- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
رغم كل التحديات، خطوة أخرى ناجحة للديمقراطية التونسية
يوم الأحد، أدلى التونسيون بأصواتهم في انتخابات حرة وديمقراطية هي الثانية التي تشهدها البلاد منذ ثورة العام 2011. ووفقًا للمراقبين المحليين والدوليين، فقد أجريت هذه الانتخابات دون حدوث أي مشاكل كبيرة أو عمليات تزوير. كما شكلت النتائج الأولية التي أظهرت تصدّر مرشحَين معاديين للسلطة السباقَ الرئاسي مفاجأةً للكثيرين. والآن سوف يتواجه المرشحان الأولان في جولة انتخابية ثانية خلال الأسبوعين القادمين من أجل تحديد هوية الرئيس المقبل لتونس. غير أن هذه النتائج الأولية تشير أساسًا إلى أن الناخبين التونسيين يشعرون عمومًا بخيبة أمل من مرشحي السلطة في البلاد وأنهم يبحثون عن البديل.
واستنادًا إلى النتائج الأولية التي نشرتها "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" في تونس، تصدّر قيس سعيد – وهو أستاذ في القانون الدستوري يبلغ من العمر 61 عامًا – السباق الرئاسي بنسبة 18.40 في المائة من الأصوات. ورغم أن سعيد لا يتمتع بأي خلفية في السياسة الانتخابية، يبدو أن خبرته القانونية ووعوده بمحاربة الفساد والخروج بتصوّر جديد لحل المشاكل الوطنية هي ما جذب مؤيديه. ولقيت هذه الرسالة أصداءً إيجابية في أوساط الشباب التونسي المتعلّم بشكل خاص: فنسبة 37 في المائة من ناخبيه تتراوح أعمارهم بين 18 و25 سنة، ويحمل 25 في المائة منهم شهادة جامعية وفق استطلاعات أجرتها مؤسسة "سيغما كونساي"، ما يجعله المرشح الأكثر شعبية في أوساط خريجي الجامعات التونسيين.
وتضمنت الوعود التي أطلقها سعيد في حملته الانتخابية إضافة بند عزل على الدستور سيخوّل التونسيين عزل المسؤولين المنتخبين. كما أعلن سعيد أنه يعارض تطبيق قانون المساواة في الميراث الذي وقّعه الرئيس السابق السبسي، والذي ينص على حصول الرجال والنساء على حصص متساوية من الميراث. ويذكر أن العديد من الإسلاميين والمحافظين قد رفصوا هذا القانون من قبل زاعمين تعارضه مع الشريعة الإسلامية. وعلى صعيد الحكم، يؤيد سعيد لامركزية السلطة في المجالين الاقتصادي والسياسي من أجل إبعاد السلطة عن الحكومة المركزية ونقلها بدلًا من ذلك إلى الحكومات المحلية. والأهم من ذلك هو أنه نصّب نفسه كبديل عن سلطة سياسية ونظام سياسي فشلا في الوفاء بالعديد من الوعود الاقتصادية والاجتماعية للثورة. ومن المرجح أن تكون مواقف سعيد المحافِظة بشأن مسائل اجتماعية أساسية مبعث قلق للعديد من الناخبين العلمانيين عند خوض الجولة الثانية من الانتخابات.
أما المركز الثاني فاحتله القطب الإعلامي نبيل القروي البالغ من العمر 56 عامًا، بحصوله على نسبة 15.58 في المائة من الأصوات، وذلك وفق "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات". ومع أن القروي كان موقوفًا منذ 23 آب/أغسطس للاشتباه بضلوعه في تبييض الأموال والتهرب الضريبي، إلا أنه سُمح له بالمشاركة في الانتخابات إذ لم توجَّه إليه بعد أي تهم رسمية. وفي الواقع، استخدم فريق القروي الانتخابي قضية حبسه لصالحه، حيث حشد التونسيين في مختلف أرجاء البلاد لدعمه ضد سلطة سياسية يُعتقد أنه تسعى إلى إقصائه عن السلطة من خلال تلفيق تهم الفساد إليه.
وخلال حملته الانتخابية، نصّب القروي نفسه مدافعًا عن المظلومين في تونس – مركّزًا على التونسيين نفسهم المقيمين في المناطق الداخلية في البلاد والذين كانوا حصن الثورة في العام 2011. ويدّعي القروي أن النخبة الحاكمة الحالية لا تقدّم سوى الوعود إلى التونسيين المنسيين الذين يعيشون عند أطراف البلاد الأكثر فقرًا وأنه في ظل ولايته الرئاسية سيتمّ إخراج مئات الآلاف من حالة الفقر. غير أن منافسي القروي يقولون إن أعماله الإنسانية تجاه فقراء تونس ليست سوى محاولة مقنّعة يستخدمها للوصول إلى الرئاسة. وعلى الرغم من اعتباره مرشحًا معاديًا للسلطة، كان القروي في الماضي على علاقة وطيدة بأحزاب علمانية بارزة على غرار "نداء تونس" كما أنه شاركها العديد من أفكارها التحررية، خصوصًا في ما يتعلق بالتحرر الاقتصادي.
في المقابل، كان أكبر الخاسرين في هذه الانتخابات من دون شك مرشحي السلطة في تونس. فمرشح حزب "النهضة" الإسلامي التونسي عبد الفتاح مورو حلّ في المرتبة الثالثة مع نسبة 12.88 في المائة من الأصوات. ومع أن وزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي كان يعتبر في البداية من المرشحين الأوفر حظًا، لم ينل سوى 10.73 في المائة من الأصوات. غير أن المفاجأة الكبرى أتت بحصول رئيس الوزراء الحالي يوسف الشاهد على 7.38 في المائة فقط من الأصوات رغم حملة وطنية كبيرة لحشد الناخبين وإنفاق الملايين على الحملات الإعلانية.
وفي حين قد يشير البعض إلى الانشقاقات التي حدثت في معسكر الوسط العلماني بغية تبرير الأداء السيئ لكل من الزبيدي والشاهد بالانقسامات الحاصلة داخل المعسكر العلماني الوسطي، إلا أن السبب المرجّح يعود إلى خيبة أمل الناخبين عمومًا من النخبة الحاكمة والأحزاب الرئيسية. ولم تتوقع النخب السياسية أن يختار التونسيون أعضاء جدد في عالم السياسة أو أن يتوجّه التونسيون الأكبر سنًا في المناطق الطرفية من البلاد إلى صناديق الاقتراع بمعدلات أعلى مما كان متوقعًا.
وما يثير القلق أيضًا هو نسب المشاركة المتدنية عمومًا في الانتخابات: فقد صوّت 45 في المائة فقط من الناخبين المسجلين في هذه الانتخابات مقارنةً بأكثر من 60 في المائة عام 2014. ومن المحتمل أن تكون نسبة المشاركة هي نفسها خلال الجولة الثانية من التصويت التي من المرجح أن تجري في السادس من تشرين الأول/أكتوبر عند إجراء الانتخابات التشريعية. ولا شكّ في أن أحزاب السلطة ستشعر بضغوط أدائها السيئ حين سيدلي التونسيون بأصواتهم في الانتخابات التشريعية. فالمشاكل الداخلية بين الأحزاب العلمانية الوسطية، كما وتراجع الدعم لحزب "النهضة"، قد يفسحان المجال أمام فوز أحزاب أخرى هامشية وحديثة ولوائح انتخابية مستقلة بمقاعد في البرلمان، ما سيؤدي إلى رئاسة وبرلمان يبدوان مختلفين للغاية عن الحكومة السابقة في تونس.
من المتوقع أيضًا أن يصبح البرلمان التونسي أكثر تمزقا، مع عدم احتفاظ أي من المتنافسين على منصب الرئاسة بقاعدة حزبية قوية، وان يتم تعيين رئيس وزراء يحتمل أن يكون ضعيفًا. وقد يفرض هذا التشرذم المزيد من التحديات عند الشروع في سن الإصلاحات الضرورية. ومع ذلك، فإن التحالفات والائتلافات اللازمة بين مختلف الأحزاب قد تسمح للدولة التونسية بالتطور بِمَنْأىً عَنْ تلك الأحزاب السياسية التي تتنافس على المناصب المدنية والسياسية بما يضر بمصلحة الدولة واستقرارها. وقد تميزت السنوات الأولى التي أعقبت الثورة التونسية بالعزل الممنهج لموظفي الخدمة المدنية والقضاة الذين اتُهموا بتحيزهم لأحزاب بعينها. وبعبارة أخرى، يمكن أن يؤدي عدم الاستقرار قصير الأجل داخل البرلمان إلى تحقيق الاستقرار على المدى المتوسط داخل المؤسسات التونسية.
وهناك اتجاه رئيسي آخر تم تسليط الضوء عليه خلال الجولة الأولى من الانتخابات وهو أن التيار الإسلامي التونسي يبدوا أكثر ضعفا في ظل الديمقراطية. وعلى الرغم من أن المرشح الرئاسي قيس يتبنى فكراً متحفظاً، إلا انه يرفض محاولة الإسلاميين احتكار المرجعية الدينية. وفى حين يمثل موقف سعيد من حقوق المثليين، ومبدأ المساواة بين الجنسين والدور الدستوري للشريعة أهمية لدى دعاة حقوق الإنسان في تونس، إلا أنه في ذات الوقت سيضعف دور المعارضة الإسلامية التقليدية (مثل الإخوان أو السلفيين السياسيين). وعلى المستوى الإقليمي، يمكن أن يمثل انتخاب سعيد بديلاً ديمقراطياً محافظاً يختلف كثيرا عما يطرحه التيار الإسلاموي.
هذه الديناميكية ستشكل تحديا للانقسام القائم بين الإسلاميين والعلمانيين، وذلك كونها المحرك الرئيسي للسياسة التونسية. ومن المتوقع أن يؤدى تأييد حزب النهضة لسعيد في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية إلى قيام تحالف محتمل بين المرشحين. ومع ذلك، قد يتشكك جزء من قيادة حزب النهضة في قرار الحزب لعام 2016 المتعلق برفض الإسلام السياسي رسمياً، وهو ما قد يدفع في نهاية المطاف إلى العودة إلى أجندة إسلامية التقليدية.
إن اختيار مرشحين من خارج المعارضة يهتمان بمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية أكثر من الانقسامات التقليدية بين الإسلاميين والعلمانيين، قد ساهم في النأي بالمواطنين التونسيين عن الاصطفافات الحزبية التي تميز بها النظام التونسي منذ عام 2011، ودفع التونسيون إلى المطالبة بحلول عملية للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي أشعلت شرارة الثورة في المقام الأول.