- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مصلحة لبنان تدعوه لإعادة النظر بعدائه لإسرائيل
بدا مشهد إعلان رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، للاتفاق حول إطار التفاوض مع إسرائيل بإشراف أممي ووساطة أميركية، وكأنه يطيح بعقود من النبرة الخطابية القاسية إزاء «الكيان الصهيوني». كلام بري تضمن إشارات متعددة إلى رغبات ومصالح لكل من «الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية». هي نثرة وحسب من كلام طبيعي، ولكنها ثورة في الخطاب، نظراً لعمق التحالف والولاء لدى بري مع الطرف التابع لإيران في لبنان. بل إن الصف الموالي لإيران قد واظب إلى هذا الحين على الإدانة الحادة لكل من يشير إلى إسرائيل باسمها بتهمة اقتراف التطبيع الخياني.
وقد استماتت المنظومة الإعلامية المؤيدة لإيران منذ صدور كلام نبيه بري في محاولات لتفسيره على أنه، بطريقة ما، دليل انتصار آخر لفريق المقاومة. ولكن بغض النظر عن الإنكار، فإن ما حدث هو رفع لما كان بالأمس من المحرمات، سواء جاء هذا الرفع متعمداً وباعتبارات بعيدة المدى تقرّ بالحقائق، أو كان مرحلياً يسعى إلى قدر من التحصين إزاء احتمال التعرض لضربات في الواقع المتذبذب للأشهر القادمة. التطبيع مع إسرائيل ليس وارداً اليوم بالطبع، على أن جملة من الأسباب الدافعة والجالبة تلتقي لتجعل من التبديل الفعلي حاجة ملحة.
وفيما يتعدى الحسابات والضوضاء في معسكر «المقاومة»، فإن الإدراك العام في لبنان يتنامى في أن الانتقال بإسرائيل من تصنيف «العدو»، وهو الحاصل بصيغة المسلمات الابتدائية، إلى موقع الدولة الجارة والشريك المحتمل على مستوى المنطقة، من شأنه تصحيح المسار التاريخي للبنان باتجاه ما كان يسعى إليه، أي أن يحقق الانفتاح والأمان والازدهار. من شأن لبنان أن يحقق مكاسب جمّة في حال اختار الخوض بإيجابية. ومن شأنه بالمقابل أن يمنى بخسارات لا تعوّض في حال امتنع. إذ تأتي اتفاقية السلام بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل ونظيرتها بين البحرين وإسرائيل، لتشكل إرهاصاً لقيام واقع جديد في المنطقة يشمل إسرائيل، ويغلق الباب أبداً أمام احتمال استحصال لبنان خاضع لإيران على أموال من الخليج.
بل في حال حظي هذا الواقع الجديد بالإدارة الحسنة من شأنه أن يمهد لقيام منطقة تعاون اقتصادي مثمر تمتد دون انقطاع من شواطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث إسرائيل، إلى الخليج. ومع هذا الواقع، والمسألة هنا ليست عرضية، فإن مصاب الفلسطينيين، كشعب محروم من قراره الحر بتقرير المصير، يحظى بفرص أفضل للوصول إلى حلول منصفة.
أما لبنان، عند النظر إلى تركيبه الاجتماعية الاقتصادية، وتراثه التجاري العملي، وثروته الفكرية والإبداعية، فبوسعه أن يندرج تلقائياً في هذا الواقع. ولدي ما يضمّه من مجتمع مدني، ومجتمع أعمال، وحتى طبقته السياسية المشبوهة، من الطاقات والإمكانيات للاضلاع بدور بارز في هذا الشرق الأوسط العتيد - والذي في حقيقة الأمر يشبه لبنان كما يرى نفسه. أما العقبة أمام السعي لهذا الحل لما يواجه لبنان من تشظٍ اقتصادي ومالي وسياسي فهو أن قوة خارجية، هي إيران، قد استثمرت طويلاً لجعله موقعاً عسكرياً متقدماً لها وأداة ناجعة على المدى البعيد.
بل تتضح الصورة في العديد من الأوساط اللبنانية بأنه في حال لم يجرِ هذا التحول، فإن البديل قد يكون زوال لبنان، وتصفية مجتمعه التعددي، وتبديد طاقاته وإمكاناته. وليست هذه الصورة وليدة ترويج دعائي مؤيد لإسرائيل، ولا هي نتيجة «الفوضى الخلاقة» المزعومة أو العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة، بل هي تصوّر مباشر لمآل لبنان إذا استمر على نهجه الحالي، ووصف لنهاية تكاد أن تكون محتومة.
تطويع حزب الله للنظام الطائفي في لبنان
العسكرة التي تعرضت لها أجزاء واسعة من الطائفة الشيعية في لبنان، لتشكيل جيش صريح في ولائه لإيران وعصي عن أية مساءلة وطنية لبنانية، ليست حادثاً عابراً في التاريخ اللبناني، وليست حالة أخرى من التجارب اللبنانية الصعبة مع التدخلات الخارجية. بل هي، بحكم طبيعتها وأفعالها، نقيض صريح للبنان.
من حيث القوة وما يتعداها، يختلف حزب الله نوعياً عن الحالات السابقة من العسكرة الطائفية. تلك الحالات كانت على الغالب ردود فعل دفاعية إزاء ما جرى اعتباره غبناً أو إجحافاً في تحقيق التوازن ضمن الوطن اللبناني الواحد. أما حزب الله، والذي نشأ ليحاكي الصيغة القديمة من الولاء المحلي في الإيالات البعيدة للسلطة الإيرانية المركزية، فهو قد عمل على إقامة واقع منفصل للطائفة الشيعية كالطيف المقاتل من أطياف لبنان. والواقع أن اللبنانيين الشيعة بالفعل قد قاوموا «المقاومة»، دفاعاً عن مجالهم الشخصي والجماعي. ولكنه لا بد من الإقرار بأن حزب الله قد نجح بتحوير المشهد في جزء لا يستهان به من المجتمع الشيعي اللبناني، عقائدياً ومادياً على حد سواء.
وقد نشط حزب الله على تعزيز شعور بالتميز والتمايز في الوسط الشيعي اللبناني، سعياً لاستقطاب أفراده، سواء تحقق ذلك بشكل ولاء مبدئي أو تعاقدي.
وقد تمكن حزب الله، من خلال تأكيد صورته القائمة على وضوح المهمة وغلبة القوة، من دفع العديد من اللبنانيين من الطوائف الأخرى إلى الرضوخ القسري أو إلى الدخول بترتيبات مصلحية استدراكية. وفي العام ٢٠٠٦، تم تأصيل «عقد الذمة» بين حزب الله كطرف غالب، و«التيار الوطني الحر»، أحد أبرز الأحزاب في الوسط المسيحي. عبر الإذعان لحزب الله، ومن خلاله لإيران، وصل ميشال عون، زعيم هذا التيار، إلى موقع الرئاسة الأولى في لبنان، مفروضاً بالإكراه على سائر القوى اللبنانية، ليشكل الواجهة المناسبة لسيطرة إيرانية بدت مستدامة على لبنان، بواسطة حزب الله.
هكذا قوّض حزب الله لبنان كدولة، ليجعله وحسب ورقة بيد إيران في مواجهاتها على مستوى المنطقة والعالم. ثم أن حزب الله قد هشّم أيضاً هذه الدولة وهذا الوطن بقبوله ثم احتضانه السلوك النهبي للطبقة السياسية فيه، مقابل توفيرها الغطاء لحضوره المسلح، ومن خلال التيئيس والتهميش لمعظم اللبنانيين نتيجة استتباب منظومة حاكمة مناقضة لمصالحهم وقيمهم.
على أن سيطرة حزب الله على لبنان ليست دائرة مغلقة، أي أن استمرارها يتطلب ضخاً متواصلاً من الأموال والموارد من الخارج، من إيران نفسها، ومن المجموعة الدولية تحت ظلال الوعد والوعيد. ذلك أنه على هذه المجموعة الدولية أن تتساءل: هل يمكن نزع لبنان، بل حزب الله نفسه، من الهيمنة الإيرانية؟ وألا يتوجب أن يحصل لبنان المختلف عن حزب الله على المزيد من الدعم ليقاوم ويبقى وينجو؟ والجواب بالإيجاب على هذه الأسئلة وما تلاه من تمويل أدى إلى واقع فريد، هو أن تمويل الاحتلال الإيراني للبنان كان من جانب خصومه المفترضين.
ولكن هذا الوضع القائم في لبنان تعرّض لتحديات ملموسة مع انتهاج الولايات المتحدة لسياسة «الضغط الأقصى» إزاء إيران التي اضطرت إلى الطلب من حزب الله أن يرفع من اعتماده على الموارد المحلية. فضاعف ذلك من الضغوط على نظام كان مستنزفاً لتوّه.
وقد وضعت إيران وحزب الله موضع التنفيذ إجراءات احترازية لمواجهة حالة الضغط القصوى الحالية، بانتظار تبديل في الرئاسة الأميركية بعد انتخابات تشرين الثاني المقبل، أو على الأقل تبديل المنحى السياسي المعتمد إزاء إيران أميركياً. طموحهما هنا هو العودة بلبنان إلى الترتيب السابق، حيث تنتصب طبقة سياسية ناهبة، بتمويل خارجي، كواجهة تخفي خلفها تحكم إيراني كامل. غير أن الأوان قد فات لعودة من هذا القبيل. حتى فرنسا، والتي سعت إلى تجنب الانهيار الكامل للبنان في أعقاب الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت يوم الرابع من آب الماضي، ودعت للعودة إلى الصيغة المجربة والفاشلة للإصلاح من الداخل، كان لا بد لها من الإقرار بالهيمنة الكاملة لإيران، من خلال حزب الله، على لبنان الواقع فعلياً تحت الاحتلال.
هي حقيقة وصيغة وتركيبة أصبحت جلية عالمياً. ودون الأموال الممتنعة بالتالي من صندوق النقد الدولي ودول الخليج والغرب، فإن الترتيب المصلحي للطغمة الحاكمة، تواطؤ السلاح والفساد، لم يعد ممكناً. يترك ذلك لبنان أمام أحد مسارين، كلاهما مظلم. أما أن بتآكل ويتلاشى نتيجة رحيل متواصل لموارده البشرية وتضاؤل طبقته الوسطى المتعبة، أو أن يتعرّض، نتيجة قرار متعمد أو خطأ في التقدير، لحرب قاضية مع إسرائيل، تحقيقاً لمآل فائض العسكرة التي ألزمه بها حزب الله.
وظيفة العداء لإسرائيل
حتى دون اعتبار التأثير الإيراني، فإن التوصل إلى اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل لن يكون أمراً سهلاً تلقائياً. بل سوف يتطلب إعادة اعتبار ونظر وتفكيك لتاريخ مؤلم. هي عملية شاقة، ولكنها ليست مستحيلة. على أن العداء الواسع النطاق والحاد لإسرائيل في الخطاب العام في لبنان ليس نتيجة هذا التاريخ بقدر ما هو انعكاس للمجهود الإعلامي الإيراني في لبنان، وهو بدوره وريث السرديات القومية واليسارية والإسلامية، والتي فشلت في أن تكتسب التأييد الفعلي في المجتمع السياسي اللبناني.
آلة حزب الله الإعلامية تستدعي في إشهارها العداء لإسرائيل المبدأ، والدعاية، والنمطية. ذاكرة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، حين اقترفت إسرائيل البطش والقمع والوحشية بفائض قوتها، تبقى حية في الفضاء العام اللبناني من خلال إغراق الإعلام بتفاصيلها، مع إبراز حزب الله بموقع المنتصر. مضمون الرسالة الإعلامية هنا هي قوة حزب الله أكثر منه إسرائيل.
على أن هذا المجهود الإعلامي يتجاهل بالكامل احتلالاً آخر، كان أكثر بطشاً وأكثر انتهاجاً للقمع والوحشية، وطال أمده أكثر، وكان انتشاره أوسع على مدى المكان اللبناني، وكان أسلوبه في العقاب الجماعي أكثر إيلاماً، أي الاحتلال السوري. بل يحتفل هذا المجهود بإرسال مقاتلي حزب الله إلى سوريا لنصرة نظام الطغيان الذي احتل لبنان، بما يبيّن بمطلق الوضوح مدى استقرار القوة لدى حزب الله ومرشديه الإيرانيين في لبنان.
هذه القوة تؤسس لمعادلة استفاد منها العديد في أوساط الطائفة الشيعية، سواء من خلال عائدات مادية مباشرة من حزب الله، أو من خلال الاعتزاز المعنوي بفائض القوة لطائفتهم. ولكنها معادلة قد أوشكت صلاحيتها على الانتهاء.
عواقب هذه التطورات هي أن لبنان معرض اليوم لما هو فعلاً خطراً وجودياً، وعليه بالتالي مواجهة اختيار فائق الصعوبة. هل تتمكن القيادة العقائدية لحزب الله من إرغام الطائفة الشيعية، ومعها كل لبنان، للالتزام بالعقد المميت للتبعية لإيران، بما يؤدي فعلياً إلى انتحار للطائفة والوطن؟ أو هل تبرز المواقف في عموم لبنان، ولا سيما ضمن الطائفة الشيعية، بأن العودة إلى الوضع السابق، تواطؤ السلاح والفساد، لم يعد ممكناً، وليس مقبولاً على أي حال، وأن السبيل للازدهار، دون تفريط بالكرامة أو القناعة، هو من خلال التخلي المنهجي عن منطق المواجهات الدامية والحروب العقيمة؟
أصوات شجاعة عديدة، في السر والعلن، تشدد على أهمية تغليب المنطق والمصلحة الوطنية، وتتحدى التضييق العقائدي الذي تسعى الآلة الإعلامية المؤيدة لإيران لتحقيقه. مع هذه الأصوات، يبدو جلياً أن لبنان، ساعة يتحرر من إيران، سوف يختار طريق السلام.