- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
رؤية وعواقب: مقاربة «أميركا أولاً» تصب في مصلحة الشرق الأوسط
وثائق الرؤى الشاملة (الاستراتيجيات)، والتي تصدر تباعاً عن الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة، تتطرق إلى مواضيعها من منظار عام وغالباً بالتالي ما تحظى بالقراءات المتباعدة والتقييمات المتضاربة. وعليه فإن الوثيقتين الصادرتين عن الحكومة الحالية، بعد أقل من سنة من تولي الرئيس ترامپ منصبه، أي دون سجل الأداء الذي من شأنه أن يشكل المقياس للحكم عليهما، قد نالتا نصيبهما من الثناء والتغاضي والإدانة. غير أن هاتين الوثيقتين ليستا على الإطلاق مجرد تأييد بياني للطرح الشعبوي الانتخابي الداعي إلى وضع «أميركا أولاً»، بل إن الرؤية الشاملة والتي ترسمان معالمها تشكل تجاوزاً صريحاً لمواقف الولايات المتحدة والتي سبق لها أن أثارت الاعتراضات والشبهات في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن الريبة هي ردة الفعل التلقائية في الوسط السياسي العربي، فإن القراءة الموضوعية للرؤية الجديدة تفيد بأنها في معالجاتها المتفاوتة لقضايا المنطقة تخرج بمحصلة إيجابية.
تقرّ الرؤية الشاملة الأميركية الجديدة بأن روسيا، كما الصين، هي مجدداً قوة عظمى صاعدة، وأنها تشكل خصماً ومنافساً للولايات المتحدة. واقع الأمر أن الشرق الأوسط يحفل بأوجه عديدة من الدور السلبي لروسيا الصاعدة، إلا أن الدول الفاعلة في المنطقة قد جهدت ولا تزال للتعايش مع هذا الواقع لا لمقاومته. فروسيا قد أنجزت للتوّ ترفيعاً ضخماً لقدرتها على التأثير في سوريا، ما يؤكد فعلياً دورها كقوة عظمى طامحة فيما يتعدى جوارها المباشر، بل إن تدخلها العسكري في سوريا قد تخطى جهاراً سيادة النظام الذي يفترض أن يكون قد وجّه إليها الدعوة. إلا أن ما يفتقد التسليط الكافي من الأضواء هو العملية الإعلامية الضخمة التي تنفذها الوسائط الصحفية الروسية بالتناغم مع شبكة واسعة ذات ارتباط أقل وضوحاً بموسكو، من مؤسسات البث الإذاعي والمرئي ومواقع التواصل الاجتماعي، سواءاً لتلميع صورة روسيا في الفضاء الإعلامي العربي، أو لضخّ مجموعة واسعة من الأفكار والطروحات ذات الصبغة الفئوية أو المؤامراتية أو التشكيكية. والواقع أن الميل في المنطقة إلى التسليم بالصعود الجديد للدور الروسي يعود إلى حد كبير إلى سياسات الحكومة الأميركية السابقة. فواشنطن، في ظل الرئيس السابق باراك أوباما، هي التي تنصّلت من أي دور في سوريا في حين أن موسكو كانت تفرض نفسها بحزم وعدائية كقوة فاعلة فيها. والرسالة الضمنية من الموقف الأميركي كانت أن المقاربة المتوفرة إزاء روسيا، حتى من طرف القوة العظمى الوحيدة، هو التسليم بما تقدم عليه بما يقارب الخنوع. بل بدت واشنطن وكأنها تستميت للتواصل مع إيران في إطار يتضمن روسيا فيما هو يبقي الشركاء القدامى في الظلام حول طبيعة التواصل وأهدافه. وكأن الولايات المتحدة بذلك قد دعت كافة حكومات المنطقة، سواءاً منها التي كانت على صداقة مع الاتحاد السوڤياتي السابق أو التي لم تعرف يوماً العلاقة المتينة مع موسكو، إلى التوجه إلى روسيا والاستحصال منها على ما يوازن السياسة الأميركية الغامضة والضعيفة. بل الأكثر إرباكاً هو أن الولايات المتحدة في ظل أوباما ثابرت على تأكيد الالتزام بمشروعية دولية كانت موسكو تمعن في الالتفاف عليها وتجاهلها وتجاوزها. وفي سوريا، أثبتت روسيا لعموم الشرق الأوسط بما لا يدع مجالاً للشك أنها قادرة على احتواء أزمة عجزت الولايات المتحدة عن إيجاد الصيغة لمعالجتها، فكانت النتيجة أن موسكو كسبت وتقدمت في حين تراجعت واشنطن واهترأت هيبتها.
ولا شك أن دونالد ترامپ يتسبب بعيوبه بالضرر لصورة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وما يتعداه. إلا أن الأذى الذي حقّقه سلفه باراك أوباما لمقام الولايات المتحدة وسمعتها في المنطقة يزيد عما يجنيه ترامپ بأضعاف، وإن أظهر أوباما ما أظهره من الخطابيات الفصيحة والسلوكيات الدمثة. فتغريدات ترامپ غير اللائقة قد يتلقفها الإعلام الباحث عن الإثارة، أما مواقف أوباما المتكررة والتي أدّت إلى تخلي الولايات المتحدة عن دورها القيادي وصدقيتها، فهي قد استنزفت مصالح الولايات المتحدة والشرق الأوسط على حد سواء.
ومقولة «أميركا أولاً» لا تظهر في الوثيقتين على أنها دعوة للانعزالية والانطواء، بل تأتي عنواناً لتوجه سياسي حازم يرفض إخضاع مصالح الولايات المتحدة لأي إطار مسبق يتعارض مع قراءتها الذاتية لمصالحها وقيمها. ومع هذا التوجه، تكتمل دائرة النقاش في الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة حول إطار السياسة الخارجية. ففي تسعينات القرن الماضي، اعتمدت حكومة الرئيس بيل كلينتون عملياً التوجه الذي يدرج السياسة الأميركية في إطار المشروعية الدولية، مع الإبقاء على حيّز يجيز تخطيها لمراعاة المصلحة الوطنية. أما حكومة الرئيس جورج دبليو بوش فعمدت إلى قلب المعادلة، فجاءت سياستها الخارجية أحادية مبنية على قراءتها للمصلحة الوطنية مع قدر من المراعاة للشرعية الدولية. أما إدارة باراك أوباما، فلم تسعَ للعودة إلى صيغة كلينتون، بل دفعت باتجاه وضع كامل السياسة الخارجية الأميركية ضمن إطار المشروعية الدولية.
ومقاربة أوباما هذه عانت من معوّقين لم يجرِ التطرق الفعلي إليهما. الأول هو أن إطار الشرعية الدولية هو تصوّر نظري وليس حقيقة قائمة، إذ هو يحفل بالاستثناءات والفجوات، ولا يجسّد فعلياً مبادئ العدالة والإنصاف والتي غالباً ما تنسب إليه. لا شك أنه ثمة إيجابيات في هذا الإطار، إلا أنه في أفضل الظروف لا يزيد عن المسعى لوضع أسس الحكامة الدولية المتوافق عليها بين الدول، لا الحكومة الدولية المفروضة عليها. أما المعوّق الثاني فهو أنه في حين ألزم أوباما الولايات المتحدة الانصياع للمشروعية الدولية قولاً وفعلاً، فإن خصومه اكتفوا بالقول، وتخلفوا عن الفعل. فمن وجهة نظر شرق أوسطية على الأقل، استغلّت روسيا بنجاح، في سياق جهدها المتعدد المستويات للصعود مجدداً كقوة عظمى، التعويق الذاتي الذي فرضه أوباما على الولايات المتحدة.
وعليه، فإن «أميركا أولاً» هو تكملة النقاش وتتمته حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بما يفيد بأن كامل خطوات هذه السياسة سوف تصاغ انطلاقاً من اعتبارات المصلحة الوطنية الأميركية، مع اعتماد الإطار الدولي كبنية للتنسيق والتحاكم الطوعي، لا كسلطة عليا لها صلاحية أن تأذن أو ترفض أو تعاقب. ومن وجهة نظر شرق أوسطية، هذا تطور إيجابي حتماً، نظراً لما شهده مجلس الأمن من نقض وتعطيل من طرف روسيا (والصين)، في خضمّ سياسة أميركية سابقة زعمت العجز عن الإقدام دون إجماع دولي. ولا ترد قراءة المصلحة في الوثيقتين اللتين تفصلان الرؤية الشاملة كنقيض للقيم أو كدعوة لتغييبها. بل هي قراءة واقعية، وإن متشائمة، لدور القيم في صياغة السياسات. والزعم المعارض أن القيم هي أساس هنا قد نقضه باراك أوباما نفسه. يذكر في هذا الشأن خطاب أوباما الفصيح المدوي حول استثنائية الولايات المتحدة كدولة تضع القيم في صدارة مواقفها الدولية، فيما هو يعفي النظام في دمشق، بعد ارتكابه جريمة قتل المدنيين بالغازات السامة متجاوزاً «الخط الأحمر» الذي رسمه أوباما نفسه، من أي عقاب ويفتح له خطوط التعاون الدولي. ويبقى هذا الخطاب أحد أبرز نماذج النفاق السياسي على الإطلاق.
والواقع أنه يجدر أن تثار في المنطقة العربية مسألة التواصل المبني على القيم، وهو حين تقدم جهات خارجية، والحكومات الغربية تحديداً، على دعم أوساط محلية انطلاقاً من التماهي في القيم. فهذه الجهود قد اعتراها في آن واحد الإفراط والتفريط. فمن جهة أغدقت الأموال على مبادرات محلية فاعلة بما بدّل من توجهاتها للانسجام مع مقتضيات التمويل على حساب الحاجات التي كانت قد حددتها في مجتمعاتها، ومن جهة أخرى غاب الدعم عن حركات ذات توجهات علمانية وتقدمية بناءاً على أحكام مسبقة بأنها لا تمثّل عموم مجتمعاتها، فيما اعتبرت المجموعات الإسلامية الموسومة بالاعتدال بديلاً أنجع عنها. والواقع أنه لا يعقل أن تمتنع أية حكومة أميركية عن مد يد العون لحراك محلي صادق في تعبيره الإيجابي. إلا أنه قد يكون من مصلحة مجتمعات الشرق الأوسط أن تمتنع واشنطن الرسمية عن الخوض في التكهنات لاستشفاف قوى الحراك العتيد ودعمها استباقاً. فإعادة النظر واعتبار القيم خط أحمر لا يجوز تجاوزه، لا امتحان مسبق وشرط للتواصل هو في مصلحة التوجهات الإيجابية في الشرق الأوسط لتظهر وتنمو وتتطور على أساس المعطيات الذاتية المحلية.
أما النقلة النوعية في الرؤية الشاملة الأميركية الجديدة فهي في تبديل مقومات الاعتبار لمسألتين في عمق السجال السياسي في الشرق الأوسط، أي الإرهاب والقضية الفلسطينية. فلا يزال الهدف المعلن والصريح القضاء على الإرهاب وإلحاق الهزيمة بمنظماته. ولكن الإرهاب لم يعد مدرجاً على أنه التهديد الأول للمصالح الأميركية، بل الرؤية الجديدة تشير إلي أن هذا التهديد عائد إلى الخصوم العالميين (الصين وروسيا) والدول المارقة (كوريا الشمالية وإيران). وكانت كل من روسيا وإيران قد سوّقت الإرهاب لدعوة مفترضة للولايات المتحدة إلى التعاون إزاء ما صنّفته خطراً عالمياً أبرز. أما الرؤية الجديدة، فتعيد صياغة مفردات هذا الحوار. وحين تتحفظ الرؤية الجديدة عن الإشارة المباشرة المنفردة إلى حزب الله أو أية أداة إيرانية أخرى، حتى في سياق اعتبارات الأمن لإسرائيل ودول الخليج، فإنها تمنع إيران من التخفي خلف البنية التي أنشأتها في مسعاها للهيمنة على المنطقة بما يحميها من الاتهام المباشر. هي إيران إذن، وليس حزب الله أو أي قائم مقام آخر، المسؤولة عن أي أعمال تقدم عليها هذه الجهات. والنقلة النوعية الأخطر أبعاداً هي في الامتناع عن التطرق إلى الموضوع الفلسطيني كقضية مركزية، بما يعترض التسلح بهذه القضية واستثمارها من جانب إيران وغيرها من الخصوم في المنطقة، ويقصر معالجتها ضمن إطار الشؤون الحياتية لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
الهدفان المعلنان الأوليان لحكومة ترامپ إزاء الشرق الأوسط كانا القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية واحتواء إيران. أما الرؤية الشاملة الجديدة فتتوسع في التأطير لتضع الشرق الأوسط ضمن التحديات العالمية التي تواجه الولايات المتحدة. في حين أن الرؤية تحتاج إلى المزيد من الوضوح والتجانس في كل من مسألتي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والقضية السورية، فإنها دون شك تقدم للمنطقة تصويراً يفيد أن الولايات المتحدة أصبحت على بينة من خصومها وأنها هي من يحدد مفردات الحوار معهم. ولا شك بطبيعة الحال، بإن استعادة الولايات المتحدة لصدقيتها في المنطقة، والاستقرار المصاحب لذلك، رهن بقدرة واشنطن على ترجمة الأقوال إلى أفعال، والرؤية إلى سياسة.