- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تحليل سياسات سيناريو "الأردن الكبير"؛ المسوغات والفرص والمخاطر
عاد الحديث حول سيناريوهات إعادة ترسيم خرائط المنطقة، ومنها سيناريو "الأردن الكبير" إلى التداول في الأوساط السياسية العربية والغربية بعد الإخفاقات المتتالية للحل السياسي في سوريا، وظهور مؤشرات على انهيار العملية السياسية في العراق؛ وهو ما عزّز وجهة نظر مسؤولين من عدّة دول قالوا بأنه لم يعد بالإمكان الاحتفاظ بالعراق وسوريا مُوحّدين، وأن حالة الفوضى والصراع في المنطقة تقتضي طرح خيارات جديدة لإحداث توازنات إقليمية، أو إيجاد مخارج للأزمات التي وصلت إلى أفق مسدود. وبموازاة الحديث عن "الأردن الكبير"، عادت إلى السطح مرّة أخرى أطروحة "الكونفدرالية" بين الأردن والضفة الغربية - التي تم نبذها في الماضي كرؤية فاشلة لاتفاقية "سايكس بيكو"- وأصبحت محل اهتمام الفاعلين الدوليين الذين يبحثون عن حلول لمواجهة حالة عدم الاستقرار في بلاد الشام، واستمرار حالة الانقسام الفلسطيني، وتنامي احتمالات انهيار "السلطة الوطنية الفلسطينية".
وقد نفت الأردن رسمياً، وجود أيّة نوايا للتوسُّع الجغرافي على حساب دول الجوار، نظراً لأن هذا الخيار يضع القيادة الهاشمية في عدة إشكالات فنية معقدة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومع ذلك، فإن مزيداً من التكامل، إن لم يكن الاستيعاب التام، سيكون له مبرراته ويمكن مناقشته لاسيما في ظل عدم وجود بدائل قابلة للتطبيق.
يُعبّر سيناريو "الأردن الكبير" عن تفكير استراتيجي عميق ومتراكم، يُعززه شعور عام بأن إخفاق نموذج الدولة وحالة التفسُّخ في الهوية الوطنية في العراق وسوريا سيجرّ المنطقة إلى فوضى طويلة الأمد؛ فقد أثبتت التجربة العملية في العراق بأن أشكال الوحدة الممكنة، والتوافق على قاعدة "المُحاصصة" لم تعد حلولاً مُجدية. وليس الحال بأفضل من ذلك على الجانب الفلسطيني؛ فحالة الانقسام مستمرة. وفي ظل الأزمات التي تفتك بسلطة الرئيس محمود عبّاس، لا مبالغة في القول بأن انهياراً وشيكاً لهذه السلطة أصبح غير مستبعَدٍ، إن لم يكن مُتوقّعاً.
ويسود انطباع في الشرق الأوسط بأن فكرة توسُّع الدّور الأردني هي محل ترحيب أمريكي وإسرائيلي، وذلك على اعتبار أن الأحداث الحاصلة في المنطقة تُشكِّل فرصة جيواستراتيجية مهمة لضمان أمن مستدام لإسرائيل، وأن "الأردن الكبير" يُمثّل أحد الخيارات الممكنة لتحقيق هذا الأمن. وعلاوة على ذلك، فإن مخطط الأردن الكبير يقدم بديلاً أكثر ملاءمة من خطة "الوطن البديل" التي تتبناها دوائر بعينها في إسرائيل، والتي تلزم الأردن بتحمل المسؤولية لإعادة توطين فلسطينيي الشتات داخل حدودها.
كما يُنظَرُ إلى التشكيل الجديد للمنطقة باعتباره مخرجاً للإدارة الأمريكية القادمة والتي يمكن أن تقوم بإعادة تشكيل الشرق الأوسط كوسيلة للخروج من الأزمة الراهنة التي تمر بها البلاد. وقد يُعتبر مشروع "الأردن الكبير" مريحاً لروسيا أيضاً، لتناسقه مع التزاماتها الأمنية تجاه إسرائيل، وعدم تعارضه مع المصالح الاستراتيجية الروسية.
وليس مُستبعداً أن تقبل بعض الدول العربية وبعض دول الخليج بمثل هذا الخيار لاحتواء الاختراقات الإيرانية، ومنع إيران من تفعيل المزايا الجيواستراتيجية لبوّابتي الأنبار ودرعا، أو إحداث تغييرات ديموغرافية عميقة ومستدامة في هذه المناطق. كما تخشى الدول العربية من أنّ استمرار الوضع الراهن سيؤدي إلى تحوُّل مناطق جنوب سوريا وغرب العراق إلى بؤر لإنتاج المخاطر الأمنية بشتّى أنواعها، ومن ثم تسرُّبها إلى الأردن وشبه الجزيرة العربية.
ويُعتَبر الأردن نموذجاً للدولة الناجحة إدارياً على الرغم من التحديات الكبيرة التي تُواجه استقراراه، ويُسهم التعريف الهوياتي الفضفاض، والجغرافيا الأردنية المُتغيرة تاريخياً، وطبيعة الإرث التاريخي الهاشمي ذي الجذور الممتدّة إلى "سوريا الكبرى" والعراق، في تسويغ الفكرة، كما يُعدّ نموذج الاعتدال والبراغماتية الهاشمي أحد عناصر قوّة السيناريو.
أما على المستوى المحلي في هذه الأقاليم، فقد أدى الافتقار إلى سلطة سياسية أو قيادات فاعلة تُنظِّم العمل بداخلها إلى تحوُّل الأردن إلى عاصمة لمعظم فعالياتها، فالمُكوّن السكاني والعشائري في جنوب سوريا وغرب العراق منسجم إلى حد بعيد، وممتد داخل الأردن. وتبدو الإدارة الأردنية لمسرح الحدث واضحة في جنوب سوريا، إذْ تُراعي جميع الأطراف حالياً الخطوط الحمر الأردنية. وقد نجحت تجربة الأردن مع المكونات العسكرية في جنوب سوريا أكثر من تجربة تركيا وقطر في شمالها، حيث تمّ عزل ومحاصرة القوى المتطرفة في الجنوب.
أما في غرب العراق، فالمكون العسكري يرتبط مباشرة بمجلس العشائر الذي يرتبط بدوره بعلاقات سياسية وتنسيقية جيدة مع الأردن. وعلى الرغم من أن الوجود الأردني يخضع لحسابات معقدة، لكنّ مساعي الأردن لتحقيق الأهداف السياسية والأمنية تتمّ مزاوجتها مع تأمين قدر من الحماية والرعاية للسكان المحليين. ومن ناحية أخرى، أن استقرار الأردن ليس مضموناً، وقد حذر عدد من المحللين الإقليميين من صعوبة الحفاظ على الاستقرار في الأردن ضمن حدودها الحالية، فالموارد الطبيعية الحالية غير مستدامة وتتطلب نهج جديد وغير تقليدي لمعالجة الاقتصاد الأردني والبنية التحتية.
ويشعر الأردنيون أيضاً بالقلق على أمن بلادهم، فحدود الأردن الممتدة مع سوريا والعراق تضع استقرار البلد نفسه في خطر. وهناك شكوك حول قدرة الاقتصاد الأردني على تحمل الأعباء المتزايدة لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين. وعلى الرغم من تراجع الدعم الدولي للأردن، لا تزال البلاد تفتح حدودها للاجئين، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات من داخل البلاد وخارجها. فمن خلال توسيع التنسيق الأمني في سوريا، حاولت الأردن في حدود قدراتها، توفير خيارات آمنة للسوريين داخل بلدهم من خلال التنسيق مع القوات المحلية، وهو ما يعد حلاً أفضل من عمليات التفتيش الأمنية الحالية التي خلفت الآلاف من اللاجئين الذين تقطعت بهم السبل في صحراء سوريا.
وفي مقابل هذه المسوغات ينطوي سيناريو مشروع "الأردن الكبير" على مخاطر ومحاذير كثيرة؛ إذ يحتوي هذا المشروع على الكثير من المخاطر والذي قدر ترفضه القوى الإقليمية المؤثرة مثل إيران وتركيا. وعمليّاً، يتطلّب مثل هذا الطرح مستوى من المغامرة لا يتناسب مع واقعية السياسة الخارجية الأردنية، ويتعارض مع رغبة العاهل الأردني في منع تورُّط الأردن في مشكلات دول الجوار، كما يتنافى مع هشاشة الوضع الداخلي الأردني في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة. وبشكل عام، إن أي تغييرات في الديناميات الإقليمية قد يفتح المجال أمام جماعات المصالح المختلفة لاستغلال هذا السيناريو لترويج مصالحهم الخاصة.
ونتيجة لذلك، وعلى عكس ما يراه المحللون الإقليميون، أظهرت النخبة السياسية الأردنية والحكومة اهتماماً ضئيلاً بفكرة التوسع، حيث يخشون أن يؤدي التمدُّد الجغرافي إلى تعرُّض البلد إلى مخاطر وجودية تنشأ عن انتقال الفوضى إلى داخل حدوده، وأن يُحفّز هذا المشروع عدّة قوى إقليمية لاستهداف الأردن والعائلة الهاشمية.
وتطرح النخبة الأردنية الحالية مخاوف ترتبط بالهوية، ويخشون من ذوبان الأردن في محيطه الديموغرافي. وعلى الرغم من ارتباط سكان جنوب سوريا وغرب العراق اجتماعياً ومذهبياً بالأردن، لكن الإشكالية تكمن بتفكيك علاقتهم مع سوريا والعراق، حيث يرتبط جزء كبير منهم بالمنظومة الاقتصادية لبلدانهم، ولا يُمكن في الظرف الراهن التنبُّؤ بكيفية تجاوبهم مع فكرة الانفكاك عن بلدانهم الحالية. ومن الواضح أن الاهتمام الإقليمي المتجدد بسيناريو "الأردن الكبير" يحركه انعدام البدائل وذلك في خضم صراع إقليمي يستعصي على الحل. وباستثناء بعض الفصائل الكردية، لا توجد تصريحات علنية من جانب أطراف النزاع المحليّين في سوريا والعراق تؤشر على صياغة واقع جديد في البلدين رغم إدراك الجميع بعدم جدوى استمرار الوضع الراهن. ومن ثم، فإن غياب وجود قوة إقليمية مؤثرة، قد يحوّل جنوب سوريا، وشمال العراق وربما فلسطين إلى أراض ينعدم فيها القانون، وهو ما يشكل تهديداً حقيقياً للأردن ومحيطه.
وعلى الرغم من تلك المصاعب ستحتاج الأردن إلى بسط نفوذها السياسي والاقتصادي والأمني داخل المنطقة، وذلك لتفادي هذا الاحتمال. فالأردن هي واحدة من عدد قليل من الكيانات التي يمكنها أن تملأ فراغ القوى في الإقليم لحين تبلوُر حلول ومقاربات سلميّة تُرضي جميع أطراف النّزاع، وذلك من خلال تشبيك المصالح الاقتصادية لهذه الأقاليم مع السوق الأردنية، وتسهيل الحركة عبر المنافذ الحدودية، وميناء العقبة، والمطارات الأردنية، مع هذه الأقاليم إلى دول الخليج العربية. وذلك بالتوازي مع تشجيع الأردن على القيام بدور أكبر في مواجهة المخاطر الأمنية والتنظيمات الإرهابية في عمق هذه الأقاليم.
وإذا كان "الأردن الكبير" أفضل الخيارات السيّئة الممكنة أمام صُنّاع القرار في المنطقة والعالم، فإنّ تبنّيه يستلزم تهيئة الهياكل والشروط المناسبة لإنجاحه مع الإبقاء على الخيارات الأخرى (لمواجهة الإرهاب، والفوضى الإقليمية) قائمةً؛ لأنّ نجاح مثل هذا الخيار يتطلّب مرحلةً طويلةً ومُعقّدةً من الإنضاج والتمهيد تتكيف مع التغيرات السريعة والمتواترة في منطقة الشرق الأوسط.
د. محمد الزغول هو باحث أقدم في "وحدة الدراسات الإيرانية" في "مركز الإمارات للسياسات". وقد نُشرت هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"