- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تداعيات الانتفاضة الثانية على نظرة الإسرائيليين إلى اتفاقية أوسلو
Part of a series: Oslo at 30
or see Part 1: Oslo at 30: Personal Perspectives from Washington Institute Scholars A Compendium
إن الشعور بالعجز الذي تعمق خلال الانتفاضة، كان مصحوبًا أيضًا بالحاجة إلى إلقاء اللوم على جهة ما، وبنظر الرأي العام الإسرائيلي، كانت القيادة الفلسطينية هي المسؤول الأول.
في 28 أيلول/سبتمبر 2000، أي بعد ست سنوات فقط على توقيع اتفاقيات أوسلو، اندلعت الانتفاضة الثانية. وعلى مدى خمس سنوات، أي من عام 2000 إلى عام 2005، تعرضت إسرائيل لمئات الهجمات الإرهابية ومحاولات الهجوم، بما في ذلك عشرات التفجيرات الانتحارية في قلب مدنها، فأسفرت عن مقتل ما يقرب من 1200 مواطن إسرائيلي وإصابة آلاف آخرين. ونتج عن هذه الهجمات عودة الجيش الإسرائيلي إلى المدن الفلسطينية في المنطقة (أ) لإعادة فرض النظام وخفض معدلات الإرهاب، بعدما انسحب منها بموجب اتفاقية أوسلو. وبالنسبة إلى الإسرائيليين، أصبحت هذه السنوات حجر العثرة الرئيسي أمام عملية أوسلو التي علقت في مرحلتها الأولية لسنوات بعد التسوية سلمية التي كان من المفترض التوصل إليها.
شغلتُ مناصب مختلفة في قطاع الاستخبارات والأمن الإسرائيليين، أجريت من خلالها عشرات النقاشات المهنية والودية مع نظرائي الأمريكيين والأوروبيين. وساد في تلك النقاشات اتجاه تمثّل بالاستهانة بتأثير الانتفاضة الثانية على المجتمع الإسرائيلي وتراجع ثقة ملايين الإسرائيليين في الفلسطينيين، الموقف الذي استحال تصحيحه في فترة زمنية قصيرة، وأثّر لاحقًا في جميع محاولات التفاوض.
لقد أثّرت هذه الفترة في المجتمع الإسرائيلي على نطاق واسع، إذ يتذكر البالغون الإسرائيليون الانتفاضة الثانية على أنها الفترة التي تملّكهم فيها الخوف على أطفالهم بعد توصيلهم إلى المدرسة، إذ لم يعلموا ما إذا كانت هدفًا لانتحاري فلسطيني بعد ورود أنباء في وسائل الإعلام عن هجمات.
إن الشعور بالعجز الذي تعمق خلال الانتفاضة، كان مصحوبًا أيضًا بالحاجة إلى إلقاء اللوم على جهة ما، وبنظر الرأي العام الإسرائيلي، كانت القيادة الفلسطينية هي المسؤول الأول. فقد حصلت "منظمة التحرير الفلسطينية"، وفقًا للرأي العام الإسرائيلي، على اعتراف دولي وإسرائيلي من خلال أوسلو، لكنها اختارت توظيف أموالها وشرعيتها السياسية في سفك الدماء والإرهاب بدلًا من التنمية الاقتصادية ودعم الشعب الفلسطيني.
وفي الفترة التي سبقت الانتفاضة، لم تنجح جهود المتطرفين الإسرائيليين في عرقلة عملية أوسلو. فبعد اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين على يد إرهابي يهودي إسرائيلي عام 1995 لإيقاف عملية أوسلو، واصل شمعون بيريز مساره وتابع تطبيق اتفاقية أوسلو كرئيس وزراء فعلي حتى الانتخابات. وعندما تم انتخاب بنيامين نتنياهو عام 1996، واصل أيضًا تنفيذ اتفاقية أوسلو، بما في ذلك من خلال إعادة أراضي الخليل إلى الفلسطينيين من 17 إلى 19 كانون الثاني/يناير 1997.
وواصل أيضًا إيهود باراك، الذي انتُخب عام 1999، تطبيق اتفاقية أوسلو، واجتمع بياسر عرفات برعاية الرئيس كلينتون في قمة كامب ديفيد في تموز/يوليو 2000. ولكنها فشلت لعدة أسباب موثَّقة.
من بين تلك الأسباب قيام ياسر عرفات بإعداد استراتيجية بديلة لتشجيع العنف في الضفة الغربية، من أجل الضغط على الإسرائيليين لتقديم مزيد من التنازلات عن الأراضي.
وظهرت بوادر العنف وانعدام الثقة في عملية أوسلو لأول مرة أثناء افتتاح نفق حائط المبكى (هاكوتيل) في سبتمبر/أيلول 1996. وفي خلال أيام القتال الثلاثة، دعا ياسر عرفات الفلسطينيين إلى التصدي بعنف لهذا الإجراء الإسرائيلي. فباغت الفلسطينيون الجيش الإسرائيلي، حيث قامت الشرطة الفلسطينية، التي تم إنشاؤها من خلال عملية أوسلو، بفتح النار. وأسفر هذا الحادث عن مقتل 17 جنديًا، من بينهم كولونيل، ومقتل 59 من الفلسطينيين على الأقل، وإصابة عدد أكبر. ونتيجة لذلك، تراجع الجيش الإسرائيلي عن النهج المبدئي الأكثر ليونة الذي اعتمده تجاه الفلسطينيين وأجهزتهم الأمنية بعد أوسلو، وبات ينظر إليهم إذًا كمنافسين وليس كشركاء.
وفي الأول من يونيو/حزيران عام 2000، أي قبل حوالي أربعة أشهر من اندلاع الانتفاضة الثانية، تم تكليفي بتولي مسؤولية وقيادة ساحة مكافحة الإرهاب في فرع المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلي في عمّان. ومن موقعي هذا، اتضح لي إلى أي مدى كان العنف والإرهاب جزءًا من الاستراتيجية الفلسطينية، وخاصة استراتيجية ياسر عرفات، زعيمها في ذلك الوقت. وأدركت حينها أن الانتفاضة الثانية هي التي أعاقت عملية أوسلو والمصالحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وبعد حوالي عام من اندلاع الانتفاضة الثانية، تعرضت الولايات المتحدة لأكبر وأعنف عمل إرهابي على الإطلاق في 11 أيلول/سبتمبر 2001، أطلق الحرب العالمية على الإرهاب. ومع أن الواقعة لم تكن لها علاقة بالفلسطينيين، ولكنها أثرت بشكل كبير في عملية أوسلو. ونفذ صبر الولايات المتحدة ممن يدعمون الإرهاب، ومن بينهم السلطة الفلسطينية في ذلك الوقت.
وفي نيسان/أبريل 2002، بدأت عملية "السور الواقي" في الليلة عينها التي فجّر فيها انتحاري فلسطيني نفسه وتسبب بما سُمي "مجزرة عيد الفصح" في فندق بارك أوتيل في نتانيا، وقُتل فيها ثلاثون إسرائيليًا كانوا يحتفلون بعيد الفصح وأصيب عشرات المدنيين الآخرين. وتلقى بعد ذلك الجيش الإسرائيلي تعليمات من رئيس الوزراء شارون باستعادة السيطرة على المدن الفلسطينية والمنطقة (أ) التي كانت قد نُقلت إلى السلطة الفلسطينية قبل بضع سنوات فقط. ظل الوضع على الأرض في الضفة الغربية جامدًا في الغالب على مدى السنوات العشرين اللاحقة.
ولكن شارون قدم خطته لفك الارتباط في أعقاب الانتفاضة الثانية مباشرة. وقررت إسرائيل للمرة الأولى منذ عام 1967 إغلاق المستوطنات، وأخلتها جميعها وأجلت جنود الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة (علمًا أن هذه الخطوة تمت بشكل أحادي الجانب وليس في إطار عملية دبلوماسية دولية). لقد ساهم سقوط قطاع غزة في قبضة "حماس" عام 2007 في الموت السياسي والعملي لأوسلو، إذ تم تقسيم النظام الفلسطيني إلى كيانين فلسطينيين منفصلين، كما رسّخت هذه العملية لدى الكثير من الإسرائيليين فكرة أن التخلي عن الأرض يؤدي إلى مزيد من الإرهاب.
على مر السنين، تمكنت "حماس" باعتبارها منظمة إرهابية من بناء ترسانة ضخمة في قطاع غزة، تضم عشرات الآلاف من الصواريخ والقذائف القادرة على الوصول إلى مراكز المدن الإسرائيلية وقصف المواطنين الإسرائيليين في منازلهم. ونفّذت "حماس" جولات كثيفة من النزاعات المسلحة من خلال إطلاق النار واستخدام العنف ضد الإسرائيليين بهدف إلحاق الأذى بالمدنيين. وردًا على ذلك، أطلق الجيش الإسرائيلي عدة عمليات لقمع "حماس"، من بينها عمليات "الرصاص المصبوب" عام 2008، و"عمود السحاب" عام 2012، و"الجرف الصامد" عام 2014، و"حارس الأسوار" عام 2021 وغيرها. وبالنسبة إلى عموم الإسرائيليين، تظل غزة نقطة ضعف خطرة من دون حل.
وفي الضفة الغربية، أدى الركود والفساد اللذان تعاني منهما السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس إلى تقليص فرص التفاوض المتاحة أمام إسرائيل، وتنحية الفلسطينيين عن المشاركة في تقرير مستقبلهم. ولم تكتمل الانتخابات التشريعية لعام 2006 بعد انتخاب عباس عام 2005 وفوز "حماس" بأغلبية المقاعد. وبالتالي، ثمة جيل من الشباب غير قادر على تطوير أو إنتاج بديل للقيادة الحالية. وبالإضافة إلى ذلك، فشلت السلطة الفلسطينية في تطوير مؤسسات الحكم بعد أن أقال عباس رئيس الوزراء السابق سلام فياض. وأدى أيضًا الاعتماد الاقتصادي على إسرائيل وعلى المساهمات المالية من المجتمع الدولي إلى إعاقة أي نمو كان متصورًا خلال هذه الفترة. ومن المفارقة أن الشعب الفلسطيني أصبح أيضًا يعاني نتيجة لانتفاضة الأقصى، لأنها عرقلت تنفيذ أي إصلاحات سياسية أو اقتصادية طرحتها أوسلو.
لقد وضعت أوسلو حجر الأساس لتسوية تتعلق بالأراضي بين إسرائيل والفلسطينيين، تم تنفيذها بالكامل في غزة وجزئيًا في الضفة الغربية، إلا أنها فشلت في خلق كيانين يعيشان جنبًا إلى جنب بسلام. وعلاوة على ذلك، أصبح الكيان الفلسطيني منقسمًا إلى سلطتين. وبعيدًا عن الأبعاد المادية للصراع، فإن انهيار الآمال الأولية المعقودة على أوسلو بعد صدمة الانتفاضة، خلّف آثارًا نفسية مماثلة على المجتمعين. فبالنسبة إلى الإسرائيليين، قُتلت فكرة السلام الذي يمكن تحقيقه من خلال التنازلات عن الأراضي. وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فشلت فكرة تحقيق مكاسب سياسية من خلال المقاومة العنيفة، على الأقل في الوقت الحالي. وأفضل أمل هو أن تتوصل إسرائيل ذات يوم إلى قرار بالفصل بين الشعبين والحصول على اعتراف دولي، على عكس ما حدث في خطة فك الارتباط الأحادي الجانب مع غزة.