- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
متلازمة الاحتجاج المسلح في العراق: من صراع الأفكار إلى العنف
لكي تستعيد الدولة العراقية استقرارها وسلطتها، ينبغي على حكومة السوداني أن تعمل على فك الارتباط القائم منذ سنوات بين الاحتجاجات والعنف المتبادل.
تصاعدت شعبية الاحتجاجات العنيفة بين صفوف المجتمع العراقي بشكل كبير، وتكررت مشاهد العنف ونزيف الدماء بحيث صارت تمثل أحد أهم مظاهر الاحتجاجات الشعبية في العراق، التي غالبا لا تمر دون سقوط ضحايا بين طرفي النزاع. فمن اوجد متلازمة الاحتجاج المسلح، وما الذي جرد الاحتجاجات السياسية في العراق من سلمتها؟ وما هي تداعيات ثقافة الاحتجاجات المسلحة في العراق على مستقبل النظام السياسي؟ ومن ثم، يعد فهم الإجابة على هذه الأسئلة أمرًا أساسيًا خاصة بعد تولى الحكومة الجديدة في العراق ولايتها، وفي ظل الظروف المعيشية المتدهورة التي يمر بها المواطن العراقي والتي تشير إلى احتمال بروز حركة جديدة.
خلال مئة عام من عمر الدولة العراقية شكل الاحتجاج المسلح من خلال الثورات والانقلابات والانتفاضات المسلحة العلامة المميزة للمشهد السياسي والاجتماعي العراقي. ومنذ 2003 لغاية اليوم شهد العراق ثلاث مراحل من الاحتجاجات التي بدأت سلمية وانتهت بكوارث عنيفة، وتشمل مرحلة المقاومة، والربيع العراقي، واحتجاجات تشرين 2019.
فمنذ بداية سقوط نظام صدام حسين عام 2003 لغاية منتصف 2008، أصبحت الاحتجاجات المسلحة جانبًا مهمًا من جوانب المقاومة العراقية. وللأسف، أتت تلك الظاهرة بنتائج مدمرة ذهبت بالعراق إلى النزاع الطائفي وفسحت المجال امام الجماعات المسلحة التي استفادت من التنظيم القوي والعنف المطلق. انتهت هذه الدوامة بمخرجات سياسية ثقيلة أبرزها تراجع قوة الدولة وانقسام المجتمع طائفيا وفكريا واندلاع النزاع الأهلي بين السنة والشيعة وانتشار العمليات الإرهابية، وتبرير وجود المليشيات المسلحة كأمر واقع، لغاية تمكن الدولة من القضاء على تنظيم القاعدة وعلى الجماعات المسلحة الأخرى وتحجيم المليشيات عام 2008.
مع صعود موجات الربيع العربي التي انطلقت من تونس ومصر نهاية 2010 ومطلع 2011 بدأت دورة ثانية من الاحتجاجات الشعبية العراقية في شباط فبراير 2011 وهذه الاحتجاجات بدأت سلمية تحمل شعارات مدنية. شهدت تلك الاحتجاجات أعمال عنف متبادل بين المحتجين والقوات الأمنية، ثم تحولت إلى ما سمي بـ "ثورة العشائر" التي تحولت إلى لاحقا إلى حواضن لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" الذي قدم عناصره أنفسهم في البداية بشكل يتوافق مع المزاج الشعبي في مناطق الاحتجاج
وكانت المخرجات السياسية والأمنية مختلفة تماما عن مقدماتها، فقد انتهت دورة الاحتجاج المسلح بتصدر الفصائل المسلحة الشيعية للمشهد، وتأسيس الحشد الشعبي كرد فعل طبيعي نتيجة ظهور تنظيم "داعش" وتمدد الإرهاب. وفي المقابل، انتشر الصراع المسلح في كل مكان حيث أنتج كل جانب من جوانب الصراع مجموعات منشقة عنيفة بشكل متزايد.
ومن الجدير بالذكر أن الدورة الثالثة من الاحتجاجات العنيفة في العراق جاءت في الاساس نتيجة الشعور المعادي لإيران. وعلى الرغم من أن المرحلتين الأوليين من العنف قد ركزتا على مقاومة الوجود الأمريكي في العراق، ثم النظام العراقي نفسه، إلا أنهما افسحا المجال لبروز الدورة الثالثة للمقاومة المسلحة في العراق التي انطلقت في 1 تشرين الاول أكتوبر 2019.
في تشرين الأول أكتوبر 2019 كان الامر مختلف بشكل جذري عن دورات الاحتجاج السابقة، فجغرافية الاحتجاجات صار مركزها بغداد وعمقها محافظات الوسط والجنوب، ومطالبها وطنية غير مختصة بطائفة او فئة، وخطابها جذاب عبر عن مطالب شعبية يرددها أغلب العراقيين.
ومع ذلك، رافق هذه الاحتجاجات المزيد من العنف سواء بتعرض المتظاهرين إلى إطلاق نار او اغتيالات وتصفيات او تعرض القوات الأمنية إلى قنابل المولوتوف والحجارة والعيارات النارية أحيانا، إضافة إلى تعرض المرافق العامة والخاصة إلى الحرق والاختراق من قبل المتظاهرين او من قبل ما يسمونهم بالمندسين، فقد بلغت حفلات العنف ذروتها عندما تم صلب صبي في ساحة الوثبة امام آلاف المتظاهرين الامر الذي لوح بانحراف الاحتجاج نحو أبشع صور العنف. مرة أخرى، وعلى الرغم من أن الاحتجاجات بدأت كمقاومة سلمية، وتحديداً ضد الوجود الإيراني في العراق، إلا أن هذا الوئام المؤقت سرعان ما انهار في مواجهة القمع الوحشي.
تميزت الدورة الثالثة من الاحتجاجات العنيفة بأنها اضفت الطابع المؤسسي على تلك الاحتجاجات، وبشكل أكثر تحديدًا، تمكنت بعض القوى السياسية من الدخول كشريك في الحراك التشريني وهي شراكة اعتبرها البعض ضرورية للحفاظ على زخم الحراك. ومن أبرز الأمثلة على ذلك نزول جماهير التيار الصدري إلى ساحات التظاهر، وكذلك ظهرت مجموعات صدرية منظمة أُطلق عليها "أصحاب القبعات الزرقاء"، مبررين وجودهم لأجل تامين سلامة المعتصمين في ساحات الاحتجاج، لكن رغم ذلك لم يتمكنوا من كسب ثقة وانسجام المحتجين الاخرين، فحصلت حالات تصادم دموية بينهم. ومع ذلك، اعتمد التيار الصدري على حراك تشرين كوسيلة لكسب الدعم الشعبي خارج قاعدته الحالية.
في واقع الامر، استغل التيار الصدري "ثورة تشرين" وما رافقها من قمع وتخبط من قبل القوات الأمنية عام 2019 كمبرر لتشكيل بؤرة احتجاج مسلح جديدة. هذا الاحتجاج المسلح تجسد في أكثر من صورة أبرزها ما شهدته المنطقة الدولية الخضراء من اقتحام مبنى البرلمان وتعطيل أعماله في يوليو /تموز 2022 ثم محاولة دامية لاقتحام المنطقة الخضراء بقوة السلاح والاشتباك باستخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة في ليلة ارعبت سكان بغداد وخلفت أكثر من 34 قتيل وعشرات الجرحى من بين المهاجمين على الخضراء والمدافعين عنها.
وفي واقع الامر، رسخت الدورة الثالثة من الاحتجاج المسلح ضعف الدولة وعجزها بشكل كبير، ولوحت بتغيير جغرافية الحرب الاهلية من طائفية كما في دورة الاحتجاج المسلح الأولى قبل 2008 والثانية قبل 2017 إلى قتال أبناء الطائفة الشيعية الواحدة.
كما افرز الاحتجاج المسلح في عام 2022 تقليد سياسي جديد وخطير للغاية يقضى بضرورة امتلاك الأحزاب السياسية لأذرع مسلحة يمكن استخدامها كعامل قوة في كسب أصوات الناخبين وفي التفاوض السياسي، وفرض الارادات وانتزاع التأييد وتعطيل او حرف مسار المؤسسات السياسية. أغلب القوى السياسية العراقية الفاعلة اليوم تمتلك أذرع مسلحة، بعضها قائم منذ فترة طويلة مثل الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني اللذان يمتلكان قوات البيشمركة، والتيار الصدري الذي يمتلك عدة اجنحة مسلحة، والإطار التنسيقي الذي يضم كتائب “حزب الله” العراقية، وهي أقوى ميليشيا مسلحة تدعمها إيران. كما أن هناك” ميليشيات عسكرية لا تملك أجنحة سياسية مثل كتائب “سيد الشهداء” وكتائب “الإمام علي” وكتائب النجباء.
وفي الختام، ينبغي أن تكون ظاهرة الاحتجاج العنيف أحد الاولويات المهمة على أجندة رئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني الذي من المتوقع ان لا يدخل في أي مواجهة مباشرة مع أي فصيل مسلح، لكنه سيسعى إلى استعادة مكانة الدولة وهيبتها. وفي هذا السياق أعلن السوداني في وقت سابق خلال فترة ترشحه ان الحكومة ستعمل على ضبط السلاح المنتشر، وفرض سيادة الدولة ، وتقييد اعداد المليشيات والمجاميع المسلحة، وفرض قوة القانون على أي فصيل مسلح أو جهة تحمل السلاح وتمارس أدوارها بعيداً عن الدولة وسياق المؤسسات الأمنية. ومن ثم، فمن المتوقع ان يعمل السوداني على التوصل لحلول مع الأحزاب والقوى التي تمتلك اجنحة مسلحة حتى يعيد للدولة اعتبارها، وذلك رغم ادراكه صعوبة ان تتنازل هذه الأحزاب عن سلاحها دون ضمانات ملموسة.
ومع ذلك، تُؤكد هذه المراحل الثلاثة من الاحتجاجات العنيفة في تاريخ العراق الحديث - خاصة احتجاجات تشرين 2019 التي كانت مؤثرة بشكل خاص - أن الاحتجاجات المشروعة يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة بسرعة فائقة عندما تشارك الجماعات المسلحة فيها. ومن المتوقع ان يستغرق السوداني والحكومة العراقية وقتا طويلا لتصحيح الأمور. ومع استمرار الدورة الثالثة من تلك الاحتجاجات العنيفة التي مازالت نشطه، صار انتشار السلاح المنفلت والفصائل المسلحة يمثلان خطرا على العملية الديمقراطية بشكل متزايد. وفي مواجهة هذا الواقع، ينبغي على القوى السياسية المؤمنة بنظام ديموقراطي عراقي إيجاد سبل عملية لإخراج السلاح من المعادلة السياسية والتوقف عن ربط العنف بالاحتجاج والا فالكارثة بانتظارنا مادام حوارنا ينساق إلى ثلاثية الدخان والنار والدماء.