مثل الصراع الحالي الدائر في القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا حالة استثنائية حيث تميل إسرائيل وإيران فعليًا - رغم زعمهما باعتماد الحياد - نحو الطرف نفسه: أذربيجان. فإسرائيل تشتري نفط البلاد وتبيعها أسلحة متطورة، تُستخدم الآن لإحداث آثار قاتلة؛ في المقابل تزعم إيران بأنها تدعم "سلامة أراضي" أذربيجان – في كلمات مشفرة للإشارة إلى مطالبتها بناغورنو كاراباخ وقطع أرض محاذية يملكها انفصاليون أرمن. فكيف تدير هذه الدولة الصغيرة (إنما الغنية للغاية بالنفط والغاز) التي يبلغ عدد سكانها 10 ملايين نسمة معظمهم من المسلمين الشيعة والواقعة تمامًا على الحدود الشمالية لإيران، هذا الإنجاز الجيوسياسي الكبير؟
قبل بضع سنوات، وبحثًا عن إجابة على هذا السؤال، توجهت إلى باكو لإلقاء محاضرة في مؤتمر تنظمه شركة بحوث حول "الدراسات الاستراتيجية" وفي أكاديمية دبلوماسية محلية، ولا أزال على اتصال مع بعض الزملاء الأذريين منذ ذلك الحين. وهم غالبًا أشخاص مبهرون للغاية، جادون ولكنهم في الوقت نفسه ودودون، قوميون متعصبون وإنما مؤمنين بالعولمة، كما أن العديد من بينهم يتحدث عدة لغات بلهجات غير مرتبطة ببعضها تمامًا: فهم يجيدون إلى جانب الأذرية لغتهم الأم، القريبة للغاية من التركية، اللغة الروسية والإنكليزية والفارسية وحتى العربية في بعض الأحيان. ولكن هذه الميزات الشخصية لا تساهم سوى في شرح قدرة بلادهم على مواجهة التنافسات الإقليمية الأكبر للدولة المجاورة لهم.
ومن الأشياء التي اكتشفتها خلال زيارتي الأولى تلك هي أن الديمقراطية ليست الحل لبحث أذربيجان عن الأمن أو الاستقرار أو الدعم من قوى خارجية متنافسة. فمنذ الاستقلال عن بقايا الاتحاد السوفييتي في العام 1991، خضعت البلاد لحكم عائلة واحدة فقط: أولًا حيدر علييف، رجل قوي احتفظ بمنصبه منذ الحقبة الشيوعية، والآن الهام علييف، نجله الذي يوازيه استبدادًا. وفي حال بروز أي أصوات انشقاقية، عادةً ما تكون البترودولار والشعور المعادي للأرمن كافيين لإسكاتها. ولخص أحد معارفي المحليين التهكم السائد بشأن الديمقراطية بالشكل التالي: "أجل، لدينا برلمان، لكن بعض أعضائه لا يتكبدون عناء الحضور إليه حتى. لا أفهم الأمر – على الأقل بيعوا أصواتكم!".
وبدلًا من ذلك، يكمن نجاح سياسة أذربيجان الخارجية لغاية الآن في توازن دقيق للغاية ومتعمد بين المصالح والتهديدات. فالحكومة والنخبة، اسميًا من المسلمين الشيعة ولكن العلمانية بشكل منتظم تقريبًا من حيث الممارسة، تزدري ثيوقراطية إيران القمعية. ولكنها تخشى في الوقت نفسه عملاء إيران ووكلاء "حزب الله" على أراضيها، الذين سعوا بشكل متكرر إلى ضرب أهداف إسرائيلية أو أمريكية هناك.
والأمر الأقل وضوحًا ولكن ليس أقل أهميةً، يهتم الأذريون بالملايين من أقربائهم من الإثنية نفسها الموجودين وراء الحدود – الأقلية الأكبر في إيران إلى حدّ كبير، نحو ثلاثة أضعاف عدد الأذريين في أذربيجان نفسها. لذا يحرصون جيدًا على الحفاظ على علاقات دبلوماسية وتجارية صحيحة مع إيران، من أجل حماية أنفسهم وأقربائهم البعيدين في تبريز أو طهران. كما يحرصون على ألا يهدد الإسرائيليون مباشرة إيران من الأراضي الأذرية بشكل كبير.
هذا وبرز مثال كلاسيكي آخر في هذا الإطار، لم يعترف به رسميًا قط أي طرف معني، قبل عقد تقريبًا من الزمن. ففي أوج توترات لم يصر إلى حلها حينها بشأن برنامج إيران النووي، بدأت شائعات خطيرة تسري مفادها أن إسرائيل كانت توشك على قصفها. حتى أنه نُشر تقرير في الصحف عن نقل بعض الطائرات العسكرية الإسرائيلية إلى قواعد قريبة في أذربيجان. غير أن التقرير بذاته وضع حدًا لهذا المخطط، إذا ما كان قائمًا فعلًا؛ وأفادت المعلومات المسربة أن باكو أو ربما واشنطن أو الاثنين معًا اعترضتا على خطوة مماثلة وقررتا كشفها وبالتالي منعها.
في الوقت نفسه، تعتمد أذربيجان جزئيًا على إسرائيل لمواجهة تهديدات أمنية داخلية محتملة أو غيرها من التهديدات المتأتية من إيران. ويكمن بعضها في مجال الاستخبارات، والتحذير المبكر، والأمن السيبراني، والمعدات المتطورة والتدريب، وما شابه. أما بعضها فهو سياسي أكثر بطبيعته: فالمسؤولون والخبراء الأذريون يعتقدون، وربما هم محقون بذلك، أن روابطهم الوطيدة مع إسرائيل تساعد على تمتين علاقاتهم الجيدة مع الولايات المتحدة – التي تشاركهم بالطبع اهتمامها الكبير الخاص باحتواء إيران وحماية أذربيجان منها. وتمثلت خطوة رمزية إلى حدّ كبير اتُخذت في الآونة الأخيرة في إطار هذا التحرك الدبلوماسي في مشاركة سفير أذربيجان في واشنطن العلنية للغاية، النادرة ضمن الوفود ذات الأغلبية المسلمة، في الحفل الذي أقامه البيت الأبيض لتوقيع اتفاقي السلام الجديدين بين إسرائيل والإمارات والبحرين.
وتؤدي هذه الصلة الأمريكية الوثيقة مباشرةً إلى الوضع المتضارب الجيوسياسي الأكبر الذي يتعين على باكو الحفاظ عليه: بين الولايات المتحدة وروسيا. ففي نظر الأذريين، يكتسي الحفاظ على علاقات جيدة مع الطرفين أهمية كبيرة ليس فقط من أجل الاحتماء من أي مخططات إيرانية محتملة ولكن أيضًا من طموحات روسيا الخاصة، سواء في أرمينيا المجاورة أو في المنطقة الساحلية المشتركة لبحر قزوين الغنية بموارد الطاقة أو داخل أذربيجان نفسها. وأخبرني المضيفون الأذريون أنه من دون الدعم العسكري الروسي الفعلي، لا يمكن للأرمن الذين يفوقهم الأذريون عددًا بشكل كبير الاحتفاظ بناغورنو كاراباخ. مع ذلك، ما من خيار أمام أذربيجان سوى التكيّف مع روسيا في كافة الأحوال، ولا سيما لتجنب نتائج أمنية أسوأ حتى.
لذا تستمر باكو، وبما يخدم مصلحتها الخاصة، في إقامة توازن بين هؤلاء اللاعبين الإقليميين والعالميين المتنافسين فيما بينهم: إسرائيل وإيران من جهة وأمريكا وروسيا من جهة أخرى. ويتمثل العنصر الأساسي في عدم المواءمة مطلقًا سواء بشكل كلي أو حصري مع أي منهم، كي لا يُستفز أي طرف منهم ويشنّ ضربة قاسية وكي يبقى للجميع مصلحة في التعاون الظاهري. وفي النزاع الحالي، تدخلت تركيا لصالح أذربيجان أيضًا، رغم أن دعمها لغاية الآن كان أقوالًا وليس أفعالًا.
غير أنه وللوقت الراهن، ليس من المؤكد أنه حتى هذا المزيج غير الاعتيادي فعلًا من الحلفاء سيمكّن أذربيجان من استعادة كامل أراضيها المتنازع عليها. وقد تبقى دائمًا معرضة لبعض المخاطر المحتملة من الدول المجاورة الأقوى منها بكثير، أو ربما فقط من اندلاع معارضة داخلية. إلا أن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن مهارة باكو في جمع حلفاء لا يجتمعون عادةً ستبقى تساعدها في الحفاظ على مصالحها الرئيسية الخاصة – ولكن من دون تغيير التوترات الجوهرية القائمة. فلا إسرائيل ولا إيران مستعدة لتحقيق مكسب حاسم من روابط أي منهما مع أذربيجان، وهو المسار الذي تريده باكو تمامًا.