- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
"ناتو الشرق الأوسط": من الخيال إلى الحقيقة
في ضوء التوترات الإقليمية المتزايدة، أصبحت فكرة تشكيل "ناتو" شرق أوسطي أكثر واقعية، مع امكانية حدوث تعاون عربي-إسرائيلي.
على الرغم من أن السياسات الأمريكية في عهد الرئيس جو بايدن أعطت الأولوية في الغالب لقضايا خارج الشرق الأوسط – وتحديدًا الأعمال الروسية في أوكرانيا والعلاقات مع الصين والمسائل الملحة الأخرى – أثبتت زيارة الرئيس الأولى إلى الشرق الأوسط في 13 تموز/يوليو 2022 ضرورة أن تبقى هذه المنطقة، التي تتغير بسرعة ولا تزال غير مستقرة، جانبًا مهمًا من الاستراتيجية الخارجية الأمريكية.
منذ البداية، أكّد بايدن أن الهدف الرئيسي من رحلته هو إقناع المملكة العربية السعودية والدول المجاورة بالحاجة إلى زيادة إمدادات النفط العالمية استجابةً لأزمة الطاقة الأخيرة التي أحدثتها الحرب في أوكرانيا. وعلى الرغم من الانتقادات التي واجهها، أصرّ على أن الرحلة ستحترم "القيم الأمريكية الجوهرية."
ولكن، ما لم يذكره بايدن في تبريره لهذه الرحلة هو الاجتماع السري الذي عُقد في شرم الشيخ خلال آذار/مارس بين مسؤولين عسكريين أمريكيين ونظرائهم الإسرائيليين والأردنيين والمصريين والخليجيين بهدف التنسيق ضد قدرات إيران الصاروخية المتنامية وبرنامجها للطائرات بدون طيار. في إطار متابعة هذا الاجتماع، هل يمكن أن تكون زيارة بايدن للشرق الأوسط قد تضمنت أجندة خفية تدور حول التحالف؟ وهل مثل هذا التحالف المناهض لإيران ممكنٌ حتى؟
مسيرة تطور "الناتو العربي"
من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة، تجدر الإشارة إلى أن اهتمام إدارة بايدن بالتحالف العسكري الإقليمي ليس الأول من نوعه. فمنذ أكثر من عامين، أعلن رئيس الولايات المتحدة آنذاك دونالد ترامب أنه سيتم إنشاء "تحالف استراتيجي للشرق الأوسط"، وسرعان ما أطلق عليه المراقبون اسم "الناتو العربي." وكان الهدف من التحالف حماية المنطقة من التهديد المزدوج للتوسع الإيراني الشيعي والجهادية السنية، بقيادة واشنطن. لكن في الحقيقة، لم يتقدم الاقتراح قيد أنملة، شأنه شأن الاقتراحات الأخرى قبله.
بالعودة بالزمن إلى "حلف بغداد" الذي تشكّل عام 1955 – وهي منظمة نشأت بقيادة الولايات المتحدة وفقدت بسرعة هيكليتها وجوهرها – نرى أن حالات التعاون التي قامت على أساس عسكري على مر التاريخ الحديث واجهت بالعادة صعوبة في التحول إلى تحالفات حقيقية في الشرق الأوسط. ففي عام 2011 على سبيل المثال، أعادت مرحلة ما بعد الربيع العربي إشعال فكرة إنشاء تحالف أقوى في المنطقة بتسهيل من الولايات المتحدة وحلفائها الموجودين في مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وعلى الرغم من اقتراح عدة أنظمة ملكية خليجية إنشاء منظمة تكون بمثابة "درع للخليج" لتنفيذ هذه الفكرة بالذات، اعترضت أنظمة أخرى على الاقتراح ولم يتكوّن بالنتيجة تحالف أقوى. ثم في عام 2015، وبسبب ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" والحرب الأهلية اليمنية، اقترحت المملكة العربية السعودية مرة أخرى إقامة تحالف سني عربي يضم حوالي 40 دولة. وعلى الرغم من تشكيل التحالف فعليًا، إلا أن تدخله في اليمن ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران كشف سريعًا عن قيوده السياسية والعسكرية والعملياتية.
وبصورة عامة، أدّت الطموحات المتباينة لقادة المنطقة، كما والتناقضات بين الأنظمة العربية والتضارب العام للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى فشل مبادرات عديدة لإنشاء مثل هذا التحالف. ولكن مع تزايد القلق بشأن العدوان الإيراني ولمس تأثير جهات فاعلة مثل روسيا والصين بشكل متزايد في المنطقة، انطلقت معارك دبلوماسية مكثفة في الأشهر الأخيرة يمكن أن تؤدي إلى تحولات كبيرة في المشهد السياسي والعسكري – وهي تحولات يمكن أن تجعل التحالفات الإقليمية، التي كانت في السابق مستحيلة، ممكنةً إلى حد كبير.
التوتر المتنامي يزيد الإحباط
على عدة جبهات، أدى التهديد الإيراني المتزايد إلى تقريب العديد من الأطراف الفاعلة من طاولة المفاوضات. ففي السنوات الأخيرة، كانت المملكة العربية السعودية تطالب بدعم أمريكي وإقليمي أكبر في الحرب ضد ميليشيات الحوثي المتحالفة مع إيران في اليمن، والتي أطلقت أكثر من 200 صاروخ باليستي وعشرات الطائرات المسيرة الانتحارية ضد المملكة قبل دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في نيسان/أبريل 2022. وفي عام 2019، تعرضت حقول النفط السعودية لهجمات بطائرات مسيرة وصواريخ كروز يُعتقد إلى حد كبير أنها جاءت من ناحية إيران. وبالطبع، جل ما فعلته هذه الهجمات هو أنها صبّت الزيت على نار المعاداة لإيران.
في شمال أفريقيا، تشير الأدلة إلى أن إيران تقوم بتسليح وتدريب "جبهة البوليساريو" في الجزائر في محاولة لزعزعة استقرار المغرب بعد تطبيع البلاد مع إسرائيل. والواقع أن دور إيران في هذه القضية المهمة لا يقوض المغرب العربي السني ككل فحسب، بل يفاقم أيضًا معاداة إيران داخل المغرب، ما يقرّب البلاد أكثر من حلفائها الإقليميين.
وكذلك، من ناحية الولايات المتحدة، شكلت محادثات الاتفاق النووي البطيئة مع إيران، إضافة إلى تسريع طهران لعملية تخصيب اليورانيوم على نطاق واسع، ضغوطًا على واشنطن لوضع سياسات بديلة تهدّئ هواجس حلفائها في الشرق الأوسط وتضمن الدعم العسكري الأمريكي في المنطقة.
علاوة على إيران، تشعر الولايات المتحدة بالقلق أيضًا من تأثير الحرب في أوكرانيا على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. فالجهود التي بذلتها موسكو لإقناع دول الخليج العربية بإبقاء أسعار النفط مرتفعة وعدم الانضمام إلى العقوبات الغربية ضدها أوجدت واقعًا سياسيًا جديدًا لا يمكن إلا أن يؤجج التوتر بين القوى الإقليمية. وحيث إن الولايات المتحدة ليست واثقة من خطوة روسيا التالية، وتتصدى لنفوذ الصين المتزايد في المنطقة من خلال مبادرة الحزام والطريق، فهي تحتاج إلى حلفاء حقيقيين في الشرق الأوسط الآن أكثر من أي وقت مضى.
وبالفعل، فقد ضاعفت الصين خلال العقد الماضي استثماراتها المالية والسياسية في المغرب العربي بهدف التفوق على النفوذين الأوروبي والأمريكي في المغرب والجزائر وتونس. وفي حين أثارت هذه الخطوة توتر الدول الغربية، إلا أن هذه الأخيرة لم تفعل بعد شيئًا يُذكر لِلجم نزعة الصين الإمبريالية في المنطقة – وهذا واقع تأمل تغييره.
وأحد العوامل المهمة الأخرى في هذا المشهد المتغير هو الديناميات السياسية والاقتصادية بين إسرائيل والدول المجاورة لها في المنطقة. فمع أن إسرائيل كانت تُعتبر منبوذة في العالم العربي، إلا أنها طورت تدريجيًا علاقات مهمة في السنوات الأخيرة غيّرت الخطاب في الشرق الأوسط. فابتداءً من عام 2020، وقّعت إسرائيل اتفاقيات تطبيع – تسمى مجتمعة بـ "اتفاقيات أبراهام" – مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب وعمان والسودان، لتضاف إلى التطبيع الناجح السابق للبلاد مع مصر عام 1979 والأردن عام 1994. وبعد تكثيف اتصالاتها بشكل ثابت مع إسرائيل خلال العام الماضي، وافقت تركيا أيضًا على استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل في شهر آب/أغسطس.
في المغرب، تكتسب إسرائيل مركزًا وطيدًا مهمًا في البلاد من خلال تحالف يغطي العديد من المجالات الاستراتيجية. فهي تدعم الجيش المغربي بأحدث المعدات، بينما يساعدها المغرب في توغلها الاقتصادي والسياسي في أفريقيا، حيث حصلت إسرائيل على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي. ولا بد أيضًا من ذكر الدينامية بين إسرائيل ودول شمال أفريقيا في "حوار البحر الأبيض المتوسط" لحلف "الناتو" كدليل على بناء التعاون، حتى لو لم يكن ينمّ عن التزام كبير. فلا شك في أن إسرائيل تُعتبر منذ فترة طويلة حصنًا ضد الهيمنة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
بطبيعة الحال، ليس احتمال نشوء تحالف عسكري إقليمي يضم إسرائيل والدول العربية مضمونًا. فعلى الرغم من معاهدات السلام وتطبيع العلاقات الدبلوماسية، لم يتم إنشاء أي تعاون عسكري رسمي أو برنامج دفاع مشترك. فضلاً عن ذلك، لا تزال العلاقة الباردة بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل تشكل عقبة إقليمية رئيسية في الدرب نحو التحالف. مع ذلك، إن مجرّد تفكير إسرائيل والدول العربية المجاورة في مثل هذا التعاون يدل على إمكانية قيام حلف شبيه بالناتو في الشرق الأوسط، وليس فقط "ناتو عربي."
تحالف الدفاع الجوي للشرق الأوسط
حتى الآونة الأخيرة، كانت معاداة إسرائيل هي السبب الوحيد الذي يوحّد معظم دول الشرق الأوسط عسكريًا. أما اليوم، فيبدو أن التهديد الذي تشكله إيران، إضافةً إلى تهديد الأطراف الخارجية، قد يتغلب على الكراهية التي شعرت بها هذه الدول تجاه إسرائيل في الماضي. فإيران هي الراعي الرئيسي للإرهاب الإسلامي الراديكالي في العالم، وهي تصدّر آلاف الطائرات المسيرة والصواريخ إلى وكلائها في المنطقة، كما أنها تشارف على امتلاك أسلحة نووية – وهو تهديد يؤثر على كل دولة في الشرق الأوسط. مع وضع ذلك في الاعتبار، لا عجب في أن الكثيرين في الشرق الأوسط يتوقون إلى إنشاء تحالف للدفاع الجوي.
في حزيران/يونيو، صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس أن تحالفًا مماثلاً قد يكون قد نشأ بالفعل. فقد قال غانتس إن إسرائيل انضمت إلى ما أسماه "تحالف الدفاع الجوي للشرق الأوسط"، وهو عبارة عن شبكة دفاع جوي إقليمية تقودها الولايات المتحدة وتضم بعض الدول العربية. ومع أن غانتس لم يذكر أسماء هذه الدول العربية، إلا أن العديد من المراقبين يتكهنون بأن التحالف المذكور يشمل على الأرجح الإمارات والبحرين وقطر ومصر والأردن أو أيّا منها، خصوصًا بعد الاجتماع العسكري السري الذي عُقد في آذار/مارس.
حتى الآن، لم يتم التأكيد على وجود "تحالف الدفاع الجوي" هذا، غير أن الأدلة تشير إلى تأييد الجهات الإقليمية له. فبعد رحلة العاهل الأردني الملك عبد الله إلى الإمارات العربية المتحدة في 23 حزيران/يونيو، قال الملك في مقابلة مع قناة "سي إن بي سي" الأمريكية إن بلاده ستشارك في تحالف عسكري شبيه بحلف "الناتو" بين الدول الحليفة في الشرق الأوسط. وزعم أنه سيكون "من أوائل الداعمين لإطلاق حلف شبيه بالناتو في الشرق الأوسط"، مشددًا على ضرورة أن يكون لمثل هذا التحالف "مهمة واضحة للغاية" لتجنب "الالتباس."
لربما تكون لحظة قيام "ناتو عربي" قد أفَلت، غير أن التهديدات الإقليمية المستمرة والديناميات المتغيرة تشير إلى أن لحظة "الناتو الشرق أوسطي" قد حانت. فبدلاً من الاتحاد ضد إسرائيل، يبدو أن الدول العربية تتحد مع إسرائيل. والسؤال الآن ليس ما إذا كان الناتو الشرق أوسطي ممكنًا، ولكن ما إذا كان يوجد تهديد كبير بما يكفي لإنشائه؟ لا بد أن يكون الجواب نعم نظرًا إلى عدوان إيران ووكلائها. فاستقرار منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا برمتها على المحك اليوم أكثر من أي وقت مضى.