- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
رئيسي واستمرار تصدير الثورة إلى سوريا
يلقى الاستهداف الأخير لقاعدة "التنف" في سوريا، حيث تتمركز القوات الأمريكية، الضوء على مدى الجرأة التي صار عليها الوجود الإيراني في سوريا، ومدى انسجامه مع أهداف السياسة الخارجية للرئيس الإيراني الجديد.
كانت قاعدة "التنف"، التي تأسست عام 2016 عامل أساسي في الحرب على تنظيم "داعش"، وفيها تتمركز القوات الأمريكية وقوات التحالف، حيث يتم تدريب جيش مغاوير الثورة. وتقع القاعدة في المثلث الحدودي السوري، الأردني، العراقي في محافظة حمص. وفي 20 تشرين الأول / أكتوبر، استهدفت طائرات مسيرة قاعدة التنف، وأكد مسؤولون أمريكيون لوكالة "أسوشيتيد برس" أن خمس "طائرات إيرانية مسيرة " محملة بالمتفجرات قامت بش الهجوم.
وأشار مسؤولون إلى أنه على الرغم من أن الطائرات المسيرة لم تقلع من المجال الجوي الإيراني، إلا أن طهران "سهلت" تنفيذ الهجوم الجوي. وبالمثل أشارت وسائل الإعلام الموالية لإيران - دون ذكرها بالاسم - إلى أن هجوم الطائرات المسيرة على القاعدة قد نفذته إيران وأنه كان انتقاما أو ردا على الهجوم الذي وقع بالقرب من مدينة تدمر والذي نُسب مؤخرا لإسرائيل.
كان استهداف قاعدة التنف بلا شك يهدف لإيصال رسالة واضحة مفادها أن إيران صارت دولة قوية قادرة على أخذ زمام المبادرة، كما تشير أيضًا إلى نهاية عهد روحاني وبداية عهد إبراهيم رئيسي الذي أظهر أنه لن يتردد في التصرف والرد، حتى ضد الأهداف الأمريكية.
على الرغم من أنّ السياسة الخارجية الإيرانية مرهونة بالمرشد الأعلى علي خامنئي واللوبي التابع له، وذلك بغض النظر عمن هو في المكتب الرئاسي، إلا أنّ وصول رئيسي الى سدة الرئاسة وانتمائه للتيار الأصولي، يزيد من عمق هذه الاستراتيجيّة التي تنتهج فكرة التدخّل في الجوار الإقليمي من بابه العقائدي "تصدير الثورة" ومن بابه الاستراتيجي في محاولات إيران أن تمتلك ملفّات تعزّز من دورها الإقليمي.
وبالطبع، هذا لا يعني أن التدخل في الشؤون الخارجية للدول لم يحدث حين تولى الإصلاحي روحاني الرئاسة، ولا أدلّ على ذلك من التدخّل الإيراني السافر في سوريا والعراق ولبنان، فهذا يدلّ على أنّ السياسات الخارجية خط أحمر ليس على الرئيس الإيراني أن يتصرّف فيها أو يعبث بها. ومع ذلك، فإن انحياز رئيسي الشخصي لرؤية خامنئي بشأن هذه القضية - إلى جانب الزيادة الطفيفة في تبادل إطلاق الصواريخ بين إيران وإسرائيل داخل سوريا - يشير إلى أن إيران ستستمر في ترسيخ نفوذها في البلاد.
"رئيسي" وتيار حزب الله الثوري
تيار حزب الله هو تيار فكري ينتهج خطى ونهج المرشد الأعلى علي خامنئي، ويركّز على تأصيل نهج عقائدي يدعو الى "تصدير الثورة". ومن الجدير بالذكر أن النهج التأسيسي لمبدأ ولاية الفقيه الذي يربط المرجعية الدينية بمرجعية الدولة الإيرانية، عمل على تشكيل أدبياته منذ تأسيس الجمهورية الإيرانية، مما أدى بشكل ملحوظ إلى ظهور حزب الله اللبناني.
درس رئيسي في الحوزة العلمية في مدينة مشهد، كما درس الحقوق الدولية والقضاء في مدينة قم ذات القيمة المذهبية الدينية، وكلاهما مؤشران مهمان على قربه العقائدي من خامنئي. وأشرف رئيسي على العتبة الرضوية وهي المؤسّسة الدينية التي تتبع المرشد الأعلى، وقد نال إعجاب الخامنئي وبخاصة بعد تعيين الخامنئي له رئيسا للسلطة القضائية للبلاد لمتابعة قضايا الفساد.
وللرجل ملفّ قاتم في الجمهورية منذ تولّيه عضوية لجنة الإعدامات بتكليف من الخميني عام 1988 إبان الحرب العراقية - الإيرانية، لتنفيذ أحكام الإعدام في حقّ سياسيين، إلى جانب محاكمات الحركة الخضراء 2009، وقد تم وضعه على القائمة الأمريكية السوداء نظرا لملفّه الأسود في انتهاكات حقوق الإنسان، وقربه من الخامنئي. وقد صرّح رئيسي إبّان طرح برنامجه الانتخابي قبل فوزه بأنّ حكومته ستكون ذات طابع شعبي تقوم على مبادئ الثورة الإسلامية ونهج الإمام الخميني.
رئيسي والملفّ السوري
قام رئيسي باختيار المسئولين في حكومته بعناية بحيث تكون منسجمة تماما مع خط الخامنئي، ويبدو ذلك من اختيار إسماعيل خطيب كوزير للاستخبارات، وهو أحد رجالات الخميني أو النهج الخميني وذو خلفية دينية وتدرّج في المهام الاستخباراتية ومنها الجانب الأمني في العتبة الرضوية المقدّسة التي كان رئيسي نفسه يديرها.
كذلك اختيار حسين عبد اللهيان خلفا لـ محمد جواد ظريف في منصب وزير الخارجية، وهو أيضا يحظى بدعم وقبول كبير من الخامنئي. ففي ثاني زيارة رسمية لوزير الخارجية الجديد صرّح عبد اللهيان من دمشق أنّ طهران ودمشق حققتا "إجراءات وانتصارات مشتركة في مجال مكافحة الإرهاب. وهذا التصريح يأتي منسجما مع توجّهات الأصوليين إلى الميدان والحرب والصراعات العسكرية في السنوات الأخيرة خاصة، كما أكّد دعم بلاده لنظام الأسد وأنّ طهران ودمشق ستمضيان قدما في التعاون في مختلف المجالات.
في حين كان ظريف دائمًا بعيدا عن الحركة الأصولية وتعرض لانتقادات داخلية، خاصة في القضية المعروفة بقضية التسريبات الصوتية، يحاول وزير الخارجية الجديد عبد اللهيان أن يتماهى تماما مع المواقف السياسية لخامنئي من خلال إظهار دعمه لما يسمى بـ"محور المقاومة" الذي يشمل حزب الله في لبنان والنظام السوري والفصائل العراقية والمقاومة الفلسطينية.
لذلك يبدو أن حكومة رئيسي الجديدة ليست محافظة فقط، بل هي إلى حد كبير حكومة خامنئية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بقضايا تصدير «الفكر السياسي الشيعي» أو «تصدير الثورة».
تبدو أيضا حكومة رئيسي متماسكة تماما من حيث ترتيب أولوياتها الخارجية في إطار نجاح مشروع التشيع السياسي والتأثير على الملفات السياسية في دول الجوار. وفى ما يختص بسوريا، تشدد إيران على ضرورة تقويض سيطرة الحركات الإسلامية السنيّة في سوريا كتهديد محتمل على الأمن القومي الإيراني. وفى إطار متصل، لا تزال الاستراتيجية الإيرانية في سوريا تحافظ على مبدأ تثبيت وجودها من خلال بث الفوضى وعدم ميلها للحلول.
وقد صرّح رئيسي خلال استقباله رئيس مجلس النواب السوري حمودة صباغ في طهران "أن سوريا لديها شعب مقاوم وصامد وحكومة ثورية مشيرا الى أن سوريا حكومة وشعبا صمدوا ببسالة بوجه الإرهاب العبري والغربي وحققوا النصر". ورغم قيام رئيسي بشرعنة الوجود الإيراني في سوريا، إلا أنه صرح أيضا انه يجب إخراج باقي القوات الأجنبية من الأراضي السورية.
تخشى إيران من حدوث تغيّرات في بنية النظام حيث تعتبر وجود الأسد ضروريا لوجودها أيضا، كما أنّ حالة الاستقرار إذا ما تمّت ستهدّد وجودها القائم على نفوذ ميليشياتها التي قد يضر بها الاستقرار الذي يسعى إلى ضبط الواقع العسكري العامل في صفّ النظام السوري.
إلا أنّ واقع الوجود الإيراني المستمر في سوريا ينسجم مع مخطط إسرائيل الأمني القائم على تصفية أو النيل من إيران على الأراضي السورية، والتي تسمّيها إسرائيل بـ "مصيدة الجرذان" والتي تشير للنيل من الحرس الثوري وحزب الله اللبناني، وبالفعل فقد وجهت إسرائيل ضربات موجعة لإيران في سوريا.
وتؤيد تلك الحقيقة اعتبار إيران للملف السوري ملفا استراتيجيا ودعمها غير المحدود لنظام الأسد حيث إنّ سوريا هي الساحة الجانبية للصراع الإيراني الإسرائيلي.
ولأنّ الاستراتيجية الخارجية للجمهورية الإسلامية تخضع للمرشد الأعلى فإنّ وجود رئيس متشدّد ومقرّب منه يسهّل من المهمّة ولنقل يزيد من انسجامها، كما سيساهم أكثر في تنفيذ السياسات الإيرانية الإقليمية وتجاوز الصراعات التي حدثت بين الحكومة والحرس الثوري إبان عهد الإصلاحيين في عهدي روحاني.
إيران و"سوريا المفيدة"
بالتطلع عن كثب لاستراتيجية إيران في سوريا، سنجد أنّ إيران تسعى بمختلف الوسائل لتثبيت تواجدها ليس فقط عسكريا، بل اقتصاديا وسياسيا وعقائديا، ولعلّ افتتاح القنصلية الإيرانية في حلب في أيار المنصرم وقبلها في العام 2015 في اللاذقية يعد مؤشرا واحدا على نوايا طهران للتأثير ثقافيا على سوريا التي يحاول الأسد إعادة اعتمارها. لكن الأخطر هو التخوّفات من المحاولات المتعدّدة لإيران لتغيير الخريطة المذهبية إن صح التعبير ليس في حلب أو دمشق فقط، بل في مناطق مختلفة من مناطق تواجدها في سوريا، حتى في المناطق ذات النسيج القومي والمذهبي الموحد كدير الزور ذات الغالبية العظمى العربية السنية، حيث تبذل إيران محاولات حثيثة لافتتاح الحسينيات والحوزات العلمية وتجنيد الشباب في الميليشيات والتأثير على خياراتهم المذهبية.
في وقت مبكر من الحرب، حدد الأسد تركيزه على استعادة ما أسماه "سوريا المفيدة، وهي المنطقة الممتدة من دمشق إلى القلمون وحمص ودرعا وحماة، وصولا إلى طرطوس واللاذقية وحتى الحدود التركية.
من غير المتوقع أن تتغير الإستراتيجية الإيرانية في سوريا إلا إذا أعاد المرشد الأعلى النظر فيها، وهو ما يبدو مستبعدًا خاصة في ظل رئاسة رئيسي. ويبدو أنّ تيار "حزب الله" سيتصدّر المشهد الإيراني الداخلي عبر قمع أية احتجاجات داخلية وطمسها والخارجي عبر تأكيد حضورها الخارجي وعدم الالتفات للعقوبات الأمريكية أو لضغوطات الإسرائيلية.
من الواضح أن الوجود الإيراني في سوريا - مثل نظام الأسد -أصبح مترسخا بشكل متزايد. ومع ذلك، فإن وضع استراتيجية متماسكة بشأن الوجود الإيراني في سوريا يجب أن يكون جزءًا من الحل، فلا تزال هناك بعض الفرص المتاحة في دير الزور ذات الأغلبية السنية. فعلى سبيل المثال، لم تحقق إيران بتدخلها غير العسكري في دير الزور أي نتائج ملموسة، حيث إن دير الزور مجتمع عشائري متماسك في بنيته وذلك رغم انقسامه سياسيا. وفى حال انتهاء الوجود العسكري لإيران من هذه المنطقة، فلن يتبقى لها تأثير يذكر. ومع ذلك، قد ذ يكون الحال مختلف بالنسبة لمناطق أخرى في سوريا. وكلما طالت فترة وجود إيران وقيامها بترسيخ نفوذها في سوريا، زادت فرصتها في تحقيق هدفها المتمثل في إنشاء نموذج حزب الله السوري.