- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تهديد تنظيم "داعش" المستمر في العراق بعد انسحاب التحالف الدولي
فى غياب الردع النشط والمستمر، قد تتطلع قوات "داعش" إلى الاستفادة من تدهور الوضع الأمني والحكم في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرتها سابقًا.
بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في العام 2003، واجه العراق تحديات عديدة كان على رأسها تحدي إعادة بناء الدولة، إضافة لتحديات سياسية واقتصادية واجتماعية، كان هناك حاجة لمعالجاتها من اجل تعزيز الهوية الوطنية، واحتواء التقسيمات الاجتماعية والمناطقية المشحونة بمعية سلوك النظام السابق والتي غدت تشهد ذروة التفاعل مع الغزو الأمريكي للعراق. فضلاً عن ذلك مَثَل الإرهاب تحدي نوعي نافس التحديات الأخرى وتصدرها من خلال موجتين أفرزتا الاقتتال الطائفي لاحقاً، ليتحول العراق بذلك إلى قِبلة للجماعات الإسلامية المتطرفة والجماعات المسلحة التي برزت لمحاربة الوجود الأميركي وتقويض العملية الديمقراطية الجاري بنائها.
الآن، أكد مسؤولون في حكومة السوداني في بغداد أن المفاوضات مع الجانب الأميركي قد انطلقت في شباط/فبراير الماضي ومن بين ما اشترطه الأميركيون ضمان عدم عودة التنظيم مرة أخرى. ومع ذلك، يناقش البعض التحديات التي سيطرحها ذلك الانسحاب أمام القوات العراقية، بما في ذلك التحدي الأمني والعسكري المفروضان عليها لمواجهة التنظيم، ويخطأ البعض هنا عندما يعتقد أن التحدي الوحيد أمام التطرف هو التحدي العسكري فقط، متجاهلين الآلية التي نشأ بها التنظيم في المقام الأول، وهي العامل الاجتماعي المتمثل بالمظالم الناتجة عن التوترات بين المكونات الرئيسة في المجتمع العراقي. والآن وبعد هزيمة التنظيم عسكرياً مرة أخرى وتدمير شبكاته في المدن بشكل شبه كامل، ما زال التنظيم متغلغلاً في المناطق الريفية الصحراوية والتي تشكل حاضنة وجوده الرئيسة. وفى غياب الردع النشط والمستمر، قد تتطلع هذه القوات إلى الاستفادة من تدهور الوضع الأمني والحكم في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرتها سابقًا.
العراق يستعين بالقوات الأجنبية: تاريخ موجز للحاجة والمأزق.
بعد الغزو الأميركي للعراق والإطاحة بنظام صدام حسين وإعلان الرئيس جورج بوش انتهاء العمليات القتالية، بدأت العمليات المسلحة ضد القوات الأميركية تنشط تحت عنوان مقاومة الاحتلال والتي ما لبثت أن تحولت وبشكل خاطف لجماعات جهادية تعتنق عقيدة سلفية لم تشهد وجوداً ملموساً في البنية الاجتماعية العراقية ما قبل 2003، وقد تمثل أوجها بجماعة الزرقاوي التي شهدت تحولات عديدة على مستوى التنظيم والمنهج حتى أفرزت ما عرف حينها بتنظيم "دولة العراق الإسلامية" أحد امتدادات القاعدة وأيدولوجيتها المتطرفة.
وبدا حينها أن ما صرح به الرئيس بوش لم يكن من الحقيقية بشيء، وبدأت القوات الأمريكية بمساعدة الوحدات العراقية المشَكلة حديثاً وعلى رأسها وحدات العمليات الخاصة "CTS" بمتابعة الزرقاوي وتنظيمه واستهدافهما حتى مقتله في 2006. ولقد شكلت القوات الأمريكية حينها بالتعاون مع القبائل في بغداد والأنبار وعدد من المناطق ذات الغالبية السنية ما عرف بالصحوات وتولت تدريبها وتمويلها، والتي تمكنت بمساعدة القوات الأميركية من الإجهاز عسكرياً وأمنياً على تنظيم الدولة ودفعته نحو الصحراء، بعد وعود أميركية لتلك التشكيلات بدمجها في القوات الأمنية الرسمية، لينتهي بعد ذلك الفصل الأول من التعاون الأمريكي-العراقي المباشر في المجالات العسكرية والأمنية في كانون الأول/ديسمبر 2011.
بعد الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011 ومع تراجع قدرات القوات الأمنية العراقية، استغل تنظيم "داعش" هذه الفترة لإعادة بناء بقدراته. وفي الوقت عينه، أدى تسييس القيادة العسكرية إلى استبدال القادة الأكفاء بأفراد أكثر ولاءً، مما أدى إلى انخفاض القدرات القتالية والروح المعنوية بشكل عام. ومن الناحية العملية، أدت المساحة التي وفرها الانسحاب الأميركي الأول من العراق للجماعات المتطرفة، إلى حدوث انهيار أمني بعد هجوم تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل عام 2014، مما سمح للتنظيم بالسيطرة على أجزاء كبيرة من العراق.
دفعت المكاسب الإقليمية التي حققها تنظيم "داعش" الرئيس باراك أوباما إلى تشكيل تحالف دولي يضم 87 دولة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وعادت أثر ذلك القوات الأجنبية وعلى رأسها القوات الأمريكية إلى العراق وقد عُرفت العملية باسم "قوة المهام المشتركة- عملية العزم الصلب" CJTF-OIR وقد ذكر مستشار الأمن القومي في العراق، السيد قاسم الأعرجي أن الحكومة احتاجت إلى قوات صديقة لمساعدتها في حربها على التنظيم "الذي بات يشكل خطراً داهم البلاد ككل". كما قدمت الولايات المتحدة عبر التحالف الدولي المعونة العسكرية التي اشتملت على المعدات والآليات العسكرية، واعتمدت بشكل مباشر على جهاز مكافحة الإرهاب والقوات الأمنية المستعدة للعمل مع الأمريكيين، وساعدت الحكومة العراقية على اتخاذ خطوات واسعة لإعادة هيكلة القوات الأمنية العراقية ومحاربة الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان بالتعاون مع رئيس الوزراء آنذاك حيدر العبادي، كما مولت بعض الوحدات والتشكيلات والبرامج عبر عدة برامج وقوانين أدارتها الولايات المتحدة بنفسها.
وبحلول العام 2017 تمكنت القوات العراقية بمساعدة التحالف الدولي من هزيمة التنظيم عسكرياً ، ومع تراجع خطر التطرف مرة أخرى، بدأت الدعوات من بعض القوى السياسية لإخراج القوات الأجنبية على رأسها القوات الأميركية من العراق عبر تصويت في جلسة لمجلس النواب العراقي لم يكتمل نصابها القانوني، تحولت القوات الأجنبية من المهام القتالية في كانون الأول/ديسمبر من العام 2021 إلى أداء مهام غير قتالية اشتملت على التدريب وتقديم المشورة والمساعدة في الجوانب الاستخبارية، وفي إيجاز لقائد عملية العزم الصلب، شدد الجنرال ماثيو ماكفارلين في أب/أغسطس من العام الماضي على الدور الذي تلعبه قوات التحالف ومحدوديته بقوله " تمثل العمليات العسكرية المفتاح الرئيس لهزيمة التنظيم ونحن نركز جهودنا على الناحية الأمنية والعسكرية".
عادت المطالبات بخروج القوات الأجنبية وعلى رأسها القوات الأميركية من العراق عام 2023 وأديرت تلك المطالبات بخروج القوات الأجنبية كسابقتها من قبل مجموعة من الأحزاب السياسية التي استهدفت عبر مجموعاتها المسلحة المدعومة من الخارج القواعد الأميركية وقوافل الدعم اللوجستي عبر الطائرات المسيرة وصواريخ الكاتيوشا والعبوات الناسفة على جوانب الطرق.
معالجة خطر حدوث فراغ
ورغم التطور الذي شهدته القوات العراقية وأصبحت أكثر قدرة على مواجهة أي عودة للتنظيم، إلا أن انسحاب الأميركيين سيخلف فراغاً في المناطق الوسطى والشمالية ستسعى الجماعات المسلحة المدعومة من الخارج لملئه وهو ما سيسفر لاحقاً عن انتهاكات تعيد للذاكرة سيناريو ما قبل 2014 من تمرد للمكون السني وتصدر التنظيم لما اسماه "قضية حماية أهل السنة" والتي كانت مدخلاً مهماً له في الحرب الأهلية السورية فضلاً عن العراق. أن انسحاب القوات الأميركية لا يجب أن يتم بشكل سريع دون تحديد شكل التعاون الأمني المستقبلي والدائم مع الولايات المتحدة. وعلى وجه الخصوص، سيطرح الانسحاب تساؤلات حول إمكانية تحويل مهام التحالف وخاصة بما يتعلق بالاستخبارات والمراقبة والاستطلاع ISR إلى بعثة الناتو في العراق، أم سيطالب العراق لاحقاً بإنهاء بعثة الناتو كذلك؟ وكانت هناك أراء ترى أن الناتو لن يصمد إذا انسحبت القوات الأميركية وسيتعين عليه المغادرة من الناحية اللوجستية، كما أن قادة الأحزاب المناوئة للوجود الأميركي سيطلبون من الناتو الانسحاب كذلك.
ومع ذلك، فإن المخاوف أوسع من مجرد القضايا الأمنية. فالمكون السني في العراق عالق بين الانسحاب الذاتي والتعبئة، كما أن سوء الإدارة السياسية وضعف الحكم، قد أدى بالضرورة لنشوء حيز من المظالم بحق بعض المكونات الشريكة في المجتمع، وهذا الحيز بحد ذاته يمثل محرك رئيس للصراع لا سيما إن أهملت الحكومة ذلك وساهمت من حيث تشعر أو لا تشعر بنموه مهيئة بذلك أرضية خصبة للعناصر المتطرفة لاستغلال هذه المظالم لتحقيق مأربها.
بعد الانسحاب الأميركي من العراق في 2011، واجهت الكيانات السياسية السنية المشاركة في مكافحة الإرهاب اتهامات بالترويج لسردية أنهم "ضحايا"، حيث استغلت الجماعات المتطرفة تآكل الدعم الذي تحظى به هذه القوات واستفادت من الممارسات الخاطئة للحكومة في بغداد المتمثلة بوقائع الاعتقالات العشوائية وانتهاكات حقوق الإنسان، لجذب الشباب المحبطين نحو التطرف. وقد لاقت قوات الصحوات التي حاربت تنظيم الدولة مع القوات الحكومية والقوات الأميركية المصير ذاته من الملاحقات والتصفية والاعتقالات بعد أن تلقت وعوداً لم تتحقق- بدمجها مع القوات الحكومية.
علاوة على ذلك، لم يكن هذا التحول مدفوعا بأي عوامل حتمية أو جوهرية
في المجتمع السني العراقي، فرغم الموجة الإسلامية التي بدأت في تسعينيات القرن الماضي والتي نتجت عنها تيارات لحركات سلفية وتنظيمات سرية ونشر لشرائط عبد الله عزام ونشوء تنظيم أنصار الإسلام في شمال العراق، إلا أن العراق لم يكن يوماً تربة خصبة للعقيدة السلفية ولم يكن أيضاً ذا هوية إسلامية ومع ذلك وفي خلال سنتين برز إلى الساحة العراقية أشرس تنظيم متطرف عرفه التاريخ، حيث لم يكن التنظيم بحاجة إلى بيئة عقدية بقدر حاجته وسعيه إلى تأجيج الصراع الطائفي الذي كرسته بعض الممارسات الحكومية في بغداد، وعملاً بإستراتيجية إدارة التوحش الذي قدمها أبو بكر ناجي، فإن التنظيم استغل المظالم السنية في سوريا والعراق وعمل على تقديم نفسه بصورة المخلص للمكون السني.
ووفقاً لذلك فإن العديد من الشباب العراقي الذي التحق بصفوف التنظيم لم يكن سلفياً ولا حتى متديناً في بعض الأحيان، بل كان دافعه الثأر والانتقام للانتهاكات التي وقعت بحقه في ظل سوء الإدارة. وكانت نتيجة ذلك وبعد تمرد سني كبير فشلت الحكومة في بغداد من احتوائه أن عاد تنظيم الدولة ليسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية، ولاقى ترحيباً بجهالة من بعض أبناء ذلك المكون.
وهناك تخوف من أن يعيد التاريخ نفسه نظراً للوضع الحالي للحكم العراقي، حيث تشير القراءات الحالية للأوضاع في المناطق ذات الغالبية السنية أن أجواء ما قبل 2013 من انتهاكات وممارسات تعسفية قد عادت للواجهة على يد مجموعات مسلحة مدعومة من الخارج، وقد أشار المصدر (رفض الإفصاح عن اسمه) أن الأوضاع الأمنية في محافظة ديالى مقلقة جداً وأن الدولة غير قادرة على حماية المدنيين، وتنشط في ديالى تجارة المخدرات التي تحميها مجموعات مسلحة مدعومة من الخارج. ولا تختلف الأوضاع في الأنبار وصلاح الدين وبعض نواحي محافظة نينوى عن ذلك.
ورغم المظالم الاجتماعية الكبيرة والممارسات غير القانونية التي يتعرضون لها، فإن بعض المكونات، لاسيما المكون السني، ترفض تقبل تنظيم الدولة كبديل للظلم الذي يتعرضون له. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن المكونات الأخرى في هذه المجتمعات ستتطلع إلى الجهات الخارجية لحمايتها عندما تتلاشى ثقتها في الدولة، وتدفع كلا الجانبين نحو الصراع. فالانسحاب الأمريكي من العراق سيعزز انتشار المجموعات المسلحة وسيؤدى إلى اتساع دائرة الانتهاكات. كما سيحاول تنظيم "داعش" المستفيد من الانسحاب الأميركي، استغلال هذا الوضع أيضا.
مسألة قدرات قوات الأمن على المدى الطويل
بعد الدعوات لانسحاب القوات الأجنبية وإنهاء مهمة التحالف طلبت الولايات المتحدة من الحكومة العراقية الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، ضمانات أولاً على عدم عودة التنظيم مرة أخرى وثانياً على جاهزية القوات العراقية. ورغم ذلك شهدت تراجعاً في الفترة بين 2018-2020 في ظل حكومة مناوئة للوجود الأميركي لتعود الأمور تسير نحو التقدم، ولكن ببطيء مرة أخرى في عهد مصطفى الكاظمي، وقد تراجعت عمليات تنظيم الدولة بشكل كبير بعد هزيمته المعلنة في 2017 وتحول من تنظيم مركزي مكون من شبكات عنقودية إلى خلايا لا مركزية تعمل وفقاً لإستراتيجية التخفي التي يتبعها.
ولقد تراجعت الضربات الجوية التي يشنها التحالف الدولي على أهداف وتمركزات التنظيم إلى أدنى مستوى منذ تشكيله وتوقفت الأعمال القتالية في ديسمبر من 2021، إلا أن التنظيم لا يزال متواجداً في عدد كبير من المناطق العراقية ولا يزال يشكل تهديداً خلافاً لما صرح به مسؤولون عراقيون بأن الأولوية اليوم هي لمكافحة المخدرات.
يدرك المراقبون للقوات العراقية أن المشكلة ليست في استعدادها الآني للإبقاء على الهزيمة الدائمة لتنظيم الدولة، بل في قدرتها وعلى المدى الطويل أن تبقى مستعدة بما فيه الكفاية إذ ما انقطعت المساعدة الأميركية عنها. لقد تم تطوير القوات العراقية بعد العام 2003 بشكل كبير بالتعاون مع القوات الأميركية واكتسبت بعض الخبرة في مكافحة التمرد والمداهمات ومكافحة الإرهاب، ولا سيما "جهاز مكافحة الإرهاب" الذي أشرفت عليه القيادة الأمريكية. إلا أن انسحاب القوات الأميركية من العراق في 2011، ونتيجة للآلية الأميركية للتدخل في حالات الطوارئ وتجنب إقامة تعاون أمني دائم مع القوات العراقية، تركت القوات العراقية عرضة للتجاذبات السياسية والطائفية التي أفقدتها قدرتها القتالية وأورثتها التراجع في البرامج التدريبية والتخبط في انتشار القطاعات العسكرية، وبالنتيجة تسيد الكوادر ذات الولاءات السياسية والطائفية على حساب الكوادر المهنية فيها. وهو ما أفسح هذا الوضع المجال لتنظيم الدولة المتطرف أن يعيد هيكلة نفسه وتنظيم قواته وإعادة بناء جهوده مستغلاً التوتر السياسي والصراع الطائفي، الأمر الذي قاد في النهاية إلى الهزيمة العسكرية للقوات العراقية أمام التنظيم المتطرف في العام 2013.
جوهر الوضع: ما يهم أكثر
على الرغم من الهزيمة التي لحقت بالتنظيم المتطرف في العراق وسوريا والتطور الأمني الذي شهدته الساحة في ملاحقته وتصفية قادته إلا أن الإرث الأيدولوجيا للتنظيم لم يتبدد لهذه اللحظة ولاتزال خلاياه تعمل بشكل لا مركزي لاسيما في المناطق (صلاح الدين، الأنبار، ديالى، حزام بغداد) ومنطقة الجزيرة ، ولا زال مقاتليه في السجون يدينون له بالولاء المطلق، ولازالت عملياته مستمرة بوتيرة متباينة في مناطق عدة، وبهذا الصدد يشير الجنرال ماثيو ماكفارلين قائد عملية العزم الصلب في أب/ أغسطس ٢٠٢٣ إلى ذلك بقوله أن التهديد لا يزال قائماً وأيدولوجية داعش الشريرة لا تزال قائمة وتبقى إعادة الظهور احتمالاً ، فيما يعتقد مسؤولون في الحكومة العراقية بأن التنظيم لم يعد يشكل التهديد الذي شكله منذ عقد مضى، وان احتمالية عودته مستبعدة.
وبعد معركة التنظيم الأخيرة في الباغوز وبيعة الموت التي أعلنها مقاتلوه في 2019 انتهى الجيل الأول من الجهاديين الذين قادوا التنظيم في مراحله الأولى في العراق وسوريا ومعظم من بقي منهم على قيد الحياة نقل إلى السجون في الشمال السوري، ونتيجة لذلك فقد تراجع التنظيم بشكل كبير على مستويات عديدة ولم يعد قادراً على تأمين قياداته من ضربات التحالف الدولي، ناهيك عن بوادر الانشقاق الداخلي بما يتعلق بأحقية القيادة العراقية للتنظيم والتي عبرت عن نفسها في التأخر الذي صاحب الإعلان عن زعيم التنظيم الأخير أبو حفص الهاشمي.
وفي محاولة لإعادة بناء نفسه، شن التنظيم هجوماً على سجن غويران في الحسكة الذي يتواجد فيه أخطر مقاتليه ولاسيما القيادات في محاولة لإخراجهم شبيهاً بما حصل في الهجوم الذي شنه تنظيم الدولة على سجن أبو غريب في العراق في عملية أطلق عليها "هدم الأسوار" من العام 2013.
أسفرت عن هروب ما يزيد عن 500 عنصر من عناصر التنظيم بما فيهم قياديين كانوا لاحقاً الأساس الذي قام عليه تنظيم الدولة وشن هجومه الأكبر في العام الذي يليه. وعلى الرغم من فشل الهجوم على سجن غويران في تحقيق مآربه إلا أن التنظيم يحتاج بشدة لمقاتليه لإعادة بناء جهوده، وان أولويته الأولى ستكون لم الشمل مع عوائلهم في مخيم الهول والروج ومن ثم صحراء الأنبار ليعيدوا تشكيل الصفوف.
ويكمن التحدي الأكبر في مواجهة تنظيم في معالجة العقيدة والأفكار والأيدولوجيا المتطرفة التي أمست إرثاً خلفه التنظيم، كما أن المظالم الاجتماعية التي سبق وأشرنا إليها قادت للعنف المسلح وفسحت المجال للمتطرفين لاستغلالها وشوهت الهوية الوطنية الجامعة ووقفت حائط صد أمامها. واقعاً لم يتقدم العراق اليوم في مجال محاربة أيدولوجية التنظيم ولا يوجد حديث عن وضع استراتيجية واضحة لتبني المحور العلاجي والابتعاد عن حلول المقاربات الأمنية بينما يبدو أن القوات الأميركية وعلى الرغم من انتهاء مهامها القتالية، هي التي تخنق نفس التنظيم العسكري. كما يتواجد التنظيم في البيئة الصحراوية والريفية والتي لا زال إرثه قائماً فيها بشكل أو بآخر، وتلعب عوامل متعددة كالبطالة والتخلف وضعف الخدمات الصحية والتعليمية والجهل بالمفاهيم الإسلامية وطبيعة البداوة القاسية دوراً مهماً في تعزيز تلك الأيدولوجيا والتسليم لذلك الإرث.
إن من جملة التحديات التي يجب على الحكومة في بغداد التعامل معها هو مخيم الهول ومخيم الروج في الشمال السوري اللذان يشكلان قنبلة موقوتة وحاضنة للجيل القادم من الجهاديين ، حيث يتواجد داخل هذه المخيمات عوائل التنظيم المتطرف، ويُنشئ التنظيم أطفاله ويربيهم وفق مبادئه المتطرفة، وبينما يقطن الآلاف من عناصر التنظيم في الجانب السوري دون محاكمات، صدرت العديد من أحكام الإعدام بحق عناصر التنظيم في العراق ولكن الأحكام لم تنفذ إلا بشكل محدود، ووفقاً لمصدر أمني مطلع فإن زعيم تنظيم الدولة متواجد داخل العراق مما يثير التساؤلات حول مخططات التنظيم في المرحلة القادمة.
سيحاول التنظيم مرة أخرى الاستفادة من "قضية حماية أهل السنة" في العراق، ويعكس المشهد العراقي كما سبق وأشرنا توترات سياسية تنعكس بدورها على فرص تنمية الصراع المحدود ومشاعر الكراهية. وعلى هذا النحو، فإن رد فعل المكون السني على التوترات والانتهاكات السياسية، التي تفاقمت بسبب الانسحاب الأمريكي، يجب أن يمثل مصدر قلق رئيسي، حيث إن خروج القوات الأجنبية من البلاد في الوقت الحالي سينهي جهود ضمان الهزيمة العسكرية المستدامة للتنظيم، ويعيد للواجهة مخاطر عودته وربما حتى وجوده المسلح ويجر على البلاد الويلات ناهيك عما قد يسفر عنه الانسحاب من عقوبات اقتصادية أميركية نتيجة لعلاقات غير سليمة مع دول الجوار.