تعليق على مقال حسن إسميك «دفاعاً [عن] تجديد الخطاب الديني»
الجدل قائم في الوسط الفكري العربي، وما يتعداه إلى مختلف الأوساط التي للدين الإسلامي حضور بارز فيها، بين ثلاثة أطراف. أولها يرى وجوب تجديد الخطاب الديني، إنطلاقاً من اعتبارات موضوعية، ولا سيما درءاً للتطرف والإرهاب، ثانيها يعتبر أن في دعوة التجديد كلام حق يراد به باطل، إذ تأتي من الخارج بإهداف لا تقتصر على المعلن، بل ربما الغاية منها الإمعان بتفتيت الأمة وتثبيط عزيمتها، وثالثها يتوقف عند أن الدعوة فاسدة ابتداءاً، حيث أن الدين كامل مكتمل، لا يحتاج إلى تجديد وإصلاح، بل العوز هو في أتباع هذا الدين، وما عليهم من ترك المعاصي والتزام الطاعات. يقدّم حسن إسميك في مقاله مجموعة من المبادئ والاعتبارات التي تدعم وجهة النظر الداعية إلى التجديد، ويلتزم فيها التعقل والوسطية والاعتدال، ويستفيض تحديداً في تفنيد وجهات النظر الرافضة للتجديد على أنه مطلب خارجي. ربما أن ما طرحه حسن إسميك هو تعبير عن رأي واسع الانتشار في الأوساط المسلمة، والتي يتوق جلّها إلى الصيغة التي من شأنها التوفيق بين التعليمات الدينية وبين قناعاته الأخلاقية وممارساته الاجتماعية، والقائمة على التسامح والاحترام المتبادل للاختلاف، والمبنية على إدراك ضمني لقيم الحياة والحرية والكرامة، بما ينسجم مع المعايير العالمية، والتي جرى تدوينها في شرعة حقوق الإنسان وغيرها من النصوص والاتفاقيات. لا يمكن بالتالي إلا تأييد حسن إسميك في اندفاعه، سيما وأنه يرسم الإطار العام للتوجه الذي يدعو إليه بلغة تخلو من الصدام وتدعو إلى الحوار والتوافق والعمل البناء.
غير أنه ثمة أسئلة تتطلب التوقف عندها، حول ما إذا كان تجديد الخطاب الديني ممكناً، وما إذا كان ضرورياً، وما إذا كان الإسراع في دفعه يؤدي إلى نتائج عكسية. فبإمكان الطرح البديل أن يشير استقرائياً إلى أن الشكل العام للإسلام في القرن الحادي والعشرين، إذ هو وليد تطورات شهدها القرنان الماضيان، يزداد ابتعاداً عن إمكانية التجديد بالمعنى الإصلاحي، وذلك لاعتبارات بنيوية وعقائدية. ليس في هذا القول أي حكم أو اتهام للإسلام ككل بأي قصور، حيث أن القراءات الدينية، للإسلام وغيره من الأديان كما يشير إسميك صائباً، وهي عديدة وفق الزمان والمكان، تختلف من حيث الشدة والسماحة، ومن حيث ما هي كفيلة بتأطيره ودعمه من التوجهات. المسألة هي أن مواضيع البحث والخلاف بين التوجهات الإسلامية المتعددة تلتزم باتفاق ضمني، وفي العديد من الحالات خارج الإدراك المباشر، حول مسلمات، كثير منها مستجد في مضمونه وإن لم يكن في مصطلحه، تساهم بدفع العالم المعرفي الإسلامي إلى الانغلاق وتمنع عنه إمكانية التجديد، إلا بالمعنى الضيق للتخلي عن ممارسة ما أو اعتماد أخرى، أي بالفروع. أعمق هذه المسلمات أثراً، وأخطرها، هو التضخيم المفرط لموقع الدين في حياة المسلم. فيكاد أن يكون من المتفق عليه دون نزاع بين أصحاب الطروحات الدينية في المحيط العربي والعديد من الدول الإسلامية أنه للدين مكانة أولية، رئيسية، بل في العديد من الأحيان متفردة في النسيج النفسي، الاجتماعي، الأخلاقي، السلوكي، المعرفي للإنسان والمجتمع في هذه الدول. بل يكاد أن يكون من الردة طرح الموضوع. أي أن أعلوية الدين ليس فقط من المسلمات بل هي أيضاً من المحظورات.
وذلك في حين أن المراجعة الوقائعية لأحوال المسلمين على اختلاف الزمان والمكان تكشف تفاوتاً متكرراً في هذا الشأن، يبقى معه للدين في الغالبية العظمى من الحالات مكانة هامة، ولكنها ليست الوحيدة، وليست دوماً الأولى. ومن نتائج الإفراط بإبراز الدين تضييق المجال أمام ما عداه من الضرورات، ولا سيما العلم النظري والتطبيقي المنتج. حتى أنه مع تراجع مساهمة العالم الإسلامي بالبحث العلمي، بالمعنى العام، فإن كلمة «عالم» في المكنز العربي تكاد أن تقتصر من حيث الشيوع والاستعمال على علماء الدين، والذين يفرطون غالباً دون المقتضى من التأني والتواضع في الدلو بدولهم في مواضيع علمية، بالمعنى العام. هل الأرض كروية أو مسطحّة؟ القولان متساويان لدى بعض رجال الدين، حيث أن النص يحتملهما. الأمثلة تتكرر. غالباً ما يجنح البعض، سعياً للتبرؤ من تهمة التخلف العلمي، إلى إلقاء اللوم على «السلفية» وتحميلها مسؤولية انغلاق العالم المعرفي الإسلامي.
الاتجاه هو بالتالي نحو الإلتفات إلى الصوفية وغيرها من القراءات التي تستهدفها السلفية بجموح، كمنافذ يمكن من خلالها إعادة فتح الإسلام على الفضاء المعرفي العالمي، ويجري هنا مثلاً استدعاء أقطاب التصوف التاريخيين، من الذين نالوا التقدير خارج الحيز الإسلامي، مثل ابن عربي وجلال الدين رومي وغيرهما، لتعزيز إمكانية أن تكون العودة إلى روحانية الصوفية وسيلة للتصدي للتسطيح المصاحب للسلفية. غير أنه في استدعاء هؤلاء الأقطاب خلط زماني وموضوعي، حيث أن الصوفية، في صيغتها المعاصرة، كما السلفية، هي قراءة، بل مجموعة قراءات، مبنية على الأوضاع الحالية لمجموع متغيراتها، وليست إعادة إصدار مطابق للمراحل السابقة. بل إن صوفية اليوم تكاد أن لا تختلف من حيث ضيق فضائها المعرفي عن السلفية. هل يمكن الاستعانة بابن عربي ورومي وغيرهما لإعادة إنتاج روحانية إسلامية حديثة؟ ربما، ولكنها لن تكون صوفية اليوم، ولا تصوف الأمس، بل صيغة جديدة قائمة على تأصيل ذاتي يعلن التواصل مع هذه أو تلك. وهي اليوم ليست هنا.
وما يجب التشديد عليه، في أي حال، هو أن أفول نجم التصوف في العديد من الحواضر الإسلامية لم يكن نتيجة للسلفية، وإن استأسدت هذه في السعي إلى اجتثاث غريمتها، بل جاء نتيجة عوامل داخل الإطار الصوفي، ولا سيما انتقال السلوك من الرياضة الروحية الخاصة إلى الشعائر العامة، وخارجه، وخاصة استقطاب الحداثة للعديد من المتماهين مع الصوفية، وذلك على مدى العقود والقرون الماضية. أي أن الصوفية استجابت لمطلب وغابت عن آخر، وتخلت عمّا قد يعتبره بعض دعاة الإصلاح من الأوجه المطلوبة.
الطرح هنا هو أن تفاعل الإسلام بالحداثة، أي بفكر «الأنوار» القادم من الغرب قد أنتج بالفعل أشكال إسلامية حداثية متعددة، غير أن الأكثر قابلية للاستمرار والديمومة منها هي الأشكال الميّالة إلى التشدد. مجدداً، المسألة ليست عائدة إلى الإسلام كمضمون وتراث، بل إلى الظرف التاريخي والفكري في القرنين الماضيين. قد يكون الجانب الذي عانى فيه الفكر الإسلامي في المرحلة القريبة من فداحة في التقصير والقصور، إذ هو أقدم على مواجهة الحداثة واستيعابها، هو في غياب مساءلته لأصول المعرفة والاستعاضة عنها بمراجعة، يراد منها أحياناً أن تكون انقلابية، للنصوص في متونها وسندها، مع تحصين قطعي للنص القرآني ولحدث التنزيل. بل حين حاول نصر حامد أبو زيد مثلاً ملامسة هذا الحاجز، وإن بكفوف مخملية، جرى ضربه بيد من حديد، تكفيراً وتطليقاً وترحيلاً. النتيجة هي أن الحد الأقصى المحتمل اليوم لـ «الفكر النقدي» هو «القرآنية» الطاعنة بالحديث، مع مقادير من الحماس التعويضي للنص القرآني، ما يضاعف حماية هذا النص من أية مساءلة قد يقتضيها النظر بأصول المعرفة.
إغلاق العالم المعرفي الإسلامي عن المساءلة الإپستمولوجية، أي المتعلقة بأصول المعرفة، يقصر اعتماد المضمون الإسلامي على النقل، ويحدّ من مادته المنتجة خارج إطار الفقه، بل يحكم على هذا الفقه بأن يكون قياسياً ومسقوفاً. وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى نظرياً ومفرطاً في الدقة ليرتقي إلى الأهمية المقصودة بالدعوة إلى التجديد. ولكن، لا، ليس كذلك.
فحين اعتدت جماعة «الدولة الإسلامية» على مواطنين عراقيين من الطائفة اليزيدية، قتلت رجالهم وسبت نساءهم وأطفالهم، وجعلت من شاباتهم جواري وملك يمين، يُغتصبن ويتجار بهن، عجز رجال الدين المسلمين برمّتهم عن الارتقاء إلى الموقف المطلوب. الإنسان المسلم، في عمّان وبيروت ولندن وجاكرتا والرباط وغيرها، أراد من علماء دينه، والذين يقدرّهم ويعوّل عليهم، أن يعلنوا أن هذه الشناعات ليست من دينه، المغروس بعمق قلبه وروحه. لم يفعلوا.
هم قالوا أنها فاسدة لأنها تضرّ بالإسلام، أو أن الأصلح تركها كما تركها السلف المباشر. ووصف بعضهم من أقدم عليها بالخوارج والضالين والمضللين وغير ذلك من النعوت، لخروجه عن أولي الأمر أو لتجاوزات في العقيدة والسلوك. لم يقف أي من علماء المسلمين ليقول قتل الأبرياء حرام، والسبي حرام، والاغتصاب حرام، والإتجار بالبشر حرام، سواء كانت الضحية على دين الإسلام أو غيره.
هنا جوهر المسألة. ليس أن علماء المسلمين ضعفاء نفوس أو أخلاق، حاشاهم، بل أن الأشكال الغالبة للإسلام اليوم، في تثبيت اعتمادها على النص، تعيقهم عن تلبية مطلب المسلم التواق إلى تبين التوافق بين دينه وقيمه، وتترك هذا المسلم في خيار حرج بين دين يؤكد المتشددين من أتباعه أن دم الكافر فيه مباح، وعرضه مباح، وماله مباح، وبين قناعته النفسية، والتي أمست تفتقد التأكيد، إذ تصرّ على أن الإسلام هو دين مكارم الأخلاق.
قضية اليزيديين تكشف أن المؤسسة الدينية الإسلامية عاجزة اليوم عن التجديد المطلوب. فقبل أن تتمكن من الاستجابة للمطلب العام بأن تبين التوافق بين أشكال الإسلام المعاش، بأخلاقيته وتسامحه، والشكل المرجعي للإسلام في القرن الحادي والعشرين، لا مفر لها من مراجعة وتصويب وتصحيح وتعديل لمسارها الذي أودى إلى اختزال أصول المعرفة المعتمدة لديها إلى مادة نصية وحسب، مع إمعان في تشذيبها، وإلى تقليص عالمها المعرفي إلى ما يبنى على الموروث النصي.
التاريخ الإسلامي حافل بالمراجعات المماثلة والتي شهدت انتقالاً في الأشكال المعتمدة من صيغة إلى أخرى. والمؤسسة الدينية الإسلامية اليوم تواجه تحديات عديدة تلزمها بهذه المراجعة. غير أن الأمر ليس مجرد قرار فوقي صادر عن هيئة ذات صلاحيات رسمية أو توصيات شكلية من مؤتمر ما، أو إشهار عنوان جديد للإطار المرتقب، على أهمية كافة هذه الخطوات، بل السعي، على مدى سنين أو حتى عقود، من خلال البحث والحوار، إلى نقد ما كان وتأصيل المطلوب، في قراءات وطروحات متواجهة ومتصاعدة ضمن المؤسسة العلمائية أو الإطار الفكري، بعيداً عن التوظيف السياسي ودون حرق للمراحل. وحيث أن الوضع القائم اليوم في العالم الإسلامي حرج يتطلب العناية الفورية، فقد يرى البعض بأن التأني هو من الكماليات. هو ليس كذلك، بل هو ضرورة حتمية في حال جرى تجاهلها كانت النتيجة عكسية.
ذلك أن الخروج بصيغة دينية متوافقة ظاهراً مع القيم الإنسانية، إنما مفتقدة للتأصيل الصادق، من شأنه على أي حال أن يحقق لها الاستقطاب، نظراً لتوق العديد من المسلمين إلى تلقفها. إنما هذا الاستقطاب سوف يكون آنياً وحسب، إذ تبقى الصيغة التوفيقية عرضة للتفنيد من جانب الرافضين للتوفيق. وبما أن إصدار هذه الصيغة بحد ذاته هو إقرار بحاجة القيم الإنسانية إلى التأطير الديني، فإن ما يبقى من إصدار الصيغة المعتلة هو تثبيت المرجعية الدينية وتأكيد أعلويتها، ولكن دون المضمون المنسجم مع القيم والحقوق الإنسانية، ما يفسح المجال أمام المزيد من التشدد.
لا ينفي كل هذا بتاتاً دعوة إسميك إلى تجديد الخطاب الديني، ولكنه يدعو إلى التروي في توقع أن تتحقق هذه الدعوة في القريب العاجل، فيما الضرورة ماسة إلى الإصلاح الفكري لاستنهاض الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري في المحيط العربي وسائر العالم الإسلامي. بل إن هذا التأخير من شأنه، إيجابياً، أن يكشف واقع أنه لا حاجة ولا صحة لاعتماد أبوية من المؤسسة الدينية تجاه المجتمع.
دون شك، تبقى المؤسسات الدينية، الإسلامية والمسيحية وغيرها، أساساً هاماً كمرجعية شعائرية وسلوكية وإيمانية وأخلاقية لمن يعتمد عليها. على أن القرن الماضي قد أبرز وثبّت مرجعيات أخرى، اجتماعية وأهلية ومدنية ورسمية، تشكّل في مجموعها، مع المرجعيات الدينية، إطاراً وطنياً جامعاً يندرج بدوره ضمن نظام عالمي من القيم المشتركة والحقوق المعتبرة، يمكن التعويل على كلّه، وإن تأخر أداء بعضه.
فالمواطن على الغالب يدرك بحدسه، إن كان مؤمناً، أن تأخر رجال الدين عن تحريم القتل والسبي والاستعباد والاغتصاب هو لعلّة بالمنهج لا بالدين. وهو هنا، رغم تحفظه عن التعبير، يدرك أنه متقدم على المؤسسة الدينية. والمواطن، حيثما كان إيمانه، يستفيد من فطرته السليمة ليقرر أن هذه الشناعات من القبيح وليست من الحسن، وأنها من حيث الرؤية الاجتماعية من المنكر وليست من المعروف، ومن حيث الفعل والقانون من الممنوع المستوجب للعقاب. أي أن المواطنين، من خلال العمل المدني، قادرون على ترسيم معالم إطار مشترك من القيم الأخلاقية والقيود، وإن بقيت مساهمة المؤسسة الدينية مرتبكة.
ففي السجال الدائر بين الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، والتحفظ عن هذا التجديد خشية مسايرة مصلحة خارجية، أو رفضه للقناعة بانعدام الحاجة إليه، لا بد إضافة فريق رابع، وهو القائل أن مسألة التجديد، على دسامتها، ليست الهم الأول في السعي إلى تأهيل المجتمع والوطن لمواجهة التحديات القادمة، بل المطلوب أولاً معاونة المواطن في سعيه إلى تفعيل حسّه النقدي المنتج، إزاء المرجعيات العديدة كافة، وهي القائمة لخدمته لا لادعاء الأبوية إزاءه، وصولاً إلى تمكين الفرد والجماعة والوطن.
فتجديد النقد الديني هو حاجة للمؤسسة الدينية قبل أن يكون حاجة للمواطن. من شأنه يوم يتحقق أن يحافظ لهذه المؤسسة على مكانتها ضمن مجموعة المرجعيات الوطنية. على أن شرط هذا التجديد أن يكون تحققه صادقاً أميناً بعيداً عن الارتجال والتسرع المؤدي إلى النتائج العكسية.