- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مصر وحفتر والمصالح الأمريكية السلبية في الصراع الليبي
على الرغم من أن الجنرال خليفة حفتر قد وعد بشن معركة قصيرة من أجل تحرير طرابلس، إلا أن قواته التابعة للجيش الوطني الليبي ما زالت تشارك في حصار ضد المدينة دام لعدة أشهر وضد قوات حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الإسلاميين بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج. وفي خضم الحرب الأهلية الليبية، لعبت القاهرة دوراً رئيسياً داخل ليبيا من خلال دعمها المستمر لحكومة حفتر.
عادت القاهرة لتمارس دورا كبيرا داخل ليبيا، حيث القت بثقلها خلف المشير حفتر، وربما يكون الدور المصري في ليبيا ليس مثاليا تماما، حيث يهدف في نهاية المطاف إلى تمكين رجل ليبيا القوي حفتر ليسيطر على المشهد السياسي الليبي، وربما تأسيس نظام سلطوي جديد، بيد أن من بين كل الخيارات السيئة الأخرى يبدو هذا خيارا معقولا مقارنة بحالة التفسخ والتشرذم التي تعاني منها ليبيا، وغياب تام للدولة في غرب البلاد، مما جعلها مرتعا وملاذا أمنا للإرهابيين والجماعات المتطرفة ليس من داخل ليبيا فحسب بل من خارجها أيضا، مما جعلها من أكبر التهديدات الإقليمية في شمال أفريقيا. وبالتالي، قد يكون من مصلحة الدول الأخرى وخاصة الولايات المتحدة السماح لمصر بمواصلة جهودها لدعم حفتر، وهو ما قد يمنع في النهاية شمال إفريقيا من أن تصبح المعقل الرئيسي التالي للجماعات المتطرفة.
إن تورط مصر في السياسة الليبية له تاريخ طويل ومشحون، ففي يوليو ١٩٧٧، وخلال تهيئة الأجواء لمبادرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، بزيارة إسرائيل، والدخول في مفاوضات سلام مباشرة بين القاهرة وتل أبيب، زادت حدة التوتر بين القاهرة وطرابلس، بسبب الحملات العدائية التي شنها الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، مما دفع السادات وقتها لشن حملة عسكرية خاطفة ضد ليبيا. واستمرت تلك الحملة قرابة الأربعة أيام، حيث تمكنت القوات المصرية من احتلال شرق ليبيا، والتهديد بإسقاط حُكم القذافي، بيد أن الوساطة الدولية والعربية تمكنت في نهاية المطاف من الضغط على مصر لسحب قواتها من شرق ليبيا.
العملية العسكرية المصرية في ليبيا في عام ١٩٧٧ لم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة التي تنخرط فيها القاهرة بنشاط عسكري مباشر داخل الأراضي الليبية، فخلال ما يقرب من الـ ٣٥ عاما التي احتلت فيها إيطاليا ليبيا، خلال النصف الأول من القرن العشرين، كانت مصر هي المصدر الرئيسي لسلاح المقاومة الليبية، كما شن الطيران المصري عدة غارات على عدة مواقع تابعة للجماعات المتطرفة داخل ليبيا خلال فبراير ٢٠١٥، ردا على ذبح ٢١ قبطيا مصريا على يد تنظيم "داعش" الإرهابي.
وفي أعقاب الإطاحة بالقذافي، شكلت ليبيا قنبلة أمنية لكل جيرانها، حيث تفسخت الدولة الليبية وأصبحت ليبيا تمثل تهديدا أمنيا حادا لجيرانها بما فيهم مصر. كما اتخذت بعض الجماعات الإرهابية الصحاري الليبية الوعرة كقاعدة لشن هجمات ضد الدول المجاورة مثل مصر وتونس، كما أدى طول الشواطئ الليبية على البحر المتوسط والممتدة لـ 1850 كم إلى اندفاع موجات غير مسبوقة من الهجرة الغير شرعية لـ أوروبا، وفي 12 سبتمبر 2012، استيقظ العالم على الأخبار المأساوية المتعلقة باغتيال السفير الأمريكي لدى ليبيا كريستوفر ستيفنز في القنصلية الأمريكية في بنغازي.
وعلى الرغم من الموقف اللاحق للولايات المتحدة المتمثل في سياسة الحياد السلبي، إلا أن الدبلوماسية الأمريكية قد شهدت نشاطًا ملحوظا خلال الأشهر الأخيرة الماضية. ومع ذلك، يبدو أن سياسية الولايات المتحدة هذه تقبل بشكل ضمني بدور أكبر لمصر في ليبيا، ففي أوائل شهر أغسطس، ناقش وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ونظيره المصري سامح شكري الوضع في ليبيا، واتفقوا على ضرورة إيجاد حل سياسي للصراع الدائر هناك. كما عكس هذا الاجتماع رغبة الولايات المتحدة في التنسيق مع مصر فيما يتعلق بسياستها نحو ليبيا.
وتعكس تلك الاستراتيجية الجديدة بشكل جزئي، التحول الذى طرأ على الجهود الدولية الأخرى التي تهدف إلى إنهاء الصراع ، حيث كانت الآمال معقودة على العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في أبريل الماضي ، وكان من المفترض أن يتم عقد مؤتمر حوار وطني في مدينة غدامس التاريخية، لبحث إجراء انتخابات جديدة في البلاد، واستفتاء على الدستور، كجزء من خطة الحل السياسي لمبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة، لكن العملية التي اطلقها الجيش الوطني لتحرير طرابلس، من قبضة الميلشيات المسلحة نسفت فرص الحل السياسي، وذلك بعد ما تأكد بأن حكومة السراج لن تنوي طرح موضوع نزع سلاح المليشيات التي تعتمد عليها ضمن خطط الحل السياسي.
ومع ذلك، فإن عملية دعم حفتر هي عملية معقدة للغاية، نظرا لتعارضها مع الجهود الدولية التي جعلت من خصمه زعيم سياسي شرعي لليبيا. وفي حين أن الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر يحظى بدعم كامل من البرلمان الليبي المنتخب شعبيا في طبرق، تستمد حكومة السراج شرعيتها من العملية السياسية المجمدة في ليبيا منذ عام ٢٠١٤.
ومع ذلك، فإن الواقع على الأرض لا يتحمل انتظار عملية سياسية بطيئة لتشكيل حكومة جديدة، حيث تشكل الحدود الغربية - التي تمتد لمسافة 1200 كم تقريبا - بين مصر وجارتها ليبيا، مصدر قلق وتهديد دائم لمصر. وفى هذا الصدد، شهدت صحراء الواحات، والفرافرة المتاخمة للحدود الليبية في مصر العديد من العمليات الإرهابية المأسوية، حيث لم تستهدف الخلايا الإرهابية قوات الأمن والجيش فقط بل استهدفت أيضا مواطنين أقباط في تلك المنطقة النائية. كما ارتكبت العناصر الإرهابية، عمليات لا تعد ولا تحصى عبر الحدود وتمكنت بعد ذلك من الفرار إلى الصحراء الليبية. وتعد حالة الإرهابي والضابط السابق في الجيش المصري هشام عشماوي ، والذى شارك في عدة عمليات إرهابية استهدفت قوات الجيش والبوليس داخل مصر ، وتم القبض عليه في ليبيا منذ عدة شهور ، مثالا بارزا على ذلك.
وفى هذا الصدد، ترى السلطات المصرية أيضًا أن تلك المنطقة تساهم بشكل مباشر في دعم الإرهاب المحلي، حيث تزعم السلطات المصرية أن ليبيا هي المصدر الرئيسي للأسلحة للجماعات الإرهابية في شمال سيناء، وقد أحال المدعي العام المصري مؤخرًا أحد عشر متهما، بينهم أربعة ليبيين ، إلى المحاكمة بزعم تعاونهم مع تنظيم "داعش" في ليبيا.
البعد الأمني لم يكن المحرك الوحيد للقاهرة، في الأزمة الليبية، فالقاهرة أعربت علانية عن دعمها للجيوش الوطنية في مواجهة الاضطرابات التي صاحبت المنطقة في أعقاب موجات الربيع العربي، لاسيما مع تصاعد قوة الإسلاميين في المنطقة. وتكمن خطورة المشروع الإسلامي في المنطقة في انه مشروع عابر للحدود ببساطة، حيث من شأن أي نجاح للإسلاميين في أي دول في الشرق الأوسط أن يعزز مواقعهم في الدول المجاورة. ومن ثم، فان سيطرة الإسلاميين على الحكم في ليبيا أمر محفوف بالمخاطر بالنسبة لأغلب دول الشرق الأوسط، لكنه يمثل خطرا وجوديا بالنسبة لمصر.
ربما تكون قد اختارت واشنطن أن تناي بنفسها عن التورط في الصراع في ليبيا بأي شكل من الأشكال، كجزء من خطط الرئيس ترامب، وذلك بتقليص التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط، وترك المشاكل للدول الإقليمية والدولية، لاسيما أن المشاهد المفجعة لاغتيال السفير الأمريكي لدى ليبيا كريستوفر ستيفنز في القنصلية الأمريكية في بنغازي، مازالت ماثلة في الأذهان. ومع ذلك، أظهرت مكالمة الرئيس ترامب، للجنرال حفتر، دعما رئاسيا أمريكيا، حتى لو كان ظاهريا، خلال العملية العسكرية لقوات الجيش الليبي لتحرير طرابلس من قبضة الميلشيات. لكن أيضا من الجيد للولايات المتحدة العودة خطوة للخلف وعدم دعم أي طرف بشكل قوي في الأزمة الليبية الغارقة في التعقيد، لان التدخل الأمريكي إذا لم يكن حاسما فانه سيزيد الأمور تعقيدا.
وفي ذات السياق، ربما تؤمن سياسة الحياد النشط لواشنطن في ليبيا، دورا هناك، من خلال الدعم الأمريكي للدول الإقليمية مثل مصر في مسعاها نحو دولة موحدة بحكومة مركزية واحدة، وجيش واحد على حدودها الغربية. وبالنظر إلى العديد من الدول التي تدعم حفتر حاليا، فإن انتظار المشهد السياسي ليتضح في ليبيا سيوفر للولايات المتحدة مجالًا إضافيًا للمناورة، إذا كانت الولايات المتحدة حقا ترغب في تعديل سياستها في ليبيا. ومن ثم، ستضمن سياسة الحياد النشط عدم تعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر في ليبيا، كما أنها ستوفر على واشنطن عدم تحمل أي تكلفة سياسية عن دعم حفتر.