- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مواجهة التحديات البيئية في العراق: النمو السكّاني
سيتطلب حل الأزمة السكانية في العراق اتخاذ إجراءات فورية وشاملة على مستويي الدولة والفرد. وفى غياب تلك الحلول، سنخاطر بإلحاق ضرر كبير بأجيال المستقبل.
تُعدّ مدينة الصدر المنطقة الأكثر اكتظاظًا بالسكّان في العاصمة بغداد إذ يبلغ عدد قاطنيها حوالى ثلاثة ملايين نسمة في بقعة تقلّ مساحتها عن 30 كيلومترًا مربعًا. وتدفع غالبًا محدودية الدخل ونقص المساكن عائلات عدّة إلى مشاركة منزل واحد، كما تسبب الاكتظاظ بضغط هائل على البنية التحتية, ما أدى بالتالي إلى شحّ مزمن في المياه وتدهور شبكات الصرف الصحي. وتنعدم أيضًا الفرص الاقتصادية وتنتشر البطالة والفقر في أرجاء المنطقة. ولكن على الرغم مما يتسبب به الاكتظاظ السكاني من ضغوط واضحة، ما زال عدد سكان مدينة الصدر يزداد بوتيرة مقلقة، وتسجل المنطقة بعض أعلى معدلات الزواج المبكر وتعدد الزوجات والولادات خارج إطار الزواج. وتقّدر دراسة أجرتها "جمعية نساء بغداد" ومنظمة "ميرسي كور" أن 10 في المئة من سكان مدينة الصدر تزوجوا قبل بلوغ السن القانوني المحدد بـ18 عامًا، كما تشير إلى أن نسبة تعدد الزوجات تبلغ 20 في المئة.
وتجدر الإشارة إلى أن حالة مدينة الصدر من ناحية الكثافة السكانية ليست استثنائية، إذ يمكن إيجادها أيضًا في مناطق سكنية عشوائية في البصرة وجنوب العراق ومدن أخرى.
قد يعتبر الكثيرون الزواج والإنجاب على أنهما من المسائل الشخصية جدًا، إلا أن هاتين الظاهرتين الاجتماعيتين تتركان آثارًا بليغة على تنمية مجمل العراق ومستقبله. ففي بلد يواجه بالفعل صعوبة في توفير السكن والغذاء والتعليم لمواطنيه، لن يؤدي ارتفاع معدل الولادات إلا إلى تفاقم المشاكل التي تواجهها الحكومة. وفي هذا الإطار، يشير محللون إلى أن عدد سكان العراق سيرتفع بمقدار مليون نسمة سنويًا. وفي الواقع، سجلت وزارة التخطيط العراقية 1258028 مولودًا حيًا في العام 2020، ومن المتوقع أن يصل عدد السكان إلى 80 مليون نسمة بحلول العام 2050، الأمر الذي يضع العراق على حافة هاوية اجتماعية-بيئية.
تؤكد أيضًا مصادر أخرى توقعات الحكومة المقلقة، ومنها شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة التي تشير إلى أن نسبة النمو السكاني في العراق في العام 2023 تبلغ 2.27 في المئة، وأن عدد سكان العراق الحالي (45.4 مليون نسمة) سيصبح أكثر من الضعف بحلول نهاية العام 2085.
ويبعث هذا النمو السكاني على القلق بشكل خاص في ضوء ما يعانيه العراق من نقص يزداد حدة في المياه. فالأرض التي كانت تُعرف في ما مضى بالهلال الخصيب تصبح بسرعة أكثر جفافًا وسخونة وأقل إنتاجية على الصعيد الزراعي. وفي هذا الإطار، أفاد ممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق بأن البلاد تفقد سنويًا أكثر من 100 كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية، وهذه مساحة أكبر من بغداد، بسبب تغير المناخ والتصحّر وارتفاع درجات حرارة الأراضي الزراعية. ويشكل هذا الواقع البيئي السيئ، إلى جانب ارتفاع معدل الخصوبة وتزايد شح المياه، تحديًا إضافيًا أمام ري الأراضي الصالحة للزراعة.
لا يؤدي تضخم عدد السكان إلا إلى تفاقم هذه التحديات البيئية التي يواجها العراق. فمن جهة يتسبب تغير المناخ بتحوّل المناطق الزراعية إلى أراض قاحلة أكثر فأكثر، ومن جهة أخرى يبتلع التوسع العمراني المزيد والمزيد من الأراضي لإيواء الأعداد المتزايدة من السكان. وتجدر الإشارة إلى أنه في الموصل وحدها، وصل النقص في المساكن إلى 200 ألف وحدة سكنية في العام 2022 بعد أن كان 20 ألف وحدة في العام 2012. ووفقًا لمديرية التخطيط العمراني في الموصل، تتطلب هذه السرعة الهائلة للنمو السكاني توسيع المدينة بمقدار سبعة كيلومترات على حساب الأراضي الزراعية في سهل نينوى المحيط بالموصل والذي كان يعتبر في ما مضى منطقة إنتاج الحبوب للسكان.
خطر أزمة غذائية
على الرغم من أن الاكتظاظ السكاني يشكّل ظاهرة خطيرة جدًا بالنسبة إلى العراق، إنه ظاهرة عالمية. لقد أثّرت الأزمة المالية في العام 2008 في سلسلة الإمدادات الغذائية العالمية وأدت إلى تزايد التدهور البيئي من خلال الممارسات الزراعية غير المستدامة مثل الاستغلال المفرط للأراضي والمدخلات الكيماوية الزراعية لتلبية حاجة العالم من الغذاء. إلا أن خطر حدوث مجاعة واسعة النطاق وانعدام الأمن الغذائي لم يسهم في خفض معدل الولادة العالمي غير المستدام. هذا ويزداد عدد سكان العالم منذ ذلك الحين بمعدل 80 مليون نسمة سنويًا، وحصة العراق وحده من هذه الولادات الجديدة مليون نسمة، على الرغم من التراجع غير المسبوق في موارده الطبيعية بسبب أزمة المناخ.
وفي حين أنّ آثار الاكتظاظ السكاني تختلف باختلاف المناطق والبلدان، تتأثر البلدان التي تعتمد على الواردات الغذائية، وتحديدًا الحبوب واللحوم على نحو غير متناسب.
يشكل العراق أحد هذه البلدان. لقد تجاوز عدد سكانه 45 مليون نسمة ويعدّ الأسرع في المنطقة لناحية النمو السكاني، هو إذًا أحد البلدان الأكثر عرضة لآثار تغير المناخ باعتبار أن أراضيه القاحلة وشبه القاحلة غير قادرة على توفير احتياجات السكان.
وعلى الرغم مما يطرحه الاكتظاظ السكاني من مخاطر واضحة وقائمة، لا يبدو أن الحكومة العراقية تنوي اعتماد السياسات الراديكالية اللازمة لضمان الازدهار والنمو المستدام حتى وإن كان الاستقرار الداخلي على المحكّ. وفي بلد يعاني من المشاكل الاقتصادية، تُعد الدولة أكبر مصدر لفرص العمل. وقد يؤدي تدفق آلاف العراقيين سنويًا إلى سوق العمل إلى تأجيج الصراعات الداخلية وزيادة خطر الإرهاب إذا عجزت الحكومة عن توفير الفرص الاقتصادية.
باختصار، في ظل تغير المناخ وشح الموارد، يتطلب مسار الإنجاب في العراق تغييرًا جذريًا لا يقتصر على إدارة الموارد والتكيف مع تغير المناخ فحسب، بل يطال أيضًا كل نشاط بشري، بما في ذلك السلوكيات الإنجابية.
وفي العالم الطبيعي، يتكيف عدد من الأجناس، مثل حيوان الوشق، مع البيئة الملائمة المتوفرة ويتجنب التكاثر في البيئات التي لا تتلاءم مع المجموعة المحلية من ناحية وفرة الغذاء. ويجب على العراقيين أيضًا أن يتنبهوا لحدود البيئات المحيطة بهم، وإلا فإنهم يعرضون البلاد لأزمة غذائية كبيرة وإزهاق الأرواح.
سيتطلب حل الأزمة السكانية في العراق اتخاذ إجراءات فورية وشاملة على مستويي الدولة والفرد. وتجدر الإشارة إلى أن النمو السكاني الكبير يتزامن مع غياب ملحوظ للتربية الجنسية وتنظيم الأسرة ليس في مدينة الصدر فحسب، بل في جميع أنحاء البلاد، مع أن هذه المعلومات تعتبر ضرورية جدًا لمساعدة العائلات على التخطيط للمستقبل بالشكل المناسب. أما في ما يتعلق بالدولة، فيتعين عليها الالتزام ببناء البنية التحتية والاستثمار في المؤسسات التعليمية ووضع حد للزواج المبكر وتعدد الزوجات باعتماد سياسات مترابطة في مجال القوانين المدنية وحقوق المرأة والسياق الاجتماعي الاقتصادي للبلاد. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لمشاركة المرأة في الإدارة المسؤولة بيئيًا للموارد أن تساعد في المسار نحو الإنجاب الصحي.
وبالتوازي، يجب تنظيم الجهود الدولية، التي تركز في الأساس على القيام بتحسينات بيئية محددة، بما يتماشى على أفضل وجه مع هذه الأهداف المتوخاة.
باختصار، يمكن لتغيير السياسات أن يحول دون وقوع كارثة محتملة، وذلك من خلال التقدم في مجال الصحة الإنجابية، وإنهاء الزواج المبكر وتعدد الزوجات، ورفع مستوى التعليم، ناهيك عن ضمان حرية المرأة في اتخاذ قراراتها الخاصة في ما يتعلق بالإنجاب، وإلا فنحن نخاطر بإلحاق ضرر كبير بأجيال المستقبل.