- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
موقف بوتين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والانتخابات التركية
يُشير التحول في سياسة بوتين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى أن هناك جهودا تبذل لتمهيد الطريق أمام صفقة أردوغان الانتخابية.
يشكل مبدأ حماية المكتسب والذي يتركز على عقيدة عدم السماح بخسارة أي مُكتسب في الساحة الدولية أحد اهم ركائز السياسة الخارجية الروسية في عهد بوتين. هذه الذهنية التي تتمسك بالمكتسبات والتحالفات، تَدفع روسيا إلى مراقبة الانتخابات القادمة في تركيا بالكثير من الجدية والانخراط، حيث تحاول التماهي مع التطورات الكثيرة في دول الشرق الأوسط لتجد لنفسها دور فعّال فيها على حساب الآخرين المناوئين لها. مؤخرا، تُظهر السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قلق خاص من جانب روسيا في ما يتعلق بنجاح أردوغان في العملية الانتخابية المقبلة. وفي السياق نفسه، هناك العديد من الصفات المشتركة بين بوتين وأردوغان والتي تتعلق بطبيعة الحكم والممارسة، وذلك على الرغم من كون الأخير خصمًا تكتيكيًا متكررا لروسيا. ومن الجدير بالذكر أن القرارات السياسية الأخيرة مهدت الطريق أمام أردوغان للبقاء في السلطة مرة أخرى.
هذا السياقات المُتقاربة تدفع الروس لتمرير الدعم المطلوب والمناسب للحالة الانتخابية في تركيا لأردوغان، وبالسلاسة المطلوبة، ففريق الحكم في موسكو على ما يبدو مُتلهف بدرجة كبيرة لبقاء نجم أردوغان في أنقرة، ولو كان البقاء لا يعني انحناء القائد التركي المتذبذب والبراغماتي والسلطوي، في العباءة الروسية بصورة تامة. لكن، بقائه في الرؤية الروسية، هي وسيلة ضمان أساسية لتوازن المصالح الروسية لمدة خمس سنوات قادمة مع طرف إقليمي له صلات مع الناتو، وجغرافية متجاورة، ونقاط عسكرية متقاربة في قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا.
إضافة إلى ذلك، تجلت الجهود المبذولة من قبل روسيا لدعم أردوغان في التغطية الإعلامية للزلزال المدمر الأخير الذي ضرب تركيا، فحتى الآن، عمدت وسائل الإعلام الروسية على التركيز على جهود المساعدات الروسية حيث أنها لم تتضمن أي تغطية سلبية لطريقة تعاطى حكومة حزب العدالة والتنمية مع الزلزال، وذلك رغم حالة الغضب المتزايدة في تركيا بسبب غياب المساءلة في عملية تطبيق قوانين البناء والفشل في تنسيق جهود الإغاثة بعد وقوع الزلزال. وقد جاء في بيان صادر عن الكرملين بتاريخ 06 شباط 2023 ان السيد بوتين "عبر عن تعازيه الحارة" إلى الرئيس التركي مباشرة. وذكرت الأنباء أن وزير الطوارئ الروسي ألكسندر كورينكوف قد قال: "إن وزارة الطوارئ الروسية مستعدة دائما لمد يد العون للدول الصديقة في المحن" ويقصد بالدول الصديقة تركيا.كما ركزت وكالة روسيا اليوم على إظهار إنجازات فرق الإنقاذ التركية وقد ورد خبر على موقعها بتاريخ 17 من شباط يذكر نجاح "فرق الإنقاذ التركية من إخراج طفل من تحت أنقاض منزله، بعد مضي 260 ساعة على وقوع الزلزال." وفي حين أصبح احتمال إجراء الانتخابات في تركيا الآن يثير التساؤلات، فإن الطريقة التي تعاملت بها روسيا مع زلزال تركيا تعكس تفضيلات بوتين، كما يظهر هذا التعاطي أيضًا في القرارات السياسة التي اتخذتها موسكو خلال الأشهر الماضية.
تشابه الرجل القوى
يبدو من العلاقات الوثيقة بين بوتين وأردوغان، رغم التصادم في أكثر من نقطة وصلت لإسقاط تركيا لطائرة عسكرية روسية في سوريا بعملية استهداف مباشرة وقتل الروس لجنود أتراك في سوريا، وصدامات دموية بين حلفاء الطرفين في ليبيا وأوكرانيا والقوقاز، فأردوغان شخصية معروفة بالنسبة لموسكو، مما يجعل إعادة انتخابه احتمالًا جذابًا. على سبيل المثال، يعيش كلا من بوتين وأردوغان على استخدام التاريخ والذاكرة الإمبراطورية كمسوق لسياساتهم. الرجلان اللذان يتشابهان في الصعود من خلال الانخراط في قيادة الأحزاب المحلية في زمن الانهيار الاقتصادي للبلدين، ومن ثم تسيّد الحكم من خلال السيطرة على المركز الأعلى للنفوذ في البلدين.
إضافة إلى ذلك، كانت التكتيكات التي استخدمها كلا من بوتين وأردوغان للديمومة مُتقاربة لدرجة كبيرة، حيث استطاع بوتين تغيير الدستور لصالحه وفتح الطريق لنفسه للعودة إلى الحكم من خلال تطويل مدة القيادة في الرئاسة بعد استراحة في رئاسة الوزراء، وهو ما قام به أردوغان من خلال توسيع صلاحيات الرئاسة وفتح الباب لنفسه فيها، وتطويل مدة الحكم فيها، والقفز بعدها إليه بعد انتهاء فرصة البقاء في رئاسة الوزراء. الرجلين استخدما قادة طيعين من حزبيهما لتمرير هذه السياسة الأول مدفيديف والثاني بن علي يلدرم.
ملامح الدعم الإقليمي الروسي لأردوغان
ومن الجدير بالملاحظة، أنه في الوقت الذي يحاول فيه أردوغان تحقيق مكاسب في عدد من ملفات السياسة الخارجية بهدف تعزيز حملته وإعادة انتخابه، أثبتت روسيا أنها قادرة على السماح لأنقرة بالتدخل والمرور حتى عبر المناطق التي تشهد توترات كبيرة. وفي هذا السياق، عمل بوتين على تخفيف الضغط على الوجود التركي وحليفها في طرابلس بليبيا من خلال لجم عدائية حفتر ورجاله ضد ما تسمى "حكومة الوحدة الوطنية" بقيادة عبد الحميد الدبيبة. ومن ثم، ساهمت تلك الجهود في تخفيف حدة الصدام المباشر مع حلفاء روسيا في شرق ليبيا خلال الفترة التي سبقت الانتخابات، مما سمح لأردوغان بالإشارة إلى الملف الليبي باعتباره نقطة نفوذ مستمرة لأنقرة.
تمتد هذه السياسة أيضا إلى الملف السوري حيث تحاول روسيا الضغط على حكومة الأسد لتَقبل تمرير رغبة أردوغان في إظهار انفتاحه على حكومة الأسد "هذه الأيام"، وذلك رغم سنوات الكراهية بينهما. وبالطبع، ستتأثر تلك العملية بأحداث الزلزال الأخير الذي ضرب تركيا. من جهته، يرغب أردوغان في سحب ملف إعادة اللاجئين السوريين من تركيا إلى بلادهم من يد المعارضة التركية التي تتهمه بالتسبب بهذه اللازمة، وتأجيج الصراع السوري، وبالتالي تأزيم الاقتصاد التركي. وبالمثل، تهدف تلك الجهود إلى إرضاء القاعدة الشعبية التركية الكارهة للوجود السوري في تركيا، والراغبة في الانفتاح على الأسد لتسهيل عودة اللاجئين.
يبقى من الجدير التذكير بالترويج الإعلامي الروسي الواسع لصالح رغبتهم بتحويل تركيا إلى معبر أساسي لإمداد الغرب بالطاقة، وتحويلها إلى مركز رئيسي لتوزيع الغاز الروسي إلى الخارج. كما تعمل روسيا على مساعدة الاقتصاد التركي على الانتعاش من خلال تعزيز الِشراكات الاقتصادية والتسويق الداخلي لفوائد السياحة في تركيا، حيث تُظهر الأرقام زيادة كبيرة في عدد السياح الروس في 2022 عن العام السابق. كذلك قدمت روسيا الكثير من روايات النصر لصالح أردوغان منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا من خلال "صفقة الحبوب الشهيرة" ومن خلال إظهار الرجل على كونه صانع سلام يستطيع التوازن بين وجوده داخل الناتو وعلاقاته مع موسكو ولصالح الأمن الغذائي والأمني العالمي.
أن نمط التفكير السياسي في موسكو المقر بدعم أردوغان سيزيد من توجه الرئيس التركي إلى الانفتاح على المحور الروسي في تضاد مع سياسات الناتو التي لا تتناسب مع نمط حكمه. كذلك يظهر الخطر الأكبر من هذه الناحية على أن هذا التقارب والهدايا البوتينية سيدفع أردوغان للتضاد مع السياسات الغربية والأمريكية بالتحديد، ومع حلفائهم المحليين في الشرق الأوسط. وبالأخص في سوريا، وليبيا، وإيران، والعراق، والصومال. أن استغلال بوتين لهذا النمط من التفكير السلطوي والأوتوقراطي للزعيم التركي، يدفع الأخير أكثر للتفرد في قراراته، ولعدم الثبات في علاقات بلاده مع الغرب. من الواضح أن موسكو ستكون سعيدة بانخراط تركيا في التكتلات التي تتبلور في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لصالح التحالف الروسي الصيني. هذا بالإضافة إلى تعزيز ظهور بوتين كلاعب ماهر في منطقة الشرق الأوسط، حيث يحدد نظرائه، ويتدخل في عملية حصانتهم من الهزيمة، ويقدم لهم ما يحتاجونه عند الضرورة لاستمرارهم.
قد يكون هذا الوضع جاذباً للعديد من القادة الإقليميين وليس لأردوغان فقط، خاصة ما إذا تركوا دون رادع. ومن ثم، فمن المرجح أن تدفع مبادرات بوتين الكثير من الجهات الحاكمة المحلية في الشرق الأوسط للتوجه أكثر نحو موسكو للحصول على ذات الرعاية والحصانة، خاصة، بعد ترسيخ صورة الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط منذ كارثة أفغانستان، وعدم اهتمامها بالكثير من القضايا الإشكالية والرئيسية في الشرق الأوسط كعدم الانخراط في عملية إنهاء الصراعات في ليبيا واليمن وسوريا، وعجزها عن إيجاد مسارات لفتح قنوات حل للقضايا العالقة في الدول الفاشلة الأخرى كالعراق ولبنان. وعلى هذا النحو، ينبغي على الولايات المتحدة الامريكية فهم السياسة الروسية هذه والتصدي لها في مسارات مرتبطة بدعم باقي الشركاء والحلفاء، وتعزيز مواقعهم وضبط البوصلة التركية لتغير سلوكها وإعادة توجيها نحو التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.