- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
سياسة الجزائر الخارجية على مفترق طرق
يمكن للحرب الجارية في أوكرانيا التي تعيد خلط أوراق الولاءات أن تمنح البلاد فرصة للابتعاد عن روسيا والصين وإعادة بناء علاقات أكثر توازنًا مع القوى العظمى.
الولايات المتحدة: من شراكة استراتيجية إلى عدم ارتباط
تركز معظم علاقات الجزائر الخارجية المباشرة مع الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية بشكل واضح على جارتيها الشماليتين إسبانيا وفرنسا. لكن الولايات المتحدة، التي فرضت نفسها كقوة عظمى منقطعة النظير خلال العقود الثلاثة الماضية، تؤثر نوعًا ما على قرارات السياسة الخارجية لكافة الدول. فالاستثمارات الأجنبية المباشرة والمساعدات العسكرية والنفاذ إلى التكنولوجيا الأمريكية ليست سوى أدوات تستخدمها واشنطن لجذب شركائها ورسم سياستهم الخارجية. وفي الكثير من الأحيان، أصبح الحصول على هذه "الهدايا" محرك السياسة الخارجية لعدة دول، ما ساهم في توسيع رقعة المعسكر "الموالي للولايات المتحدة" بشكل تدريجي.
ولا تشكل الجزائر استثناء لهذه القاعدة على الرغم من أنها لم تكن يومًا "موالية للولايات المتحدة" صراحةً أو في صف الغرب رسميًا. فبعدما أظهرت "حيادية خاصة" خلال حقبة الحرب الباردة – حين مالت نحو التكتل الشيوعي إنما بقيت في الوقت نفسه ضمن حركة عدم الانحياز – سارت على خطى العالم الأحادي القطب ما بعد الاتحاد السوفييتي ووطدت علاقاتها مع الغرب.
ولم ينتج قرارها هذا عن تغير إيديولوجي بقدر ما ارتبط بفرص اقتصادية كانت بأمس الحاجة إليها بعد الحرب الأهلية (1991-2002). وإذ استفادت من موقعها الجيواستراتيجي ورصيدها الإقليمي كمثال للصراع الثوري ضد الحكم الاستعماري، وقدراتها العسكرية الكبيرة، نجحت الجزائر في إثبات قيمتها الجيواستراتيجية لواشنطن. وقد لعبت العاصمة الجزائرية دورًا مهمًا في توفير معلومات استخباراتية والمساعدة في عمليات مكافحة الإرهاب ضد تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، ولاحقًا "داعش"، بحيث اضطلعت بدور محوري في "الحرب على الإرهاب".
في المقابل، تنعّمت الجزائر بمساعدات مالية كثيرة ودورات تدريبية من شريكها العابر للأطلسي وبدا أن العلاقة الأمريكية-الجزائرية في طور التحسّن. غير أن دحر خطر "داعش" عام 2017 الذي ترافق مع وصول ترامب إلى السلطة ومقاربة "أمريكا أولًا" التي انتهجتها إدارته وركزت على الشركاء والخصوم التاريخيين، وضع الجزائر في موقف صعب.
وتدهورت العلاقة بوضوح عندما قرر ترامب الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية بدلًا من الاستجابة لمطالب جبهة البوليساريو، حليفة الجزائر الاستراتيجية بمهاجمة المغرب. في المقابل، وقّعت المغرب "اتفاقيات ابراهيم" معترفةً بإسرائيل التي تعتبر حليفة واشنطن الرئيسية في الشرق الأوسط. ووجه قرارا الولايات المتحدة والمغرب صفعة للأمن القومي الجزائري، كما فاقما المخاوف على صعيد سياسة البلاد الخارجية. وتزامن ذلك مع الاضطرابات الناتجة عن الحراك الشعبي عام 2019 التي أرغمت الحكومة على عدم إيلاء أولوية للسياسة الخارجية، بعدما حال رصيدها السياسي الضئيل دون استجابتها بشكل فعال لهذا الفشل الدبلوماسي بحسب معايير الجزائر.
وخلافًا لتوقعات الجزائريين بأن يبدل بايدن المسار الذي انتهجه سلفه، لم يتمّ عكس القرار ولم تتحسن العلاقات السيئة بين العاصمتين الأمريكية والجزائرية منذ العام 2020، لا بل أنها وصلت حاليًا إلى الحضيض بدون مبالغة. وقد ترافق ذلك مع توتر العلاقة مع فرنسا بسبب ماضيها الاستعماري وقطيعة في الوقت نفسه مع إسبانيا على خلفية مقاربتها الجديدة بشأن قضية الصحراء الغربية، ما جعل الجزائر في عزلة غير مسبوقة عن العالم الغربي. وقد دفعت هذه العزلة أيضًا بالجزائر إلى توطيد علاقاتها مع القوى التعديلية وتقويض علاقاتها مع الغرب، في واقع عكسه موقف العاصمة الجزائرية العقابي وتعنتها المتنامي إزاء فرنسا وإسبانيا.
روسيا والصين: ودّ وصداقة
خلال العامين الفائتين، فرح التحالف غير الرسمي الذي يجمع روسيا والصين بتقرب الجزائر منهما ردًا على ذلك، ما منح هذه الأخيرة تذكرة "للتحرر من عزلتها". وليس تاريخ هذه الروابط حديثًا بل يعود إلى عقود خلت حيث أن رابطًا قويًا جمع بين الجزائر وموسكو منذ استقلال هذه الأولى، وبنت الدولتان شراكة قوية. كما ساعدت شركة "غازبروم" الروسية شركة "سوناطراك" المملوكة من الدولة الجزائرية لزيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال من خلال مذكرة تفاهم تمّ توقيعها عام 2006.
ولا بدّ من الإشارة إلى العلاقات الأمنية الوطيدة بشكل خاص بين البلدين؛ فالجزائر تعوّل على واردات الأسلحة الروسية، فقد اشترت 81 في المئة من عتادها العسكري منها خلال السنوات الثلاث الماضية لتكون ثالث أكبر مستورد للأسلحة الروسية بعد الهند والصين. وطوال العقد الماضي (2010)، ازدادت صادرات الأسلحة الروسية بنسبة 129 في المائة بالمقارنة مع العقد الذي سبق. كذلك، حلت الجزائر في 2022 في المرتبة الثالثة كأكبر مشتر للأسلحة الروسية خلف الهند والصين. هذا ونفذ البلدان مناورات عسكرية مشتركة في مناطق متنازع عليها على غرار أوسيتيا الجنوبية في تشرين الأول/أكتوبر 2021، واتفقا على القيام بنشاط مماثل على الحدود الجزائرية-المغربية في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 – وهو اتفاق أبرم خلال الغزو الروسي لأوكرانيا.
ولم توافق العاصمة الجزائرية على المشاركة في هذه المناورة العسكرية فحسب بينما كانت روسيا تغزو أوكرانيا، بل رفض دبلوماسيوها أيضًا إدانة موسكو في الأمم المتحدة خلال آذار/مارس، على الرغم من تاريخها في احترام مبدأ سيادة الدول. ولرد هذا المعروف، قدمت روسيا لها الدعم في مسألة الصحراء الغربية – في خطوة تمّ تفسيرها على أنها وسيلة للتصدي لتحالف المغرب مع الولايات المتحدة – كما عفتها من ديونبقيمة مليارات الدولارات.
وعلى غرار العلاقات الروسية-الجزائرية، يعود تاريخ العلاقات الوطيدة مع الصين إلى حقبة الحرب الباردة، ولا سيما خلال عهد ماو تسي تونغ. ولتحقيق طموحاتها العالمية المدعومة بمبادرة "الحزام والطريق" الضخمة التي تنفذها، تقربت بكين في الآونة الأخيرة من عدة دول حول العالم من خلال تقديم اقتراحات شراكة واستثمار. وبالطبع كانت شمال أفريقيا من المناطق التي استهدفتها الصين، كما أن الجزائر مستعدة لمساعدتها على توسيع بصمتها بصفتها الشريك الذي لا غنى عنه في المنطقة.
يُذكر أنه سبق للصين أن نفذت استثمارات ضخمة في البنية التحتية في الجزائر، وازدادت التدفقات التجارية بشكل ملحوظ بين الدولتين الصديقتين منذ زمن خلال العقد الماضي. علاوةً على ذلك، يتضاعف عدد الشركات الصينية العاملة في قطاعيْ الطاقة والبناء في الجزائر، كما أن العاصمة الجزائرية شريكة في مشروع "مبادرة الحزام والطريق". وفي إطار هذا المشروع، اتفقت بكين والجزائر على مشروع بقيمة 3.3مليارات دولار لبناء أول ميناء في المياه العميقة في مدينة شرشال الساحلية، غربي العاصمة، كما سيصبح ميناء الحمدانية ثاني أكبر ميناء في المياه العميقة في أفريقيا. أخيرًا والأهم أن الصين تتحول تدريجيًا إلى مصدّر كبير للأسلحة إلى الجزائر. فمنذ العام 2018، تلقت الجزائر أو طلبت نحو 20 طائرة مسيرة استطلاعية وقتالية صينية من فئات متنوعة. وخلال 2018 على سبيل المثال، استلمت الجزائر خمس طائرات مسيرة من نوع "رينبو سي أيتش-3" وخمس أخرى من نوع "رينبو سي أيتش-4"، وفي كانون الثاني/يناير 2022، طلبت ست طائرات مسيرة صينية من نوع "رينبو سي أيتش-5" التي تشكل النسخة الأكثر تطورًا في هذه المجموعة.
باختصار، لا يُعتبر اهتمام الجزائر بعلاقاتها مع الصين وروسيا تطورًا جديدًا. غير أن تصوّر الجزائر بأن واشنطن تدعم المغرب علنًا وباستمرار وتفضّله عليها يجعلها ترتمي أكثر في أحضان روسيا والصين اللتين ترحبان بها بحرارة، وتدمر روابطها بالمعسكر الآخر. فالدولتان مسرورتان لاستغلال خيبة أمل الجزائر وشعورها بالعزلة. ومن خلال الاستفادة من روابط الحرب الباردة القديمة، بان توقهما إلى زعزعة سياسة التوازن التي تعتمدها الجزائر بينهما وبين الغرب، وجر الجزائر إلى معسكر الدول التعديلية. ويبدو أن هذه الاستراتيجية أتت ثمارها حتى الآن، فالجزائر تصبح أكثر حزمًا في علاقاتها مع الغرب، كما اتضح من الأزمة الدبلوماسية القائمة مع إسبانيا.
إعادة التوازن: الفرص والتحديات
في حين تحاول الجزائر الحدّ من عدم الاستقرار محليًا والتكيف مع المشهد الجيوسياسي المتغير، ثمة فرص وتحديات دبلوماسية لا بدّ من أخذها في الاعتبار قبل الانزلاق إلى هذا المعسكر التعديلي بسبب عدم التحرك.
بدايةً، ربما يكون غزو روسيا لأوكرانيا قد خلّف العديد من الآثار المتتالية، على غرار انعدام الأمن الغذائي، ولكنه أوجد في الوقت نفسه فرصًا للجزائر قد تساعدها في التعامل مع "تحدي العزلة" الذي واجهته مع دول الغرب خلال السنوات القليلة الماضية.
في أعقاب الغزو، أظهر الغرب تضامنًا ووحدة أكثر من أي وقت مضى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. فقد أتى الرد على عدائية بوتين موحدًا وجذريًا لدرجة بدا أن الدول الغربية تحشد قواها حول هدف مشترك ألا وهو حماية النظام الدولي الليبرالي الناشئ بعد الحرب الباردة في وجه التعديلية الحازمة لروسيا. غير أن جهات فاعلة أخرى، كالصين وإيران، اعتمدت نهج التعديلية هذا وهي تدعم روسيا، سواء صراحةً أو ضمنًا.
وخلال المسعى لمواجهة هذا التكتل التعديلي، يحتاج الغرب إلى كل حليف ممكن وعليه يمكن أن تستخدم الجزائر هذه الورقة للاستفادة من الطرفين. إنها فرصة قُدّمت إلى الجزائر على طبق من فضة لتستعيد أهميتها في نظر الولايات المتحدة مع إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع روسيا والصين وإيران في الوقت نفسه. بعبارة أخرى، يمكن للجزائر اعتماد سياسة خارجية شبيهةً بتلك التي استخدمتها الهند بنجاح، أي غير مقيّدة وغير منحازة.
فضلًا عن ذلك، تقدّم الحرب في أوكرانيا العديد من الفرص المرتبطة بالطاقة إلى الجزائر. فقد أغدقت أسعار النفط والغاز المرتفعة على الاقتصاد الجزائري المعتمد على الطاقة بإيرادات مرتفعة بعد أن عانى جراء انحدار الأسعار خلال جائحة كوفيد-19. وفي هذا السياق، كانت أوروبا قد أوضحت أنها تهدف إلى استبدال واردات النفط والغاز الروسية بواردات الغاز الطبيعي المسال والنفط الخام من شركاء آخرين، وسط التخطيط لإقامة العديد من محطات الغاز الطبيعي المسال في المرحلة القادمة.
وعليه، أمام الجزائر التي لطالما كانت دولة مصدرة للطاقة إلى أوروبا الجنوبية، فرصة زيادة المبيعات بشكل ملحوظ إلى القارة بأكملها. وبذلك، ستستفيد اقتصاديًا ودبلوماسيًا، بما أنها ستكسب أهمية في أجندة واشنطن كشريك أساسي يحقق مساعي أوروبا إلى الاستقلالية الطاقوية، وهو أمر لطالما اندرج ضمن أولويات الولايات المتحدة. في الواقع، استفادت الجزائر أساسًا من هذه الديناميكية الجديدة من خلال توقيع الكثير من اتفاقات الطاقة مع إيطاليا في نيسان/أبريل 2022. ومن شأن الاتفاق أن يجعل الجزائر أكبر مصدّر للغاز بالنسبة إلى إيطاليا، لتسلب من روسيا هذا المنصب لسنوات عدة.
وناهيك عن معالجة عزلتها في منطقة البحر المتوسط، على الجزائر ترميم روابطها مع فرنسا وإسبانيا لدعم اقتصادها الهش. فهي بحاجة ملحة وماسة إلى دخول الأسواق الأوروبية الضخمة للاستفادة من ارتفاع أسعار الطاقة ومن طموحات الغرب لوضع حدّ لشبه احتكار روسيا لصادرات الطاقة إلى أوروبا. ومن شأن هذه المسألة الأخيرة أن تعيد اهتمام واشنطن إلى المنطقة. إنها مهمة دقيقة – فعلى الجزائر أيضًا معالجة اعتماد اقتصادها المفرط على قطاع النفط وما يترتب على ذلك من تداعيات اقتصادية. وعلى غرار ضحايا "المرض الهولندي" الآخرين، ترتفع أسعار الصادرات فيما تنخفض أسعار الواردات، ما يسفر عن ضعف قطاعات أساسية أخرى في الاقتصاد.
كذلك، يرتبط التحدي الذي تواجهه الجزائر لإدارة صادرات الطاقة بالطلب المتزايد على الطاقة محليًا. وبالتالي، إنها ظروف مثالية كي تدخل سباق صادرات الطاقة بغية التعافي كليًا من الركود الاقتصادي الذي سببته الجائحة، على أن تقوم بذلك مع الأخذ في الحسبان عدد سكانها الذي يتزايد بشكل كبير كل سنة والذي سيُترجم بتنامي الطلب على الطاقة.
مع ذلك، فإن إعادة الأمور إلى طبيعتها مع الدول المجاورة الشمالية للجزائر أمر مناسب. وبغية تحقيق مثل هذا التقارب مع فرنسا وإسبانيا، على الجزائر أن تخفف من حدة الخطاب القومي الذي يسود سياستها الخارجية وتستبدله بآخر عملي وأن تركز على المزايا التي يمكن أن تحصدها عبر اتفاقات تجارة أكثر متانة مع شركاء الطاقة الأوروبيين. كذلك، لا يمكن أن تكون إذابة الجليد عن العلاقات الفرنسية/الإسبانية-الجزائرية أحادية الجانب. فمن جهتهما، على مدريد وباريس طمأنة الجزائر من خلال الامتناع عن إثارة المواضيع الجدلية والحساسة ضدها وعدم الانحياز علنًا للمغرب في مسألة الصحراء الغربية.
ففي حالة فرنسا، يبدو أن الرئاسة تدرك ذلك وتبدو مستعدة لاتخاذ الخطوات باتجاه تخفيف التوترات. وتودد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرًا من نظيره الجزائري يُظهر رغبة فرنسا للتقارب. ففي الذكرى الستين لاستقلال الجزائر، وجّه الرئيس الفرنسي رسالة إلى الرئيس تبون يدعوه فيها إلى "تعزيز الروابط الفرنسية-الجزائرية القوية أساسًا".
أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الجزائر ربما تعيش أهم لحظة في تاريخها الدبلوماسي منذ نهاية الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي. وهي تواجه تحديات ملحة من جهة وفرصًا ناتجة عن البيئة الجيوسياسية الحالية من جهة أخرى. وعلى الجزائر الإقرار بذلك وبأنه في ظل مواصلة الحرب في أوكرانيا إعادة رسم معالم العلاقات المتعددة الأطراف الأشمل، عليها أن تقرر ما إذا كانت تريد التمسك بالحياد أو الانحياز أكثر نحو المعسكر التعديلي – وهو قرار سيؤثر على مكانتها في الأنظمة الإقليمية والدولية على السواء.