- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مراجعة مدونة الأسرة محورا للنقاش العمومي بالمغرب
في محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من التوازن الاجتماعي والسياسي، قامت الحكومة المغربية بإصدار "مدونة الأسرة" عام 2004, فبعد مرور عشرين عامًا، لا يزال إصلاح قانون الأحوال الشخصية يشكل قضية مركزية بالنسبة للكثيرين.
منذ انفضاض عقد الحماية الفرنسية سنة 1956 وتأسيس الدولة المغربية المستقلة ذات السيادة، احتل الخطاب المرتبط بإصلاح قانون الأحوال الشخصية مكانة مركزية لدى الحركة الإصلاحية بالمغرب. وينظر العديد من المواطنين إلى القانون على أنه تجسيداً لتوجهات الدولة الدينية والأخلاقية والاجتماعية. ونتيجة لذلك، أصبح قانون الأحوال الشخصية ساحة معركة بين القوى المحافظة والإصلاحية في المجتمع.
وقد نشب الصدام بين المدافعين عن إدماج قانون الأحوال الشخصية ضمن القانون المدني وبين القوى العازمة على إبقائه ضمن الإطار الديني، وعلى مدى عقود، فشلت هذه الأطراف المتنافسة في التوصل لأرضية مشتركة. كما سلطت النقاشات الساخنة التي دارت حول قانون الأحوال الشخصية في تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية الحالية، الضوء على الانقسامات المتزايدة داخل المجتمع المغربي. وفي محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من التوازن الاجتماعي والسياسي، قامت الحكومة المغربية بإصدار "مدونة الأسرة" عام 2004. وقد شكل قانون الأسرة، الذي يتسم بالشمولية في نطاقه وحجمه، تحولا كبيرا في سياسة الدولة تجاه وضع المرأة والزواج والميراث وغيرها من المسائل الاجتماعية والثقافية الهامة.
وعلى الرغم من أهميتها لم تحظ مدونة الأسرة بقبول جميع الأطراف، فبعد مرور عشرين عامًا، لا يزال إصلاح قانون الأحوال الشخصية يشكل قضية مركزية بالنسبة للكثيرين. إذ يعود في هاته الأيام النقاش حول إصلاح مدونة الأسرة ومراجعة أحكامها من جديد، فبأي وجه عاد هذا النقاش العمومي؟ وأين سيؤول؟
انطلاق النقاش العمومي حول مدونة الأسرة
من الجدير بالذكر أن النظام القانوني المغربي لم يُحسم إطاره الأيديولوجي بشكل واضح بعد، حيث برز اتجاهان رئيسيان منذ استقلال الدولة المغربية وكلاهما يطرحان مواقف متضاربة تتعلق بالأسس التي ينبغي أن تتضمنها المدونة، وكلما أثير نقاش حول تعديل المدونة أو مراجعتها، سارع فقهاء الدين إلى ختم قانون الأحوال الشخصية بالطابع الإسلامي والشرعي، مما يثير بشكل مستمر حفيظة "القوى الحداثية" المنادية بضرورة "دمقرطة" و"تحديث" جميع القوانين بدون تمييز. هذا الجدل التاريخي الحاد بين التيارين يختص به قانون الأحوال الشخصية دون غيره من القوانين.
تمحور النقاش منذ لحظة استقلال الدولة المغربية حول مرجعية القانون وهل ستكون دينية أم وضعية، ولطالما ارتبط قانون الأحوال الشخصية في المغرب بالتعاليم الإسلامية. وفى حين ركز تيار "فقهاء الدين" مثل علال الفاسي على دعم المرجعية الدينية، انبرى للدفاع عن المرجعية الوضعية الأكثر تقدمية “فقهاء القانون الوضعي" مثل موريس دوفرجيه ، وبعد شد وجذب؛ تم إيجاد صيغة "شبه توافقية" بين الفريقين، حيث تم "ختم" قضايا الأحوال الشخصية بالطابع الإسلامي والشرعي، وشحن ما عداها من قضايا الأحوال المالية والجنائية بالحمولة الوضعية.
ومع ذلك، أصبحت مراجعة مدونة الأسرة في الآونة الأخيرة موضوعا مطروحا للنقاش العمومي على نطاق واسع في المغرب. وفى ظل تلك التفاعلات الأكثر انفتاحًا حول الإصلاحات المحتملة، صار النقاش الصاخب سمة مميزة لأي عملية تعديل للقانون المتعلق بهذه القضية.
على سبيل المثال، شهد المغرب نقاشا حادا في عدة مناسبات، ففي سياق تعديل قانون الأحوال الشخصية لسنة 1993؛ حصلت "فورة كبيرة" على مستوى النقاش المجتمعي بخصوص قضايا مثل تكريس ولاية المرأة ومنع التعدد وأهلية الزواج...إلخ. وقد برزت تلك النقاشات جزئياً نتيجة الاهتمام المتزايد من قبل الإصلاحيين بالقضية، ما شجع الدولة المغربية على مراجعة قانون الأحوال الشخصية وتحديثه في المقام الأول. وفي عام 1993، أدى هذا الضغط المتزايد إلى إدخال تعديلات على قانون الأحوال الشخصية وذلك على الرغم من أن هذه التعديلات لم ترق لتطلعات الفاعلين المدنيين والسياسيين.
ومع ذلك، كانت اهم المكتسبات التي تحققت آنذاك هو إزاحة الطابع القدسي عن المدونة وجعلها في خانة القانون القابل للأخذ والرد، بمعنى أن هذا القانون أصبح خاضعا شأنه شأن باقي القوانين للتداول المجتمعي والنيابي في المؤسسة التشريعية باعتبارها ممثلة للإرادة العامة للأمة المغربية وداعمة لمسلسل بناء دولة الحق والقانون بالمغرب. وهو الأمر الذي كرسه الفصل 71 من الدستور المغربي لسنة 2011 الذي وضع مدونة الأسرة ضمن مجالات القانون الخاضعة لاختصاص البرلمان في مجال التشريع.
مؤخرا، أشارت المبادرة التي اتخذها الملك محمد السادس إلى احتمالية حدوث تعديل قانون الأحوال الشخصية، حيث أصدر الديوان الملكي المغربي بلاغا في أيلول الماضي يعلن فيه أن الملك بصفته "أمير المؤمنين" وجه رسالة إلى رئيس الحكومة يدعوه فيها إلى إعادة النظر في مدونة الأسرة، مع الالتزام بمبدأ "التشاور التشاركي الواسع" مع جميع الفاعلين المعنيين، سواء كانوا رسميين (مؤسسات الدولة) أو غير رسميين (فعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين).
وربما يكون هذا هو السبب الحقيقي لتوجس بعض "شيوخ الدين" من تعديل المدونة، ذلك أن التحول من صيغة "القانون الشرعي" إلى صيغة "القانون الوضعي" في التدبير التشريعي لقضايا الأسرة، يبدو "مزعجا" لكثير من الفعاليات الإسلامية التي طالما راهنت على إمكانية إقرار الشريعة كمصدر وحيد للتشريع والقرار العمومي بالمغرب.
ما يلاحظ في سياق النقاش العمومي الحالي أنه جاء متزامنا مع ظرفية "الزلزال المدمر" الذي ضرب بعض المناطق في جنوب المغرب في أيلول / سبتمبر الماضي ، مما يعني أن الموضوع كان مبرمجا منذ مدة ضمن "الأجندة الرسمية" بالشكل الذي يجعله يكتسي طابع الاستعجال، وهو الأمر الذي أكده بلاغ الديوان الملكي من خلال الإحالة على "خطاب العرش لسنة 2022" الذي خصص حيزا هاما لموضوع الأسرة، كما أن استخدامه لعبارة "الإصلاح الهام"، يشير أيضًا إلى أن هذه التعديلات المزمع إدخالها على مدونة الأسرة كانت مدرجه على جدول أعمال الحكومة.
بنية محافظة تهيمن على المشهد العام
على إثر تداول خبر بلاغ الديوان الملكي حول تعديل مدونة الأسرة على صفحات الجرائد ووسائل التواصل الاجتماعي، تناسلت العديد من المنشورات والتعليقات الرافضة لفكرة إصلاح المدونة. وسبب موجة الرفض هاته هو ترويج بعض الشائعات (في ظل غياب أي مشروع تعديلي في الواقع) حول وجود نية رسمية لتعديل بعض "القضايا الدينية الحساسة" في المدونة من قبيل: الميراث، ولاية الرجل، النفقة، تدبير واقتسام الأموال الزوجية المشتركة عند الطلاق.
ولعل بلاغ الديوان الملكي المشار إليه سابقا، يؤكد حقيقة وجود نوع من التحول في مسألة التدبير الرسمي لقانون الأسرة، فجعل عملية إعداد مشروع تعديل المدونة تحت "الإشراف العملي... لكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية للموضوع" مع تكليف هذه المؤسسات (وليس الملك) بدعوة وإشراك الهيئات الأخرى المعنية بهذا الإصلاح، والتي في مقدمتها المجلس العلمي الأعلى باعتباره المؤسسة الدينية المكلفة بتقديم الفتاوى الدينية ذات "الطابع الاستشاري"، كل ذلك يعزز فرضية التقدم في مسلسل إضفاء الطابع الوضعي على قانون الأسرة.
قادت حملة رفض إصلاح المدونة بعض الرموز الدعوية المحسوبة إما على التيار "السلفي/الوهابي"، أو على التيار "الإخواني"، بل وقد تعدى الأمر حتى إلى بعض الرموز السياسية، فرئيس الحكومة السابق والأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية؛ وجه نقدا لاذعا لفكرة الإصلاح الحداثي لقانون الأسرة باعتبار ذلك يتعارض مع "ثوابت المغاربة وهويتهم".
علاوة على ذلك، تعكس المقاومة الشديدة لإصلاح مدونة الأسرة من قبل الشخصيات الدينية والمحافظة ديناميات القوة الكامنة داخل المجتمع المغربي، فرغم استجابة الفاعل الرسمي لمطالب النشطاء ووضع التحديث قيد التنفيذ إلا انه يبدو أن محاولة تحديث البنى الفوقية وإضفاء الطابع العصري عليها لا يسير في نفس الخط مع واقع البنى التحتية والقاعدية، إذ لا تزال القوى المحافظة مسيطرة رغم انتزاع بعض سُلطها التقليدية في تدبير الشأن العام. ومن ثم، فإن انتزاع وظيفتها القيادية للمجتمع أو حتى مشاركتها في ذلك لن يكون بالأمر الهين، وهي مسؤولية تقع على عاتق الدولة والقوى الديمقراطية على حد سواء.
سقف المطالب الإصلاحية للمدونة بين المأمول والواقع
لطالما راهنت الحركة الحقوقية على إجراء تعديلات شاملة في مدونة الأسرة تمس قضايا الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنات والمواطنين، فقد شكلت مثلا آلية التقارير الموازية المقدمة للهيئات الأممية (بمناسبة الاستعراض الدوري الشامل أو انعقاد الهيئات التعاهدية) سلاحا أساسيا لمنظمات المجتمع المدني من أجل الترافع في المستوى الدولي عن تحقيق مطلب المساواة الكاملة بين النساء والرجال سواء على مستوى الولاية أو اقتسام أموال التركة أو المسؤوليات المشتركة للزوجين، وكانت هاته المطالب تلاقي قبول كبير من طرف المنتظم الدولي الذي تبناها في مخرجاته المقدمة للدولة المغربية من أجل دعم مسلسل الإصلاح التشريعي لنظام الأسرة والمرأة.
إن ما يجب استحضاره بقوة هو أن إشكالية إصلاح قانون الأسرة لا ترتبط بالمدخل التشريعي فقط، بل هي إشكالية تتصل كذلك بالجوانب الثقافية والسياسية، فإذا أخذنا بالاعتبار الطابع المحافظ للبنية الاجتماعية المغربية الذي سبق الحديث عنه، فإن النظام السياسي نفسه لا يزال "يعتنق" بعض العناصر المحافظة والتقليدية تضمن بعضها الدستور المغربي لسنة 2011، كما أنه باستحضار الثوابت التقليدية للنسق السياسي، والمتمثلة في الدين الإسلامي بمحدداته الثلاث (المذهب المالكي عقيدة الأشعري وطريقة الجنيد السالك) وإمارة المؤمنين التي تعتبر مؤسسة محورية في الحياة السياسية المغربية ثم البيعة الشرعية التي من مقتضياتها "حماية الملة والدين"، فإنه يمكن القول أن سقف تعديل مدونة الأسرة لن يذهب بعيدا، ولن يساير كثيرا رهانات الحركة المدنية الوطنية والدولية.
والأكثر من ذلك، فقد سبق للملك في خطاب العرش لسنة 2022 أن حدد الإطار العام للتعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة بالقول "لن أحل ما حرم الله ولن أحرم ما أحل الله..."، وهو ما يعني تضييق المساحات المتاحة أمام اللجنة المكلفة بصياغة مسودة التعديل، ومثلها مؤسسة البرلمان المفترض فيها أن تصادق على تلك المسودة، فالخطابات الملكية بالمغرب تتمتع بقيمة معنوية كبيرة من الصعب على الفاعل العمومي تجاوزها أو تخطيها.
وإذا كان النقاش العمومي حول تعديل أحكام مدونة الأسرة انطلق بموجة رفض عارمة على مواقع التواصل الاجتماعي حتى في ظل غياب أي صيغة رسمية للتعديل المرتقب، فإن الأيام المقبلة ستشهد استقطاب شديد وحدة في النقاش الذي قد يستحيل سجالا كما هو حال المناسبات السابقة التي طرح فيها موضوع تعديل قانون الأسرة. وفي هذا السياق؛ سيكون من المفيد تقديم بعض السيناريوهات المطروحة بخصوص مآلات النقاش العمومي حول تعديل مدونة الأسرة:
-السيناريو الأول: تحقيق الملاءمة الكاملة لأحكام مدونة الأسرة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وبالتالي الاستجابة لمطالب الحركة الحقوقية، وهو أمر مستبعد في الوقت الحالي لأسباب سياسية وثقافية واجتماعية سبق التطرق لها؛
-السيناريو الثاني: إجراء بعض التغييرات الطفيفة على المدونة دون المس بجوهرها، وهو أمر نستبعده لكون ذلك لن يفيد في استثمار النظام السياسي لموضوع الإصلاح في الاستهلاك الداخلي والخارجي بما يسهم في تلميع صورته؛
-السيناريو الثالث: الحرص على أن تكون التعديلات مرضية لجميع الأطراف والفعاليات الاجتماعية والسياسية حفاظا على الحد الأدنى من التوازن الذي يخدم شرعية النظام السياسي، وهو السيناريو الذي نزعم أنه الأقرب إلى التحقيق.
وفي الختام، تبقى قضية إصلاح مدونة الأسرة مهمة في الوقت الحالي، وما من شك أن ذلك الإصلاح سيبقى خاضعا لمبدأ التراكم والتدرج بما ينسجم مع طبيعة البنى الاجتماعية والثقافية السائدة. وبما أن قضية إصلاح المدونة تهم جميع شرائح المجتمع المغربي ولا تقتصر أثارها على الأسرة فقط ، بل تمتد لتشمل جوانب الحياة العامة للشعب المغربي، ينبغي على جميع الفاعلين السياسيين والمدنيين ألا يجعلوها ساحة للتوتر والاستقطاب والصراع.