] أحياء الغوطة الشرقية والقلمون في ريف دمشق الجنوبي، و[في] مناطق في ريف حمص الشمالي، و[في] جنوب سوريا في القنيطرة ودرعا".
إن قرار تطهير أجزاء من سوريا من معارضي الأسد، وتقسيم البلاد مع ضمان الدعم الكامل أو الخضوع للأسد في مناطق سيطرته النظام، يمثل استراتيجية ربما تتكرر في إقليم دونباس. وبعد أن حقق بوتين أهدافه في سوريا، قاده نهمه الذي لا يشبع من إخضاع الشعوب الأخرى وحرمانها من نظامها الحر والديمقراطي إلى التوجه نحو هدفه التالي: أي أوكرانيا.
ومع فشل الجهود الروسية الأولية لإجبار كييف على الخضوع من خلال غزو بري واسع النطاق، عادت روسيا الى استخدام تكتيك الأرض المحروقة – أو "دبيب النمل" – وهو طريقتهم الوحيدة لتحقيق "النصر". ومن أجل تطبيقه، نُقِل كبار الضباط الذين قادوا عملية "دبيب النمل" الروسية من سوريا لقيادة العملية الروسية في أوكرانيا. وفي وقت لاحق، ورد في التقارير أن بعض هؤلاء الضباط قُتِلوا في حوادث مختلفة في أوكرانيا.
وما لا يمكن إنكاره أيضًا هو أن التقارير الدولية التي تناولت الفظائع الروسية في أوكرانيا تشبه لحد كبير تلك الفظائع التي ارتُكبت في سوريا، مذبحة بوتشا إلى الروايات عن اغتصاب النساء والفتيات الأوكرانيات على نطاق واسع. وعندما تنسحب القوات الروسية من المدن الأوكرانية بالتفاهم أو تُطرد منها، فإنها تترك وراءها قصصًا مروعة عن عمليات القتل الجماعي والاغتصاب في محاكاة للعنف الممنهج الذى ارتُكِب بحق المدنيين في سوريا.
المعاناة مع الفارق في الاستجابة الدولية
يعكس الانخراط المتزايد للولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية في الأزمة الأوكرانية مدى التباين في تعاطى تلك الدول مع الأزمة السورية والأوكرانية فعلى الرغم من أوجه التشابه الكبيرة في التدمير الممنهج للمدن السورية والأوكرانية، إلا أن الاختلاف في التعامل الدولي مع كلا الأزمتين كان صادماً. فقد لاقت الفظائع التي ارتُكبت في أوكرانيا تعاطفًا دوليًا واسعًا رافقته دعوات إلى محاكمة المسؤولين الروس في "المحكمة الجنائية الدولية". وفضلًا عن ذلك، فقد فُرِضت عقوبات اقتصادية ومالية قاسية على القيادة والمؤسسات الروسية. كما سارع مسؤولون رفيعو المستوى من دول مختلفة بالإضافة إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة إلى أوكرانيا ليشهدوا الدمار والمجازر التي ارتكبتها القوات الروسية.
في المقابل، فقد شجّع الصمت الدولي الروس والقوات الموالية للأسد على ارتكاب مجازر مروعة بحق الشعب السوري. لذلك، لا يمكن رد أسباب هذا الموقف الدولي لندرة المعلومات، حيث تم توثيق تلك الفظائع بشكل جيد لعدة سنوات. ففي تقرير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" الصادر في آب/أغسطس 2019، تم تسليط الضوء على قيام القوات الروسية والموالية للأسد بـ"الاستخدام الواسع النطاق والمتكرر" لـ"الأسلحة الحارقة والذخائر العنقودية والصواريخ العادية والصواريخ المملوءة بالمسامير والبراميل المتفجرة وصولًا إلى أسلحة الدمار الشامل الكيميائية".
ومع أن تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان قيّمت هذه الانتهاكات في أحيان كثيرة على أنها ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لم تتم محاسبة الجناة الروس والسوريين حتى الآن. وفى حين قامت الولايات المتحدة بسن عقوبات قانون قيصر، إلا أنها لم تفرض أي عقوبات على روسيا على وجه التحديد، كما تم التشكيك مرارًا في مدى فعالية تلك العقوبات ضد مسؤولي النظام السوري. كل ذلك يشكل تناقضاً حاداً مع الجهود السريعة والمنسقة جيدا من قبل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ردًا على الإجراءات الروسية في أوكرانيا.
وفى ظل تغيير مجريات الحرب التي كانت تتوقع فيها روسيا تحقيق نصر خاطف، ربما تعيد إدارة بايدن إحياء خطة غلاسبي لجرّ بوتين إلى الفخ الأوكراني من أجل تدمير القدرات العسكرية والاقتصادية الروسية. وستوفّر هذه الخطة على أمريكا الدخول في مواجهة مستقبلية مع خصمين قويين ومتعاونين هما: الصين وروسيا. على نحو مماثل، فقد أشار أوباما إلى أن تورط روسيا في سوريا سيكون بمثابة التورط في "مستنقع" - ومع ذلك فإن صراعاً واحداً فقط أثار تدفق الكثير من المساعدات العسكرية للقتال ضد روسيا بشكل صريح.
على عكس أوكرانيا، لم يتم تزويد الثوار السوريين بأي صواريخ أرض - جو أو أسلحة فتاكة أو معلومات استخباراتية للحد من فعالية الغارات الجوية الروسية والسورية. عوضا عن ذلك، ركزت المساعدة على محاربة تنظيم "داعش"، ففي مطلع عام 2018، قدمت الولايات المتحدة ما يقدر بنحو 28.5 مليار دولار لمحاربة التنظيم في العراق وسوريا، واستثنت فصائل الجيش السوري الحر من تلك المساعدات. كما طلب ترامب 300 مليون دولار فقط في السنة المالية 2020 "لمواصلة تجهيز ودعم القوات الشريكة السورية".
وبالتالي، فإن مقارنة الدمار في مدينة ماريوبول الأوكرانية بالدمار في مدينة حلب السورية (بعد أن ألحقت الهجمات الروسية بكليهما دمارًا شديدًا) – يثير غضب المتمردين المناهضين للأسد والحكومات التي تتذكر غياب أي رد دولي ملموس على الفظائع الأخيرة في سوريا.
كما علق بعض قادة المنطقة على هذا التناقض، فخلال "منتدى الدوحة"، أشار وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بمرارة على حقيقة أن "رد فعل المجتمع الدولي إزاء الأزمتين كان مختلفًا."
وبعد فوات الأوان، أدرك عدة مراقبين وسياسيين أن الأزمة الأوكرانية نشأت في سوريا. إلا أن قلةً منهم تحلوا بالشجاعة التي أظهرها أليكسي أريستوفيتش عندما صرح على حسابه على تويتر بأن "الغرب نفسه... هو من ربّى الوحش بوتين".
لقد أدى تملص روسيا من المسؤولية عن جرائمها في سوريا إلى تشجيعها على تكرارها في أوكرانيا. لذلك، ثمة فرصة لا تُفوَّت أمام الغرب عمومًا والإدارة الأمريكية بشكل خاص لمحاسبة المسؤولين الروس والسوريين على قتل مئات الآلاف من المواطنين الأوكرانيين والسوريين. وفى حال خروج روسيا من الحرب منتصرة، فثمة احتمال كبير لتكرار السيناريو مجدداً، حيث سيعاني مواطنو دول أخرى أيضًا من نتائج عملية "دبيب النمل" الروسية.
كما علق بعض قادة المنطقة على هذا التناقض، فخلال "منتدى الدوحة"، أشار وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بمرارة على حقيقة أن "رد فعل المجتمع الدولي إزاء الأزمتين كان مختلفًا".
وبعد فوات الأوان، أدرك عدة مراقبين وسياسيين أن الأزمة الأوكرانية نشأت في سوريا. إلا أن قلةً منهم تحلوا بالشجاعة التي أظهرها أليكسي أريستوفيتش عندما صرح على حسابه على تويتر بأن "الغرب نفسه... هو من ربّى الوحش بوتين".
لقد أدى تملص روسيا من المسؤولية عن جرائمها في سوريا إلى تشجيعها على تكرارها في أوكرانيا. لذلك، ثمة فرصة لا تُفوَّت أمام الغرب عمومًا والإدارة الأمريكية بشكل خاص لمحاسبة المسؤولين الروس والسوريين على قتل مئات الآلاف من المواطنين الأوكرانيين والسوريين. وفى حال خروج روسيا من الحرب منتصرة، فثمة احتمال كبير لتكرار السيناريو مجدداً، حيث سيعاني مواطنو دول أخرى أيضًا من نتائج عملية "دبيب النمل" الروسية.