- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
نهج حكومة نتنياهو إزاء روسيا وأوكرانيا
رغم الضغط المتزايد على كلا الطرفين، فمن المرجح أن يحافظ نتنياهو على نهج عدم الانحياز خلال الصراع الدائر في أوكرانيا، وذلك في محاولة للحفاظ على المصالح الإقليمية المباشرة لإسرائيل.
عزّزت عودة بنيامين نتنياهو إلى منصب رئاسة الوزراء في كانون الأول/ديسمبر 2022 التوقعات بتغيير في سياسة إسرائيل إزاء الحرب في أوكرانيا. لكن حتى الآن، تصر القدس على موقفها القاضي بعدم تزويد كييف بأسلحة فتاكة وتمتنع عن فرض عقوبات اقتصادية على روسيا وتواصل حوارها السياسي مع الكرملين خلال مسار الحرب. غير أنه في الآونة الأخيرة، ازدادت الضغوط الأمريكية على إسرائيل من أجل تغيير موقفها. وعليه، تمّ تسريب معلومات عن إجراء مراجعة للسياسة بقيادة "مجلس الأمن القومي" الخاضع لسيطرة نتنياهو.
موقف نتنياهو
في مقابلة أجرتها "سي أن أن" مع نتنياهو في الأول من شباط/فبراير، قدّم نظرة مثيرة للاهتمام عن طريقة تفكيره، حيث عبّر عن وجود علاقات "معقدة" بين إسرائيل وروسيا. ويعود السبب الرئيسي إلى الخطر الذي تطرحه هذه العلاقة على حرية العمل العسكري الإسرائيلي في سوريا وسط محاربتها الوجود العسكري الإيراني الراسخ هناك. وشدّد أنه خلال السنوات الثماني الماضية صمم سياسة حالت دون اندلاع أي أزمة بين القدس وموسكو في حال اصطدام مقاتلاتهما في الأجواء السورية.
وكرّر نتنياهو وعده "بالنظر" في فكرة تزويد أوكرانيا بأسلحة إسرائيلية، بما في ذلك أنظمة "القبة الحديدية" للدفاع الجوي، وسط الإشارة إلى أن إسرائيل قد تمدّ الدولة الشرق أوروبية بـ"أنواع أخرى من المساعدات" بدلًا من ذلك؛ وقد صوّر عملية نقل 250 ألف قذيفة مدفعية تعود للولايات المتحدة – وكانت موضوعة مسبقًا في إسرائيل – إلى أوكرانيا على أنه خير مثال على استخدام ذخيرة إسرائيلية لمساعدة أوكرانيا. في الوقت نفسه، أوضح أن بلاده تقدّم مساعدات إنسانية هائلة إلى أوكرانيا، بما في ذلك استقبال لاجئين.
وتشير تصريحات نتنياهو أثناء المقابلة إلى أنه رغم الشرخ العميق بين روسيا ودول الغرب، يعتزم مواصلة تطبيق السياسة التي ينتهجها إزاء روسيا منذ العام 2015، فاصلًا بين حملة إسرائيل ضد إيران ومنافسة القوى العظمى الأشمل. وبشكل خاص، تأمل إسرائيل المحافظة على شراكتها مع واشنطن من دون إبعاد روسيا. أما استخدامه عبارة "النظر في" تزويد أوكرانيا بالأسلحة، فيدل على الأرجح أن عملية مراجعة سياسة إسرائيل لن تفضي إلى مدّ كييف بأسلحة فتاكة بشكل مباشر.
يُذكر أنه في بداية الحرب، عمل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت على التوسّط بين روسيا وأوكرانيا كونه من أوائل القادة الذين وصلوا إلى موسكو. وصرّح في الآونة الأخيرة بأن المفاوضات في هذا الخصوص كانت جدية وأنه اقترح أن يلعب دور الوسيط بناء على طلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وبتنسيق وثيق مع إدارة بايدن والمستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. كذلك، اعتبر بينيت أن الوساطة في مرحلة مبكرة من الحرب سمحت لإسرائيل بتجنب ضغوط الغرب "بالانحياز إلى طرف معين" وبأن تتخذ مواقفها وفق مصالحها الملموسة. وكان بينيت مؤمنًا بأن نتنياهو دعم هذه السياسة انطلاقًا من العلاقات الروسية-الإسرائيلية السابقة منذ 2015، أي قبيْل بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا.
وعلى الرغم من افتراض وسائل الإعلام الكبير بأن نتنياهو سيقود وساطة مستقبلية بين روسيا وأوكرانيا، يبدو من المستبعد إلى حدّ كبير أن يلعب مثل هذا الدور لأن إسرائيل لا تملك أي نفوذ في هذا المجال. وبالفعل، إن روابط نتنياهو مع بوتين لم تعد وطيدة كما كانت عليه قبل الحرب – فقد مرّ أكثر من شهر قبل أن يتلقى نتنياهو اتصال تهنئة من بوتين على فوزه بالانتخابات. وعلى نحو مماثل، لم تصدر أي تقارير تفيد عن أي حديث دار بين الاثنين منذ تشكيل حكومة نتنياهو. وفي هذا السياق، تمثل الهدف الرئيسي من ملاحظات نتنياهو على قناة "سي أن أن" بشأن دور وساطة أكثر فعالية في التأكيد على سمعته كزعيم سياسي بارز على الساحة الدولية، في وقت أن احتمال تبنيه مثل هذا الدور شبه معدوم على أرض الواقع. وذكر نتنياهو أنه قد ينظر في المسألة إذا طلبت منه كافة الجهات الفاعلة التوسط، أي روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة.
من جانبها، تبدو روسيا راضية عن الموقف الحالي الذي تنتهجه إسرائيل. وهي تستخدم مبدأ "الثواب والعقاب" لثنيها عن تغيير سياستها تمامًا كما فعلت مع الدول الأخرى. فالمروجون لروسيا وكبار المسؤولين في الحكومة الروسية الذين لا يكفون عن التعبير عن تقديرهم لإسرائيل وتقديم اقتراحات لتوطيد التعاون معها، وجهوا لها في الوقت نفسه تهديدًا بتقويض حرية التصرف التي تتمتع بها في سوريا في حال أرسلت أي مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا.
ومن جهة أخرى، لا تزال العلاقات بين إسرائيل وأوكرانيا متوترة في ظل حكومة نتنياهو إذ ما زالت كييف تتوقع أن تغيير إسرائيل من موقفها. وكان وزير الخارجية الإسرائيلي ايلي كوهين قد تعرّض لموجة انتقادات لاذعة في الأيام الأولى من ولايته على خلفية موافقته على الرد على اتصال هاتفي من نظيره الروسي سيرغي لافروف قبل التحدث إلى وزير الخارجية الأوكراني. وقد استغرقت زيارة كوهين إلى كييف بعض الوقت للإعداد لها، حيث وضع الأوكرانيون مطالب قاسية لزيادة الدعم المالي الإسرائيلي وتحويل تصريحاتها السياسية لصالح أوكرانيا. ومع ذلك، استُقبل كوهين، وهو أكبر مسؤول في البلاد يزور كييف منذ بداية الحرب، استقبالًا حارًا في 16شباط/ فبراير، من قبل الرئيس فولوديمير زيلينسكي. وقد لاحظ المعلقون خلال الزيارة امتناع كوهين عن التحدث ضد روسيا أو حتى ذكرها بأي شكل من الأشكال، لكنه وعد بدعم خطة السلام الأوكرانية في الأمم المتحدة والمساعدة في إعادة بناء اقتصاد البلاد.
بعد مرور يوم على انتهاء الزيارة، أعرب زيلينسكي خلال خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن عن ثقته في أنها مسألة وقت فقط حتى تستلم أوكرانيا من إسرائيل منظومة "مقلاع داود" المضادة لجالوت. وقد ساهم هذا الإعلان في تجديد التوقعات بشأن مساعدة إسرائيل المهمة لكييف، حيث يعد "مقلاع داود" أحد أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي. لكن الآن بعدما حصلت أوكرانيا على منظومات دفاع جوي متطورة من الولايات المتحدة وأوروبا، لم تعد مهتمة باستلام أسلحة ومساعدات عسكرية من إسرائيل كما في بداية الحرب.
الحسابات الداخلية تحول دون التدخل لصالح أوكرانيا
يشكل التقارب بين روسيا وإيران أحد أبرز مصادر قلق إسرائيل التي تمنعها من تقديم دعم أكبر إلى أوكرانيا، ولا سيما في المجال الأمني. فتقارب مماثل قد يشمل نقل الأسلحة الروسية إلى إيران أو معرفتها في مجال الأمن التكنولوجي في وقت تقترب فيه طهران أكثر من أي وقت مضى من عتبة امتلاك برنامج عملي للأسلحة النووية. وصحيح أن الإسرائيليين أبلغوا روسيا بمخاوفهم لكنهم يعلمون أنه لا يمكنهم أن يكونوا على ثقة من أن موسكو لن توطد علاقاتها المثيرة للجدل مع إيران، فهي تعتمد بشكل متزايد على الأسلحة الإيرانية، كما أنها تولي أهمية لإيران بسبب موقعها كطريق عبور حيوي لسلعها.
وفي الوقت نفسه، تدرك إسرائيل أن الشراكة بين روسيا وإيران تخضع لقيود كثيرة على الرغم من الحرب في أوكرانيا. فموسكو لا تريد أن تصبح إيران دولة نووية كما أنها لا ترغب في تنامي الدور الإيراني في سوريا على حساب هيمنتها. أما إيران فلا تزال تؤمن بمبدأ أنه لا يمكن الوثوق بروسيا. وبالتالي، من وجهة نظر إسرائيل، يمكن لموسكو والقدس إجراء حوار سياسي لإحداث شرخ بين روسيا وإيران قد يعزز فعالية الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة وشركاؤها الذين يشاطرونها الأفكار ذاتها في الخليج والتي سبق أن نجحت في منع روسيا وإيران من التعاون مع بعضهما البعض في المجال الأمني. مع ذلك، لا تتوقع إسرائيل من موسكو التحرك لكبح طموحات إيران، بل تريد منها عدم التدخل فحسب.
أما المسألة الثانية التي تكتسي أهمية كبيرة بالنسبة للقدس في هذه الحرب، فهي وضع اليهود من سكان روسيا وأوكرانيا. فإسرائيل تخشى انتقام موسكو منها بسبب توتر العلاقة بينهما، بحيث تمنع اليهود من النزوح. ويبدو أن روسيا فهمت جيدًا مخاوف إسرائيل، فقد باشرت بإجراءات قانونية في تموز/يوليو 2022 لوقف أنشطة "الوكالة اليهودية" (المنظمة الدولية اليهودية الرائدة) في روسيا. وفي 17 شباط/فبراير، استأنفت المحكمة مداولاتها بشأن القرار بعدما تم إرجاؤها مرة كل عدة أشهر منذ آب/أغسطس. وقد تكون هذه الخطوة بمثابة إشارة أخرى من الكرملين إلى نتنياهو لعدم الابتعاد أكثر عن موسكو، في وقت تشير فيه إطالة الإجراءات القانونية إلى أن التهديد بوقف أنشطة الوكالة يصب في مصلحة الكرملين أكثر من قرار وقف أنشطة المنظمة. لكن بما يتعارض مع مخاوف إسرائيل، يبدو أن المنظمات اليهودية العاملة في روسيا مندمجة تمامًا في تركيبة النظام الذي يفرضه بوتين، ومن شأن ذلك أن يدعم السردية القائلة بأن روسيا ترحب بكافة الديانات والجنسيات. وبعد مرور عام على بداية الحرب، يمكن أن نفترض أن الشريحة الأكبر من اليهود الذين لا يزالون في روسيا يؤيدون السياسة التي تنتهجها موسكو في أوكرانيا.
ومن الجوانب الأخرى التي تؤثر على موقف إسرائيل من الحرب هو "الملل من أوكرانيا"، بحيث أن الشعب الإسرائيلي انهمك بمشاكله الداخلية ومل من هذه الحرب بوتيرة أسرع من شعوب الدول الغربية. فالأزمة السياسية الداخلية التي تشهدها إسرائيل، وجولات الاقتتال مع الفلسطينيين في غزة، والاضطرابات في يهودا والسامرة، وتهديد "حزب الله" الدائم بالتصعيد أو احتمال أن تصبح إيران دولة نووية، كلها عوامل أدّت إلى تراجع اهتمام الشريحة الأكبر من الرأي الإسرائيلي بالحرب في أوكرانيا. عدا عن ذلك فإن الإصلاحات القضائية التي أجرتها حكومة نتنياهو مؤخرًا حوّلت أنظار الشعب نحو الأجندة الداخلية بعيدًا عن الحرب الأوكرانية.
وبالطبع، يستمر الجدل في "المجتمع الاستراتيجي" الإسرائيلي حيث يدعو بعض السياسيين والشخصيات البارزة إلى الابتعاد عن روسيا والتضامن مع أوكرانيا والغرب. فهؤلاء يخشون من أن يؤول موقف إسرائيل هذا إلى القضاء كليًا على شراكتها مع الغرب. على سبيل المثال، يطالب بعض الخبراء نتنياهو بتغيير سياسته إزاء أوكرانيا بهدف ضمان دعم الولايات المتحدة لأي خطوات مستقبلية محتملة ضد إيران أو تعاونها من أجل إقناع المملكة العربية السعودية بالانضمام لـ"اتفاقيات إبراهام". علاوةً على ذلك، يظهر أن إدارة بايدن ضاقت ذرعًا بالإصلاحات القانونية المثيرة للجدل التي تجري في إسرائيل وبتنامي احتمال تصعيد أعمال العنف مع الفلسطينيين، لذا فإن اعتماد إسرائيل نهجًا أكثر حزمًا تجاه روسيا قد يمنحها هامشًا أكبر للمناورة مع إدارة بايدن والحكومات الغربية الأخرى.
وبالتطلع للمستقبل، يبدو أن معظم الكتل السياسية في إسرائيل تجمع على اعتماد نهج "عدم الانحياز" خلال المرحلة القادمة. وفي حين لا يزال احتمال تشوه سمعة إسرائيل في أوساط دول الغرب قائمًا، يستمر الجدل حول درجة خطورته. فإحجام إسرائيل عن معاداة روسيا لا ينبع بالضرورة من خوفها منها، بل من ظروف جيوسياسية مختلفة، لا يقبلها الغرب ربما بالكامل. فإسرائيل لا تتمتع بميزة الدفاع الجماعي لأعضاء "حلف الناتو"، كما أن أنشطتها العسكرية تتداخل بشكل يومي مع أنشطة روسيا في سوريا، ولديها مجموعة من الأزمات السياسية المحلية المعقدة التي عليها حلها.
وقد يكمن الحل الذي على حكومة نتنياهو إيجاده للضغوط المتضاربة التي ترزح البلاد تحت وطأتها في الوقوف علنًا في صف أوكرانيا والغرب، وتقديم مساعدات أمنية إلى كييف على شكل أسلحة غير فتاكة (على نطاق محدود) أو من خلال تقديم معونة أمنية تلحق الضرر بروسيا بواسطة طرف ثالث من دول الغرب. لكن إسرائيل لن تتخلى عن الاعتبارات الأساسية التي تستند إليها لتحدد طبيعة علاقتها بروسيا، ومن المستبعد أن يقرر نتنياهو تغيير موقف بلاده الحيادي نسبيًا. وعليه، على الحكومة الأمريكية والكونغرس التركيز على التوصل مع إسرائيل إلى "حلول أكثر إبداعًا" لتخطي هذه القيود وتحقيق الأهداف المنشودة في أوكرانيا.