- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مصر وإسرائيل ومؤامرات مياه النيل
تشير اتهامات وسائل الإعلام المصرية لدور إسرائيل في محادثات سد النهضة الإثيوبي إلى تبنى مصر وجهات نظر معينة وكيفية استخدامها لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للبلاد.
في 18 تموز/يوليو، نشرت السفارة الإسرائيلية في القاهرة تغريدةً نفت فيها الاتهامات المتداولة عبر وسائل الإعلام المصرية بأن الحكومة الإسرائيلية تهدّد الأمن القومي المصري بسبب مشاركتها في محادثات سد النهضة الإثيوبي. وردًّا على التغريدة الأولى التي نفت التدخل الإسرائيلي، أوضحت السفارة أن إسرائيل تولّد ما يكفي من المياه عن طريق المعالجة الزراعية وتحلية مياه البحر، مبديةً استعداد القدس للتعاون مع مصر في مشاريع مستقبلية للإمدادات المائية. وليست هذه هي المرة الأولى التي تجد فيها السفارة الإسرائيلية في القاهرة نفسها بمواجهة مزاعم مماثلة. فقد اضطرت في تشرين الأول/أكتوبر 2019 إلى دحض مزاعم قالت إن أنظمتها الدفاعية تُستخدم لحماية سد النهضة.
وجاءت ردود فعل النخب المصرية على هذا التصريح سلبيةً بمعظمها. فقد اتّهم النائب المصري مصطفى بكري السفيرَ الإسرائيلي بمحاولة التستر على دور بلاده المشبوه، وبرّر حجته في تغريدة ذكّر فيها بزيارة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو إلى إثيوبيا عام 2016 حين أعربت إسرائيل عن دعمها لزيادة حصص مياه النيل من إثيوبيا. وكذلك قال مذيع قناة "إم بي سي" عمرو أديب، الذي يتمتع بنسبة مشاهدة عالية، في برنامجه "الحكاية" إنه لن يصدّق الإسرائيليين ولو أقسموا بعدم وجود أي علاقة لهم بمياه النيل. ولكن في حين أن اللهجة السائدة في القاهرة هي لهجة التشكيك في إسرائيل عندما يتعلق الأمر بنهر النيل، إلا أن الدبلوماسي المصري السابق ومدير مكتبة الإسكندرية مصطفى الفقي أعرب عن رأي مختلف، مجادلاً أنه ينبغي على القاهرة أن تستغل نفوذها الإقليمي لفتح قنوات مباشرة مع إسرائيل والتماس المساعدة لتعظيم نفوذها على إثيوبيا.
في الواقع، لطالما كانت أوساط النخبة المصرية مهووسة بفكرة أن إسرائيل تحاول "سرقة" مياه النيل. ويجادل مناصرو هذه السردية بأن حدود إسرائيل الصحيحة بحسب التوراة تمتد بين نهر النيل ونهر الفرات. ويزعم تبريرٌ شائع ولكن غير مثبت عن وجود لوحة توراتية بهذا المقطع تحديدًا على مدخل الكنيست. وفي شهر نيسان/أبريل الماضي، شرح تقريرٌ للواء حمدي البطران نشرته صحيفة "الدستور" أن اهتمام إسرائيل بالنيل يعود إلى العام 1903 عندما اقترح تيودور هرتزل على الحكومة البريطانية خطةً لنقل المياه من النيل عبر قناة السويس إلى فلسطين.
وخلال المحادثات التي أجريت عام 1979، تقدّم الرئيس أنور السادات للإسرائيليين بعرضٍ "لضخ المياه العذبة من نهر النيل عبر شبه جزيرة سيناء إلى صحراء النقب"، وذلك وفقًا للمقال المؤرشف من واشنطن بوست. وبالفعل تبيّن أن هذه القضية تعاود الظهور بانتظام، حيث بدأ الرئيس السابق حسني مبارك يتصارع مع اهتمام إسرائيل المفترض بالنيل. وعام 1997، خلال حفل افتتاح قناة السلام، أعلن مبارك أنه مشروع مصري محض وأن المياه نادرة إلى درجة أنه لا يمكن تقاسمها مع الآخرين، في ردٍّ غير مباشر على نقّاده المحليين الذين كانوا يدّعون أنه سيبيع مياه النيل لإسرائيل من خلال المشروع القائم في سيناء.
واليوم قد تبرز هذه الاتهامات في الواجهة لعدة أسباب. فأولاً، شهدت الهيمنة المصرية في أفريقيا تراجعًا ملحوظًا خلال العقدين الماضيين مقابل تنامي النفوذ الإسرائيلي. وفي هذا السياق، شرح الدبلوماسي المصري المحنّك أحمد أبو الغيط في كتابه الصادر عام 2012 بعنوان "شهادتي" كيف أن الموارد المالية تشكل عائقًا كبيرًا يحد من قدرة مصر على التنافس في الساحة الأفريقية.
وعلى النحو نفسه، يعي المصريون أن نقص التنمية في دول أفريقيا جنوب الصحراء فتح الباب أمام إسرائيل للتواجد في تلك الدول من خلال تزويدها بالإرشاد والدعم بفضل خبرتها التكنولوجية والتقنية. وبالفعل تنعم أديس أبابا والقدس بعلاقات وطيدة منذ تسعينيات القرن العشرين، وازداد التعاون بينهما في مجالات الزراعة والأمن والصحة العامة وغيرها. فأثارت هذه العلاقة الشكوك في أوساط السياسات المصرية. ومن أبرز النتائج التي توصّل إليها تقرير صادر عن المركز المصري للدراسات الاستراتيجية عام 2019، أن معظم شركات الاستثمار والزراعة الإسرائيلية العاملة في إثيوبيا تملك خلفية استخباراتية.
ثالثًا، يشعر نظام السيسي بالضغط من الاستياء الشعبي المتواصل بشأن قضية سد النهضة الإثيوبي الكبير، فقد فشلت الحكومة في التعامل مع المشاعر القومية التي نشأت عن التصورات بالإخفاق في المفاوضات المتكررة حول السرعة التي ستملأ بها إثيوبيا السد. ومن شأن هذه التوترات أن تجعل إسرائيل كبش فداء سهل لتبرير الانتكاسات الدبلوماسية بسبب الانطباع الشائع بأن الأعمال الإسرائيلية تتصف بالنوايا السيئة. كما أنها تفتح الباب أمام استراتيجية التحيز التأكيدي – فالكثير من المصريين ينظرون في الأساس سلبيًا إلى إسرائيل، والروايات التي ترسّخ هذه المشاعر قد تكسب شعبية كبيرة بغض النظر عن صحتها. وحيث كانت هذه السرديات متبّناة في عهد مبارك، من غير المرجح على المدى القريب أن يغير نظام السيسي هذه الصيغة لتهدئة السخط المدني.
والواقع أن هذه المسألة الأخيرة في العلاقات المصرية الإسرائيلية هي مؤشر آخر على أن نقص التقدم نحو التطبيع وغياب فرصة التبادل الثقافي أدامت نظرة الشعب المصري السلبية تجاه إسرائيل. وبما أن المصريين يعتقدون أن إسرائيل تبحث عن مصادر مائية أخرى بالرغم من تمتّعها بالأمن المائي، فهذا يعكس جهلًا بالأولويات الإسرائيلية في مصر.
وينبع هذا الجهل عن غياب التواصل بين الطرفين، بما في ذلك واقع أن الحكومة المصرية تحظر الزيارات إلى إسرائيل وأن مصادر المعلومات المتوفرة للمصريين عن جيرانهم اليهود تخضع لتصفية كبيرة من خلال المصادر العربية المتحيزة التي تغطّي الشؤون الإسرائيلية من منظار الصراع الفلسطيني أو الشؤون العسكرية والاستخباراتية. وإذا بقيت هذه المصادر تصبغ انطباعات المصريين وتصوراتهم، ستثبت نظريات المؤامرة المشابهة بأنها أهداف سهلة تُستخدم لتوجيه الاستياء الشعبي نحو قضايا خلافية كالمياه.