- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
شبح سليماني في دير الزور
بعد مرور عامين على مقتل قاسم سليماني، لا يزال اسم الجنرال في الحرس الثوري الإيراني يحمل الكثير من القوة بالنسبة للعديد من السوريين باعتباره أحد المسؤولين الإيرانيين بشكل مباشر عن المساعي المستمرة لتغيير الثقافة في منطقة دير الزور جنوب شرق البلاد.
لا تزال دير الزور تعاني من خلل في ميزان القوى، بين نظام الأسد والإدارة الذاتية، في حين تبذل إيران جهودًا كبيرة لتصبح القوة السائدة في سوريا، وقد شهد العام الماضي ارتفاعا ملحوظا في الأنشطة الإيرانية غير العسكرية والمتعلقة بإضفاء الطابع الشيعي على المنطقة ونشر التشيع بين عناصر الميليشيات، إضافة إلى قيام كل من روسيا وإيران باستقطاب الشباب للقتال في صفوفها.
وكما هو الحال في بقية سوريا، تواجه دير الزور ظروف اقتصادية صعبة وبنية تحتية هشة، ومستوى معيشي متردي نتيجة الفشل في تأهيل البنية التحتية وتأمين فرص عمل للشباب العاطلين. ومما يضاف إلى هذه المشاكل، المحاولات المستمرة لقوات سوريا الديمقراطية لإغلاق معابر نهر الفرات- والتي توفر مصدر دخل للعديد من العائلات—في المنطقة الواقعة بين الإدارة الذاتية ومناطق أخرى—يسيطر عليها النظام في دير الزور. وقد استمرّت المظاهرات المدنية في مناطق قسد للمطالبة بتحسين مستوى المعيشة وإطلاق سراح المعتقلين من أبناء العشائر على خلفية التقارير "ألكيدية" حيث إن ملف الاعتقالات يعد من أبرز الملفات الشائكة الذي يتداخل فيه مسألة القلق من خلايا تنظيم "داعش" مع أزمة اعتقال المدنيين استنادا لتقارير كيدية.
يعد سليماني أحد المهندسين الرئيسيين لسياسة إيران التوسعية في دير الزور، فهو أحد الأشخاص الذين اقترحوا التمركز في دير الزور وبناء قواعد والتمدّد في المحافظة ومدّ أذرعهم فيها، وهو الذي وقف على الحدود العراقية السورية وصلّى في رمزية لوحدة هذه الأراضي حيث يحمل ذلك إشارة رمزية لسيطرة على البلدين. وكانت آخر زيارة ميدانية موثقة له قبل وفاته في دير الزور، وكان واضحًا أنه يعلق أهمية كبيرة على المنطقة ودورها في ربط العراق بسوريا عن طريق المناطق التي يسيطر عليها النظام في الجزء الغربي من البلاد ولبنان.
خطة سليماني مستمرة
مع مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس كان هناك فرحة سورية غير مكتومة، حيث أنّهم قاموا بتوزيع الحلويات، على عكس أنصار الأسد وأنصار أبو مهدي المهندس وحسن نصر الله الذين فقدوا نصيرهم، لكن أحداث العام الماضي أثبتت أن جهود سليماني في توسيع النفوذ الإيراني في دير الزور ما زالت مستمرة حتى بعد وفاته.
أثبتت أيضا المساهمات المالية فاعلياتها في الجذب والتأثير على سكان المنطقة الذين يكافحون من اجل لقمة العيش. كما ارتفعت أنشطة المركز الثقافي الإيراني في مدينة دير الزور بشكل خاص طوال عام 2021، ففي إطار محاولات إيران لتصوير نفسها على أنها منقذة للشعب السوري، قام المركز الثقافي الإيراني في الربع الأول من العام بتوزيع مساعدات مالية على العائلات في دير الزور بقيمة 7 دولارات وهو عملة أكثر موثوقية من الليرة السورية المتراجعة. كما قام المركز بتمويل إعادة الحديقة المركزية في المدينة - التي دمرها قصف النظام قبل سنوات.
إضافة إلى ذلك، يقوم المركز الثقافي الإيراني خلال شهر رمضان بعقدة أنشطة بمدينة دير الزور، يقوم خلالها أطفال بتلاوة القرآن الكريم، ثم بعد ذلك تقوم ميليشيا الحرس الثوري الإيراني بتوزيع وجبات الطعام للأطفال القارئين، بينما تطبق على منطقة الحديقة المركزية تشديداً أمنياً على أعلى مستوى، يتمثل بمنع وقوف السيارات أو الدراجات النارية، ومنع التصوير من قبل المارة، مما دفع بعض السكان إلى الشعور بأنه في حين استهدف المركز الأطفال بهذه البرامج بشكل صريح، إلا انه في ذات الوقت يقوم بإخفائها عن باقي المدينة.
كما يقدم المركز عدة دورات للأطفال في موضوعات متعددة مثل التاريخ الفارسي أو التاريخ الإيراني أو المذهبية الشيعية، كما يحظى الأطفال في نهاية الدورة بمبلغ مادي عبارة عن 250 ألف ليرة سورية، تبدو مبلغا مغريا للكثير من العائلات.
وبالمثل، وفرت الهندسة المعمارية المتهالكة لدير الزور العديد من الفرص الاستثمارية للمركز الثقافي الإيراني، بما في ذلك قيام المركز بتأهيل عدد من المرافق والمساجد في دير الزور كمسجد الحسين وعلي ابن أبي طالب وآخرها مسجد العرفي. بدأ المركز أيضا في اتخاذ تحركات واسعة للظفر بمشاريع إعادة تأهيل تكية الشيخ عبد الله وتكية الراوي ومسجد أبو عابد في مدينة دير الزور، حيث عقد عدة اجتماعات مع "مختار النقشبندي" مدير أوقاف دير الزور ومحمد عيادة مدير المعهد الشرعي بدير الزور، وقدم الطرفان وعوداً بأن المناقصة ستذهب للمركز الثقافي الإيراني.
شرع المركز الثقافي الإيراني أيضا بإعادة تأهيل الأرصفة الممتدة من مسجد "المفتي" باتجاه دوار مشفى "النور" أو الحديقة المركزية. ويتزامن ذلك مع اقتراب إنهاء عمليات تأهيل مشفى "السلوم" حالياً المعروف بمشفى "النور" سابقاً. كما حصل المركز على المناقصة التي أعلنت عنها مديرية الأوقاف التابعة لنظام الأسد، والتي خولت له استثمار المشفى مقابل 15 مليون ليرة سورية سنويا لمدة غير معلنة. وفي هذا السياق، أصدرت حكومة نظام الأسد أوامر للأهالي تقضي بضرورة تنظيف المنازل، قبيل انطلاق عمليات التأهيل المزمع إجراؤها مطلع الأسبوع المقبل. فيما تشير الأنباء المتداولة إلى عزم المركز الثقافي تسليم المشفى لقيادة ميليشيا الحرس الثوري، ليصبح مركزاً طبياً للميليشيات الإيرانية المتواجدة في دير الزور.
تعمل إيران على جذب السكان المحليين للانضمام للميليشيات من خلال توفير محفزات مالية واجتماعية أساسية، تشمل توزيع "بطاقات هوية" تمنح امتيازات معينة، مثل تسهيل مرورهم على الحواجز العسكرية، ورواتب تتراوح بين 70 ألفًا و200 ألف ليرة سورية، يوزعها الموظفون الماليون في مركز النصر للموارد البشرية التابع لميليشيا الحرس الثوري في حي الحرابيش في دير الزور مع سلال غذائية ربع سنوية.
يتم تكرار هذه الجهود في جميع أنحاء المنطقة؛ مدن وبلدات بأكملها مثل البوكمال والميادين ودير الزور المدينة بالإضافة إلى مدن وبلدات أخرى مثل حطلة وغيرها تغيرت شخصياتها بالكامل لتتوافق مع المعايير الثقافية الشيعية الإيرانية، ويبدو للزوار بشكل متزايد أنها تشبه المدن في إيران. إلى جانب تلك الجهود الأقل وضوحًا، تُظهر أسماء الشوارع والآثار المتغيرة أيضًا هذا الطابع المتغير. وفى هذا الصدد، استطاع الحرس الثوري الإيراني تحقيق بعضًا من هذا التغيير مستغلا الهروب الجماعي والنزوح الداخلي في جميع أنحاء المنطقة، فهؤلاء الذين اضطروا للخروج من منازلهم لم يعد يستطيعوا العودة إلى مناطقهم إلا بشروط مذلة وهو الانصياع للأسد، وهو الأمر الذي أنف أهالي دير الزور من القيام به، وعندما لم يعد هؤلاء استولى عليها الإيرانيون وجعلوها ثكنات ومستودعات أو منازل لقواد من ميليشياتهم وبخاصة تلك التي تنتمي لخارج الحدود مثل تلك الأفغانية والعراقية وغيرها. استخدمت إيران أيضًا شركاتها الرديفة أو المباشرة للاستيلاء على العقارات أو شرائها بأثمان بخسة، مستفيدة مرة أخرى من موجات النزوح الجماعي.
وبهذا يكون سليماني قد غير من الديمغرافية السياسية ولم يبقى في مناطقه سوى أولئك المؤيدين للأسد والمؤيدين ولو نظريا للمشروع الإيراني، حيث إنّ من بقي خوفا، اضطر لإخفاء مشاعره تجاه المشروع الواضح والخفي بنفس الوقت. وفي تلك الأثناء، بدأت المراقد والمراكز الثقافية الإيرانية الآن في الانتشار وتصدر المشهد وصارت تعمل جاهده على ضمان ولاء ليس هؤلاء الذين بقوا بسبب الخوف، ولكن ضمان ولاء أطفالهم الذين يكبرون الآن في مشهد ثقافي مختلف تمامًا عما نشأت فيه والديهم.
تصر إيران على التوغّل في عمق دير الزور، ومحاولة خلق انسجاماك غير متجانسة مع أهدافها وذلك في مجتمع يغلب عليه الطابع العشائري كما انّهم عرب وسنّة. ومع ذلك، ستظل دير الزور نقطة الوصل ما بين طهران، بغداد، دمشق، بيروت، أو بتعبير آخر الهلال الشيعي، وستسمر إيران في تعاطياها مع المنطقة كونها استثمار طويل الأمد في رؤية سليماني.
ومن المرجح أن يظهر فقط القليل من التباين في أو المنافسة بين القوى الأخرى الفاعلة في المنطقة - بالتحديد روسيا ونظام الأسد -حيث أنّ روسيا لا تفكّر بالتغلغل في العمق المجتمعي لدير الزور ولا يهمها ذلك، بل أن أهدافها عسكرية واقتصادية بالدرجة الأولى، كما أن قوات الأسد بلا حول ولا قوة وتسعى فقط إلى السيطرة على الأرض شبرا من هنا وشبرا من هناك.
من المسلم به أن الأطفال هم مستقبل أي مجتمع، فهم وأولياء أمورهم يتأثرون بالانهيار المجتمعي. ومن هذا المنطلق استمرت إيران في توفير بدائل جذابة للصعوبات التي يواجهها السوريين طوال عام 2021، حيث يتم مكافأة أولئك الذين ينضمون إليها بالاستقرار المالي الذي يتعذر الوصول إليه بشكل فعال، مما يشير إلى أن استراتيجيتها هذه قد تؤتي ثمارها مع هذا الجيل الجديد، رغم كونها إستراتيجية بطيئة لتغيير التركيبة الديمغرافية للمنطقة بأكملها. طالما أنّ إيران لا تزال تحافظ على أديباتها المرتكزة على فكرة تصدير الثورة التي كرّستها الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها على يد الخميني، وطالما أنها استمرت في نفس المسار الذي وضعه سليماني في دير الزور، فمن المرجح أن تنجح إيران في تحقيق مجالًا جديدًا لنفوذها في منطقة مهمة استراتيجية في سوريا.