- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
صدامات الشمال السوري: انتصار لغة المصالح على لغة "الأخوّة"؟
مع غياب أي أفق لحل سياسي للأزمة السورية، فإن إصرار الحكومة التركية على اتباع نفس سياستها السابقة في الشمال السوري وعلى مصادرة قرار الشارع السوري، يُنذر بعواقب وخيمة.
بعد فترة وجيزة من اندلاع انتفاضة الشعب السوري ضد نظام الأسد، سمح الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية لأكثر من ثلاثة ملايين سوري باللجوء إلى تركيا. ووصف أردوغان هذا القرار بأنه تعبير عن حسن ضيافة الشعب التركي وتعاطفه وتضامنه مع جيرانه. لكن في السنوات التي تلت ذلك، بات التركيز على اللاجئين إلى تركيا من جنسيات مختلفة والسورية منها على وجه الخصوص خبز وسائل الإعلام والأحزاب السياسية التركية. لكن وحلّت الشكوك الشديدة والتشهير باللاجئين محل النوايا الحسنة والإحسان الذي مُنح لهم في الماضي، بينما يتعامل المواطنون الأتراك مع ارتفاع معدل التضخم وغيره من الصعوبات الاقتصادية الأخرى.
في هذه الآونة، تحاول الأحزاب السياسية من مختلف الأطياف الإيديولوجية تصعيد الخطاب المناهض للهجرة وتأييد رحيل أو ترحيل السوريين إلى خارج تركيا. وبذلك، تم وضع هؤلاء اللاجئين تحت المجهر للاستفادة من خطأ هنا أو نشاط إجرامي فردى هناك، فيجري تضخيمه وتعميمه للإيحاء بأن كل السوريين مسؤولون عن هذا الخطأ وتصويرهم على أنهم آفة في المجتمع التركي. بالنسبة للسوريين في تركيا، وسوريا نفسها، وأماكن أخرى، أدت سلسلة من الحوادث التحريضية إلى تأجيج المواقف المعادية لتركيا، كما تهدد بعرقلة محاولات الرئيس أردوغان الأخيرة لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد في دمشق.
ما جرى في مدينة قيصري التركية كان آخر حلقة في مسلسل رهيب يعتمد على تزييف المعلومات واستغلالها لارتكاب أعمال عنف بحق اللاجئين السوريين. فمساء الأحد، 30أيار/ مايو نشر أحد المواطنين الأتراك فيديو ادعى فيه تحرش شاب سوري بطفلة تركية. انطلق مئات الشبان الأتراك على إثره لتحطيم وحرق المحلات التجارية والسيارات وكل ما يمكن أن يمت إلى السوريين بصلة ـ طبعاً في حالات كهذه دأب السوريون على التزام بيوتهم وعدم مغادرتها لعدة أيام حتى تنتهي موجة العنف والاكتفاء بمغادرة المنزل لشراء ضروريات الحياة فقط. بعد ساعات من الفوضى والعنف حضرت الشرطة ليعلن مديرها للشبان الأتراك أن بإمكانهم العودة إلى بيوتهم فالطفلة ليست تركية، كما أورد تلفزيون سوريا في 1 تموز/ يوليو.
وعلى الجانب الآخر من الحدود، في المناطق التي تسيطر عليها قوات الجيش الوطني السوري المدعومة من قبل تركيا، انتشرت مقاطع فيديو لهذه الحوادث كالنار في الهشيم. بالنسبة للسوريين الذين ما زالوا في سوريا، فإن مشاهد العنف ضد اللاجئين السوريين ليست جديدة. ومع ذلك، أثار حجم المضايقات والدمار موجة غير مسبوقة من الغضب،. فمع انتشار مقاطع العنف في قيصري على مواقع التواصل الاجتماعي انطلقت مجموعات من السوريين الغاضبين بعد ظهر الاثنين، 1 تموز/يوليو في مناطق متفرقة للتعبير عن غضبهم. وسرعان ما تصاعد العنف من الاكتفاء بمنع الشاحنات التركية من العبور إلى ضرب بعض السائقين والموظفين وتحطيم سياراتهم مع إطلاق صرخات منددة بتركيا. غير أن ذروة هذه الأحداث تمثلت بسقوط قتلى وجرحى نتيجة الهجوم على مقر الوالي التركي في عفرين وجرابلس وتوجه مجموعات كبيرة من المتظاهرين الى الجانب التركي من معبر باب السلامة الحدودي مع تركيا حيث ترافق كل ذلك مع إزالة العلم التركي أو إحراقه أحياناً.
وكان من اللافت عدم تدخل أي فصيل من الجيش الوطني السوري أو الشرطة المدنية أو العسكرية المدعومين من تركيا لقمع المتظاهرين أو محاولة منعهم من الوصول إلى المواقع التركية في أعنف مواجهة حتى الآن بين الشعب السوري والقوات التركية في سورية. وما لبثت أن تراجعت حدة العنف مساءً مترافقة بقطع كامل لخدمة الإنترنت وبعد أن أحس المتظاهرون ـ على ما يبدو ـ بأنهم قد حققوا هدفهم وهو إيصال رسالة واضحة إلى تركيا بأن على تركيا أن تعيد النظر في سياستها تجاه السوريين سواء اللاجئين داخل تركيا أو الموجودين في الشمال السوري.
يميل كثير من المراقبين إلى الاعتقاد شبه الجازم بأن الدافع الأساسي وراء أحداث الشمال السوري لا يقتصر اطلاقاً على الرد على أحداث قيصري، بل يتجاوزها للاحتجاج على الموقف الرسمي التركي. يستدل هؤلاء المراقبون على أن أحداثاً شبيهةً بتلك التي وقعت في قيصري كانت قد تكررت في مدن تركية مختلفة دون أن نشهد نفس ردة الفعل هذه ولا أدنى منها من السوريين في الشمال المحرر. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأسبوع المنصرم وحده شهد عدة أحداث كان كل واحد منها يكفي لإيصال الوضع إلى نفس حدة التوتر، بل وحتى التصادم. فقد تجمعت أعداد من المتظاهرين عند معبر أبو الزندين الواصل بين المناطق المحررة ومناطق نظام الأسد عند مدينة الباب السورية لدى انتشار معلومات عن نية القوات التركية إدخال ضباط روس إلى المناطق المحررة من هذا المعبر. وقام على إثرها المتظاهرون بتفتيش السيارات التركية للتأكد من عدم وجود أي ضابط روسي داخل سياراتهم.
غير أن هذه المعلومات تأكدت مع إعلان المجلس المحلي في مدينة الباب ـالمُعيَّن من قبل تركيا ـ بافتتاح المعبر رسمياً في الأيام القادمة أمام الحركة التجارية بالاتجاهين تحت ذريعة تزويد المدينة بالمياه من مناطق النظام. على وقع الصدمة، خرجت مظاهرات منددة بهذا القرار وقام بعض المتظاهرين باقتحام المعبر وتحطيم أجزائه. ومما زاد في حدة التوتر صدور موجة من التصريحات الرسمية التركية غير المسبوقة عن إمكانية عودة العلاقات الرسمية مع نظام الأسد على اعتبار أن النظامين التركي والسوري "عائلة واحدة " كما ورد على لسان الرئيس إردوغان، ونقلته عنه صحيفة زمان التركية الناطقة بالعربية في 16 تموز/يوليو. وبعد ساعات قليلة من أحداث معبر أبو الزندين، نقل ناشطون سوريون في مدينة غازي عنتاب التركية (والتي تضم أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين) عن قيام قوات الأمن التركية في المدينة بمداهمة واعتقال عشرات السوريين غير المسجَّلين فيما بدا أنه ردة فعل على رفض السوريين افتتاح معبر أبو الزندين. تركت كل هذه الأحداث المتلاحقة بشكل درامي انطباعاً سيئاً لدى السوريين في الشمال يتجاوز مرارة الإحساس بتخلي تركيا عن دعم الثورة السورية إلى الإحساس بالخذلان، بل وحتى "الخيانة".
من جهتها، ذهبت السلطات التركية إلى تحميل القوميين الأتراك المسؤولية عن الاعتداءات على اللاجئين السوريين، واستشهدت بلقطات فيديو تم تصويرها بإحدى الكاميرات الطرقية لشاحنة كانت تحمل العشرات من الذين شاركوا بعمليات الهجوم على اللاجئين السوريين في قيصري. وبعد إلقاء القبض على الكثير منهم اتضح أن 468 منهم لديهم سوابق جنائية، حسبما نقلت وكالة الأناضول التركية عن وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا. وهذا ما دفع الرئيس إردوغان للتأكيد على أن أحداث قيصري وما تلاها هي جزء من خطاب "المعارضة المسموم" والمؤامرات التي تحيكها جهات لم يسمّها تستهدف ضرب الأخوة التركية ـ السورية وزعزعة الاستقرار في تركيا.
ويذكر أن الأحزاب التركية المعارضة لحزب العدالة والتنمية الحاكم قد جعلت ملف اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى بلادهم ـ من خلال تفاهمات مع نظام الأسد ـ أولوية لها في الحملات الانتخابية المتكررة في العامين الماضيين مما دفع الرئيس التركي للإعلان عن مشروع سكني في الشمال السوري لإعادة مليون لاجئ. كل ذلك أعطى الانطباع بأن ملف اللاجئين السوريين بات قضية رأي عام في تركيا.
في حين تشير السلطات التركية بأصابع الاتهام إلى الحشود غير المنضبطة والأحزاب المعارضة، اعتبرت العديد من الكيانات والنخب السورية (مثل تجمع النقابات والاتحادات الحرة في سوريا وبعض الأحزاب التي تشكلت حديثاً) أن أعمال الشغب الأخيرة في شمال سوريا كانت نتيجة لـ "تراكمات" مرتبطة بتعامل تركيا مع الملف السوري، حيث أدى إخفاق الحكومة التركية في شمال سوريا إلى زيادة الاستياء بين السكان المحليين بشكل مطرد، وكانت مقاطع الفيديو من مدينة قيصري مجرد نقطة قابلة للانفجار.
لقد لعبت طريقة إدارة الحكومة التركية للشمال السوري في كافة الميادين دوراً أساسياً في تنمية مشاعر سلبية عند السوريين تجاه تركيا. يحمّل كثير من السوريين الحكومة التركية المسؤولية عن تدهور الوضع الاقتصادي في الشمال السوري فرواتب الموظفين وعناصر الشرطة والجيش الوطني السوري والمعلمين أقل من 100$ شهرياً، على سبيل المثال. كما شهدت برامج منظمة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية تخفيضاً كبيراً في عدد المشاريع والموظفين وحجم المساعدات المقدمة لمئات آلاف العائلات النازحة داخلياً. يضاف إلى ذلك اعتماد مراكز ptt التركية كمراكز حصرية لتوزيع رواتب الموظفين السوريين في المدن الرئيسية في الشمال مع ما يسببه ذلك من ازدحام شديد على هذه المراكز بسبب قلة عدد موظفي مراكز. ptt فقد أكد رئيس تجمع النقابات والاتحادات الحرة في سوريا بأن مركزا ptt في مدينتي اعزاز وعفرين (وهما أكبر مدن شمال سوريا وتحوي كل منهما حوالي نصف مليون نسمة) يحويان موظفَين تركيين اثنين فقط في كل مركز يقومان بتوزيع رواتب الموظفين.
ولم تستجب الحكومة التركية للمناشدات المتكررة لإيجاد حل لمشكلة ptt التي باتت تشكل عامل توتر شبه يومي. يضاف إلى ذلك الكثير من التفاصيل عن أداء الحكومة التركية السلبي في مجالات الزراعة والتجارة والصناعة والتعليم لتعمل جميعها على تنامي الموقف السلبي تجاه تركيا بين سكان الشمال السوري في الآونة الأخيرة.
على كل حال، فإن كثيراً من الهيئات والنخب السورية ترى طريقة تشكيل تركيا للمؤسسات السياسية الممثلة للشعب السوري سبباً رئيسياً في الاحتقان ضد الحكومة التركية. فمع تدخل تركيا العسكري المباشر في الشمال السوري ابتداء من أواخر 2016 للمساعدة في القضاء على تنظيم "داعش" ولإيقاف تقدم قوات النظام السوري المدعومة من روسيا وإيران ولاحقاً لإنهاء سيطرة "قسد" على مناطق عديدة، أصبحت تركيا اللاعب الأقوى وربما الأوحد في شمال وشمال غرب سورية. بدأت تركيا تدريجياً تتدخل في تشكيل مؤسسات المعارضة السورية ابتداء بالائتلاف ومرورا بالحكومة السورية المؤقتة وليس انتهاء بالمجالس المحلية في مدن وبلدات الشمال السوري. وعليه، فإن أي قرار يصدر عن هذه الكيانات لم يعد يعبّر عن إرادة السوريين ومصالحهم بقدر ما يعبر عن مصالح الحكومة التركية. لاحقاً، بدأت تركيا بتعيين رؤساء المجالس بشكل مباشر معتمدة-على ما يبدو- على مبدأ الولاء لتركيا بغض النظر عن إمكانيات ومؤهلات رؤساء وأعضاء المجلس أو رضا الشرائح الاجتماعية عنهم أو عمّا يمكن أن يقدموه للناس من خدمات تخفف من وطأة الحرب والتهجير. لا بل وصل الأمر إلى حدّ فرض بعض رؤساء المجالس بالقوة. وتأتي السيطرة شبه التامة لتركيا على الائتلاف والحكومة لتكمل حلقة الشلل التام لكل مفاصل الثورة. وكانت هذه السيطرة خطوة أولى في طريق دخول تركيا كضامن للمعارضة السورية في مفاوضات أستانا مع الجانبين الروسي والإيراني لصياغة تفاهمات أدت لاحقاً لإعادة رسم خطوط الاشتباك والتهدئة بين قوات النظام والمعارضة مع ما تضمنه ذلك من تهجير مئات آلاف المدنيين السوريين من مدنهم تمهيداً لسيطرة النظام وداعميه عليها. لذلك فقد كان شعور السوريين بالصدمة والخذلان بحجم توقعاتهم وآمالهم التي بنوها على الموقف التركي الضامن لحقوقهم.