كانت معركة الغوطة تشرف على نهايتها، وكانت الوحدات التابعة للنظام، والتي جهّزتها وساندتها وعززتها القوات الروسية والإيرانية، على وشك تحقيق انتصار كامل: فصائل المعارضة جميعها قد هزمت أو تكاد، الحواضن الشعبية لهذه الفصائل والتي تمنعت عن إشهار الولاء للنظام في المراحل السابقة عوقبت ورحّلت، والتعفيش شمل كل ما له أية قيمة مادية في المناطق التي سقطت بيد النظام. إقدام النظام بالتالي على استعمال السلاح الكيماوي في هذا الظرف، مع ما ينتج عنه من إدانة دولية وعرقلة لتحقيق النصر الشامل، يبدو بالتالي وكأنه خطأ فادح في الحساب. بل إن هذا الفعل يبدو متعارضاً مع مصلحة النظام بشكل صارخ ما يضفي على الرواية الروسية المتدرجة في الأعذار قدراً من الصدقية: يعقل إذن أن الاعتداء لم يحدث ابتداءاً، أو إن كان من تسرب للمادة الكيماوية فقد يكون ذلك نتيجة تخزينها لدى فصائل المعارضة وانتشارها جراء القصف، بل قد تكون هذه الفصائل قد تعمدت استعمال السلاح النووي واستهدفت حاضنتها بنفسها لشحذ التعاطف العالمي.
غير أن القراءة المتأنية لتاريخ النظام في سوريا وسجله الاستبدادي الطويل تشير إلى أن النظام هو بالفعل من ارتكب جريمة الهجوم الكيماوي، ولكن ليس لأغراض عسكرية. بل إن هذا الاعتداء جاء في إطار سعي النظام إلى إحياء المعادلة الوحيدة التي شأنها أن تحقق له البقاء، وهي القاضية بتيئيس الإنسان السوري.
فكما كان الحال في مرات سابقة عديدة، صاحب هذا الاعتداء تداول أشرطة مرئية تظهر الفظائع، بما في ذلك الأطفال والرضّع وهم يستميتون للتنفس. وخروج هذه الأشرطة ليس نتيجة تسريب ولا هو مجرد التقاط عَرَضي للوقائع الجانبية لعملية عسكرية، بل إن هذه الأشرطة هي الغرض المتعمد من الاعتداء. فمن خلالها تصل الرسالة الواضحة التي يريد النظام إبلاغها لعموم السوريين: نقتلكم، نعذبكم، نذيق أطفالكم مرّ الألم، وليس لكم من ملاذ؛ لكم الخضوع، عسى أن تتجنبوا بعض الأذى، أما إن عاندتم فنبيدكم عن بكرة أبيكم.
فخلف واجهة الرئيس العصري في شكله، والسيدة الأولى الأنيقة والمتألقة، وخلف خطابيات المندوب إلى المنظمة الدولية والتي تزعم أن للنظام ما يحتج به، واظب النظام منذ اندلاع الثورة عام ٢٠١١ على تكرار رسالة ثابتة للمجتمع السوري: العالم غير مبالٍ بمصابكم، وهو وإن بدا بصيص اهتمام في أوساطه لما يجري لكم، عاجز عن تجاوز روايتنا، وإن تمكن من ذلك فهو يفتقد السبل لأن يتحرك. فالوعود التي أغدقتها عليكم الولايات المتحدة كاذبة وخاوية، وأوروپا عاجزة، والدعم من العربان والسلطان هباء، فسوف تهزمون وسوف تعاقبون، وإن عفونا عن أرواحكم فإنكم سوف تهتفون بحياة الرئيس القائد من تحت أقدام جنودنا.
ولإيصال هذه الرسالة الفجة إلى عموم المجتمع السوري، يعتمد النظام على منظومة من أربعة مستويات.
عند المستوى الأعلى، يطفح إعلام النظام وبياناته بالاستهجان والغضب عند كل اتهام باستعمال السلاح الكيماوي، واعتماده هنا هو على قلّة الانتباه في الساحة الدولية المشرذمة إزاء الوضع في سوريا، فيتوجه إلى كل جمهور في هذه الساحة بمضمون يتلاءم مع توقعاته. فالمعترضون على هيمنة القوة العظمى يتحفون بأخبار مقاومة النظام للدعاية الغربية الساعية إلى تلطيخ سمعته، فيما المعادون للتوجهات الإسلامية أو حتى للإسلام نفسه فمدعوون للتعاطف مع هذا النظام الزاعم للعلمانية بوجه الانحطاط الإسلامي السياسي أو الديني. أما الأوساط العربية والمسلمة فيشار في عرض واقع الحال لها إلى الترابط والتزامن بين العدوان الإسرائيلي وتهمة الهجوم الكيميائي كدليل دامغ أن التهمة محض افتراء. ويجري تدوير هذا المضمون، وكل ما يحققه من ردود فعل إيجابية في الإعلام الموجّه إلى الداخل السوري للتأكيد القاطع بأن النظام ناجح في تحديد معالم الرواية العالمية حول ما يجري هنا، فالرسالة الضمنية هنا هي أن «العالم يصدقنا ولا يبالي بكم».
أما المستوى الثاني فهو الانتاج الإعلامي الأصلي الموجه للجمهور المحلي، ومن خلاله يجري تأصيل السلوك المرتقب إزاء النظام ورأسه. فالغلو في التبجيل والخضوع هنا مقبول، بل مرغوب، فتتوالى مشاهد الاستذلال والتسابق على حطّ قدر الذات والآخرين في إشهار الولاء للقائد المفدّى. سكان الغوطة العطشى، بعد تحمّلهم حصاراً قاسياً وقصفاً قاتلاً شتّت شملهم وقتل عزيزهم، كان عليهم الهتاف بفداء رأس النظام بالروح والدم، على شاشات إعلام النظام المرئي، كشرط للحصول على قدر قليل من المياه. أما المقاتلين التابعين للنظام هنا، فإظهارهم لكامل ولاءهم مرّ عبر الصراخ والتهويل في أوامرهم لجموع السكان أن يعلنوا مطلق الطاعة. والبرنامج الإعلامي للنظام برمتّه هو مجموعة متبدلة من الصور المشابهة لهذا المشهد، بعضها دقيق خفي وبعضها الآخر فجّ وقح، إلا أنها برمّتها تفيد أن القيادة قديرة على كل شيء وحاضرة في كل مكان وأن الولاء والطاعة لها فرض واجب في كل آن.
والفعالية القصوى للمستوى الثاني لا تتحقق إلا من خلال تفعيل المستوى الثالث والذي يعتمد على وسائط التواصل الاجتماعي كوسيلة للنشر. في عتمة هذه الوسائط يجري تبادل المقاطع المرئية التي تتغنّى بالإهانة والتعذيب والقتل، كمظاهر لمصدر قوة النظام الأولى أي قدرته على الترويع. فمن المقطع الذي شاع رواجه لجندي سوري يضرب الأسرى ويدعس على وجوههم قائلاً «تطالبون بالحرية، خذوا الحرية» إلى الأشرطة القاتمة التي تنقل حالات اعتداءات جنسية وإعدامات لا تختلف عن تلك التي أصدرها تنظيم «الدولة الإسلامية» إلا بسوء معايير الانتاج، فيما المضمون الساقط متطابق. والتعليقات في صفوف مؤيدي النظام حول هذه المقاطع هو الترحيب والقبول والانتشاء، غير أن الجمهور المقصود هو أولاً معارضي النظام، والغرض الأول هو بثّ روح اليأس في صفوفهم. ومع تواصل الإساءات والجرائم التي يرتكبها النظام، فإن سيل هذه المقاطع مستمر دون توقف. إلا أن هذا البرنامج المعمّى يحتاج بين الحين والآخر إلى المواد المذهلة، كما الأشرطة التي تظهر عواقب الهجوم الكيميائي، للمحافظة على فعالية عامل الترويع.
أما المستوى الرابع فهو مجموع رسائل التواصل الاجتماعي، الحاصلة تلقائياً أو المصطنعة والمدفوعة، والتي من شأنها تأكيد فعالية المستويات السابقة والمحافظة على سيطرة النظام على الخطاب المتداول في الفضاء الافتراضي. والهدف هنا هو التضييق على كل مخالف، من خلال الشتائم والتهديدات، لردع أي خروج عن الطاعة أو تحدٍ للمواقف التي تشيعها السلطة.
فحساب النظام، ومعه أربابه الروس والإيرانيين، هو أن الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، ليست راغبة البتة بالانخراط الواسع والذي من شأنه أن يزعزع الاستقرار الشرير للحرب السورية. أي أن واشنطن ليست بصدد التورط الجدي في سوريا. فالضربة الأميركية من شأنها دون شك إنزال الخسائر بالمقومات العسكرية للنظام. غير أن التعويل المتزايد لهذا النظام على الموارد الروسية، والتي لن يطالها إي ضرر، يجعل من الخسارة المرتقبة ثمناً مقبولاً ليتمكن النظام من المزيد من التأصيل لحكمه الترويعي. والواقع هو أن أية ضربة لا تقتل النظام تزيده قوة. ومهما كان حجم الضربة، ما لم تصاحبها رؤية واضحة للإطاحة بالنظام الاستبدادي، من شأنها تعزيز موقفه وروايته القائلة أن العالم غير المبالي، غير الراغب بالتورط، لن يقدم إلا على خطوات رمزية لا جدوى منها ولا تخدم إلا مصالح من قام بها. وعندها لا يبقى للإنسان السوري إلا الرضوخ لأمر قاتله.