- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تنامي النفوذ الصيني في مصر: الدلائل والعواقب
يمتد النفوذ الصيني في مصر إلى ما وراء المجال الاقتصادي، ويشكل تهديدات خطيرة لمصالح مصر الأمنية وعلاقاتها مع الولايات المتحدة.
لم تكن وساطة بكين الأخيرة بين المملكة العربية السعودية وإيران، مجرد تحرك عشوائي، بل يبدو أن العملاق الصيني يستعد بهدوء لخطوته المقبلة في الشرق الأوسط، لتعزيز نفوذه. والحقيقة أن تنامي النفوذ الصيني في مصر، صار امرا لا تخطئة العين، سواء كان ذلك على المستوى الحكومي أو حتى الشعبي. وفي هذا السياق، أظهرت نتائج استطلاع الراي الذي اجراه معهد واشنطن، مؤخرا، عن أن غالبية المصريين يرون العلاقات مع الصين أهم من العلاقات مع الولايات المتحدة، واللافت أن هذه النتائج تناغمت مع نتائج دراسة سابقة اجراها المركز المصري لبحوث الرأي العام «بصيرة» في 2015، حيث جاءت الصين، كأكثر الدول غير العربية صداقة لمصر، فيما حلت إسرائيل وبعدها الولايات المتحدة، كأكثر الدول عداوة لمصر في نظر العينة التي تم استطلاع رايها.
تاريخيا تعد العلاقات بين القاهرة وبكين، قوية وعميقة، فمصر خلال حكم الرئيس عبد الناصر كانت أول دولة عربية وإفريقية لها علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية في عام 1956، كما قدمت الصين لمصر مساعدات مالية كبيرة لمواجهة تداعيات العدوان الثلاثي من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر خلال أزمة السويس 1952، وبالمثل، كان البلدان لاعبان رئيسيان في حركة عدم الانحياز، التي نشأت كثقل موازن لانقسامات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وبالرغم من اختلاف الأنظمة السياسية في مصر خلال النصف قرن الماضي، إلا أن العلاقات مع بكين كانت دائما على راس أولويات السياسة الخارجية المصرية، حتى بعد انتخاب جماعة الإخوان المسلمين ووصولهم للسلطة في عام 2012، وفيما قام الرئيس المصري وقتها محمد مرسي بزيارة للصين، بعد أشهر قليلة من توليه منصبه، تكرر نفس الامر مع الرئيس السيسي.
ومع تولي الرئيس الصيني شي جين بينغ السلطة، وإطلاق الصين مبادرة الحزام والطريق، تطورت العلاقات بشكل مطرد. وفي عام 2014، وقع البلدان "اتفاقية شراكة استراتيجية"، واعدة بالتعاون في مجالات الدفاع، والتكنولوجيا، والاقتصاد، ومكافحة الإرهاب، ومكافحة الجرائم الإلكترونية. كما قام الرئيس شي جين بينغ بزيارة مصر في 2016 ووقع البلدان 21 صفقة، بما في ذلك استثمارات صينية بقيمة 15 مليار دولار في مشاريع مختلفة.
في الفترة ما بين عامي 2017 -2022، تدفقت الاستثمارات الصينية بمقدار 317% مقابل انخفاض في الاستثمارات الأمريكية عن نفس الفترة بمقدار 31%.وفي هذا السياق، كشفت بيانات البنك المركزي المصري، عن استحواذ الصين على من النصيب الأكبر من واردات مصر بنسبة 10.1٪ بمبلغ يناهز ملياري دولار، خلال السنة المالية المنهية، في الوقت الذي جاءت فيه الولايات المتحدة كرابع دولة تستورد مصر منها سلع وبضائع بنسبة 6.2 ٪ بمبلغ يقترب من مليار و200 مليون دولار، فيما حلت الصين كثاني اكبر شريك تجاري لمصر خلال نفس الفترة بعد الإمارات العربية المتحدة ثم جاءت الولايات المتحدة في المركز الثالث.
ويبدو أن مشروعات البنية التحتية ومشروعات التشييد والبناء في المدن الجديدة تستحوذ أكثر من غيرها على اهتمام المستثمرين الصينيين في مصر، ويعد أشهر تلك المشروعات مشروع انشاء البرج الايقوني في العاصمة الادارية الجديدة والذي تبلغ تكلفته حوالي 3 مليارات دولار بتنفيذ من الشركة الصينية العامة للهندسة المعمارية. ووفقا للسفير الصيني بالقاهرة "كثيف النشاط" "لياو لي تشانج"، فان مبادرة الحزام والطريق الصينية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بـ رؤية مصر 2030.
وشهدت الفترة من 2017-2022 نمو غير مسبوق في التبادل التجاري بين مصر والصين بشكل لم يسبق له مثيل، إذ تضاعفت الواردات المصرية من الصين من قرابة 8 مليار دولار عام 2017 لـ 14.4 مليار دولار في 2022 وكذلك بالنسبة للصادرات والتي كانت حوالي 693 مليون دولار في 2017 لتصل 1.8 مليار دولار في العام الماضي.
وفي شهر أذار/ مارس الماضي كشفت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عن ارتفاع نسبة الصادرات المصرية من الصين خلال الـ11 شهر الأولى من عام 2022 بنسبة قدرها 20.8 %. لترتفع قيمة التبادل التجاري بين البلدين لتصل إلى 14.9 مليار دولار خلال الفترة المذكورة، مقابل 14.5 مليار دولار خلال نفس الفترة من 2021 بنسبة ارتفاع قدرها 2.6 %. وعادة ما تستحوذ الآلات والأجهزة الكهربائية والمراجل والادوات الالية على النصيب الأكبر من حجم الصادرات الصينية إلى مصر، ثم تأتي بعد ذلك المنتجات الكيميائية والعضوية والسيارات والجرارات والدراجات والحديد والصلب، ومصنوعات الحديد، والصلب، والأقمشة.
ونتيجة لذلك، صارت الصين الشريك التجاري الأكبر لمصر لآخر ثمان سنوات متوالية، واستحوذت مصر على حوالي 28.5 مليار دولار من الاستثمارات الصينية بين عامي 2018 و2019، مما جعلها أكبر متلقي للاستثمارات الصينية في المنطقة العربية.
القوة الناعمة الصينية
خلال الفترة الأخيرة، لم يعد التوغل الصيني في مصر مقتصرا على مشروعات التشييد والبناء فحسب، بل اتسع ليشمل حتى المناحي الثقافية، وهو ما يؤكد على ان الخطط الصينية في مصر ليست مقتصرة على الجوانب الاقتصادية كما يشاع، وتحولت العديد من المنابر الإعلامية، لاسيما الحكومية منها إلى ابواق دعاية للحزب الشيوعي الصيني، وفي الوقت الذي تتعمد فيه بعض وسائل الإعلام إعادة انتاج المواد الخاصة بانتهاكات الولايات المتحدة الحقوقية في جوانتانامو أو أبوغريب، اصبح الحديث عن انتهاكات الصين ضد الأقلية المسلمة الإيغور، امرا منسيا. وفيما تتجنب القاهرة التعليق بشكل مباشر على أي قضية لها علاقة بالإيغور، قامت السلطات الأمنية خلال وقت سابق بالقبض على عدد من طلبة الإيغور بمصر، وسط مناشدات حقوقية دولية بعدم تسليمهم إلى السلطات الصينية. وفى ما يتعلق بموقف مصر تجاه قضية تايوان ، اكد الرئيس المصري ووسائل الإعلام الحكومية مرارًا وتكرارًا على أن سياسة مصر نحو الصين لا تتغير، حيث صرح في كلمته امام طلبة الكلية الحربية أن: "مصر تؤيد سياسة" الصين الواحدة "لأنها تصب في مصلحة الأمن والاستقرار العالميين".
ومؤخرا، اتسع النشاط الصيني لاستقطاب القيادات والكوادر المصرية الشابة و الناشئة وهذا على عدة محاور بداية من تنفيذ مجموعة كبيرة من برامج تدريب وتأهيل القيادات الحكومية والتنفيذية، وطبقا لوزارة التعاون الدولي المصرية قامت الوزارة في عام 2021 بالتعاون مع الجانب الصيني، ممثل في وزارة التجارة الصينية، بتنظيم ما يقرب من ٥٥ برنامجًا تدريبيًا افتراضيًا لبناء القدرات في مجالات الصحة والتعليم الفني والتجارة الإلكترونية والزراعة وتكنولوجيا الري الحديث، وتخطيط المدن والتحول الأخضر، كما نسقت وزارة التعاون الدولي عدد من البرامج للحصول على الماجستير والدكتوراه خلال العام الماضي من الجامعات والمؤسسات التعليمية الصينية، و في السنوات الأربعة السابقة، تم تنفيذ أكثر من ١١٠٠ برنامج تدريبي بالتعاون مع الصين، استفاد منها ٤٠٠٠ مسؤول حكومي.
كما مدت الصين شبكة واسعة من العلاقات مع الأحزاب السياسية المصرية وتعقد السفارة الصينية في مصر لقاءات وفعاليات مع الأحزاب المصرية بشكل دوري لتعزيز التعاون بينها وبين الحزب الشيوعي الصيني، واللافت أن هذه اللقاءات لا تقتصر على الأحزاب الاشتراكية او اليسارية، بل على كافة الاطياف السياسية تقريبا، كما تقوم دائرة العلاقات الخارجية بالحزب الشيوعي الصيني بالتواصل وتنظيم لقاءات وفعاليات مع السياسيين المصريين والسماح لهم بلقاء نظرائهم الصينين. كما يقوم السفير الصيني بالقاهرة بكتابة مقالات بصورة دورية في الصحف المصرية واسعة الانتشار وهي ما تعد قنوات شديدة الفعالية لنشر دعاية الحزب الشيوعي الصيني، وترسيخ راي عام إيجابي تجاه الصين ومناوئ للولايات المتحدة والغرب بشكل عام.
يعد انشاء معهد كونفوشيوس بجامعة القاهرة عام 2007، أحد أدوات القوة الناعمة الروسية، حيث إنشاء بموجب اتفاقية بين جامعتي القاهرة وبكين لتعليم اللغة الصينية بين الدارسين المصريين ومشاركة الثقافة الصينية. مؤخرا، تم الإعلان عن اختيار مديرة معهد «كونفوشيوس القاهرة» ضمن أفضل مدراء معاهد كونفوشيوس على مستوى العالم من بين 500 فرع و٣٦٠٠ مدير أجنبي للمعهد على مستوى العالم.
وفي الوقت نفسه نجحت البروباجندا الصينية في طمس الحقائق الموضوعية، وعمدت إلى تشتيت انتباه المصريين بعيدا، بنظريات المؤامرة المتعددة حول دور الولايات المتحدة وإسرائيل لمساندة اثيوبيا في مشروع سد النهضة -أكبر التحديات المائية في تاريخ مصر الحديث- بهدف اخضاعها، في الوقت الذي يتم تجاهل فيه دور بكين دورا النشط لدعم مشروع سد النهضة الإثيوبي وغيره من السدود على منابع النيل. بل ويتم تجاهل حقائق قيام الصين بتقديم 1.2 مليار دولار لبناء خطوط النقل الكهربائي من السد للمدن الإثيوبية كما قامت الصين بمنح 1.8 مليار دولار إضافيين لأثيوبيا للتوسع في الطاقة المتجددة (الطاقة الكهرومائية) وبجانب التمويل فان الشركات الصينية مثل ساينو هايدرو، وغيرها لعبت بدور رئيسي في عمليات انشاء السد. ومع ذلك، فإن هذه الحقائق غائبة بشكل ملحوظ عن الإعلام المصري.
وفي قطاع الاتصالات، استقبلت مصر شركتي Hikvision ،Dahua، المثيرتين للجدل حيث رصد تقرير أخير حول انتشار كاميرات شبكات المراقبة في العالم التي تستخدم معدات هاتين الشركتيين، اللتان تم اتهامهما بتشكيل مخاطر كبيرة تتعلق بالخصوصية والأمن للمواطنين في جميع أنحاء العالم بسبب صلاتهم بالحزب الشيوعي الصيني. وفي الوقت الذي تستحوذ فيه فيتنام والولايات المتحدة على نصيب الأسد من تلك الكاميرات، وجاءت مصر في المركز الـ 54 من حيث عدد شبكات المراقبة التي تستخدم معدات Hikvision و Dahua بمجموع قدره 25،000 شبكة، كما أن الغالبية العظمى من أجهزة الراوتر المستخدمة في مصر بأنواعها هي صناعة صينية، فيما تقدم المصرية للاتصالات لعملائها أجهزة راوتر ومودم USB وراوتر 4G، جميعها صينية الصنع وتحديدا من صنع شركتي ZTE وهواوي.
ربما تكون الحجة المصرية الجاهزة، بأن المصالح العليا البلاد يجب أن تستند إلى التوازن لاسيما مع القوى الكبرى، استنادا إلى التجربة التاريخية المصرية حيث استفادت البلاد ايما استفادة ابان فترة الحرب الباردة، استفادت البلاد من موقفها "عدم الانحياز" بين الشرق والغرب. وعلى الرغم من أن هذه الحجة تبدو منطقية من الوهلة الأولى، لا سيما بالنظر إلى عدم اتخاذ واشنطن قرارًا بشأن التزاماتها وعلاقاتها في الشرق الأوسط، إلا انه ينبغي على مصر أن تكون على دراية بالمخاطر الكامنة وراء شراكتها مع الصين. بيد أن نوايا الصين في مصر تبدو خبيثة أكثر من اللازم، وبالإضافة إلى تحركاتها في ملف سد النهضة فأن نشاطها المشبوه للسيطرة على الفضاء السيبراني في مصر يبدو حتى محل قلق للقاهرة. ومن ثم، يجب أن تكون مصر على اطلاع بكافة هذه المخاطر المحتملة، التي قد تنتج عن الاعتمادية المفرطة على الصين وأثرها على علاقات مصر الخارجية الأخرى. كما أن النفوذ الصيني في مصر قد يهدد مصالح الولايات المتحدة على المدى البعيد، ويهدد استثماراتها هناك، كما سيفتح بابا واسعا لتعزيز النفوذ الصيني في المنطقة برمتها عبر القاهرة، ويحد من قدرة مصر على التحوط ضد النفوذ الصيني.
ولطالما انتقدت واشنطن وحلفائها الغربيين، الموقف المائع لمصر في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، ومن المرجح أن تتبنى مصر نفس الموقف في حال اقدمت الصين على غزو تايوان، الامر الذي قد يساعد في تقويض الحملة الدولية للدفاع عن الجزيرة، وسبق واكد الرئيس المصري في اغسطس الماضي على دعم القاهرة لسياسة "الصين الواحدة"، الامر الذي يعني ضمنيا تبعية تايوان إلى بكين، وبالرغم أن التركيز الأمريكي يركز حاليا على الدفاع عن المصالح الامريكية امام صعود الصين سواء في اسيا أو في المحيط الهادئ، في مقابل الانسحاب الأمريكي التدريجي من الشرق الأوسط، إلا أن الصين قد تفتح جبهة جديدة على الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وعلى واشنطن أن تستعد جيدا لمثل هذا الاحتمال.
وفي الوقت الذي برزت فيه مخاوف حقيقية حول خصوصية الافراد وامنهم الإلكتروني بسبب اتساع التكنولوجيا الإلكترونية الصينية، حول العالم، يبدو أن شركات تكنولوجيا الصينية ترسخ اقدامها في مصر شيء فشيء، الامر الذي قد يؤثر على الامن القومي المصري ومن ثم الأمريكي في مرحلة لاحقة، وقد حث المسؤولون الأمريكيون الشركات المصرية، خلال وقت سابق على الامتناع عن إجراء أعمال تجارية مع الشركات الصينية التي تستخدم تكنولوجيا الـ 5G، مشيرين إلى المخاطر المحتملة على خصوصية البيانات وأمنها.
وخلاصة القول، أن مصر تمتلك، اهم موقع جغرافي في الشرق الأوسط، حيث تتوسط قارات افريقيا وأوروبا واسيا، وتقع في قلب مبادرة الحزام والطريق الصينية، كما تمتلك اهم ممر بحري في العالم ( قناة السويس) وبالنظر إلى مكانتها في العالم العربي والإسلامي والافريقي وعلاقاتها المتميزة والممتدة تاريخيا بأغلب دول العالم، فأن الشراكة الاستراتيجية بين مصر وبكين، من المؤكد انها ستعزز من موقف الصين في مواجهة الولايات المتحدة، وقد تهدد الاستثمارات الصينية المتنامية في مصر المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة هناك خلال العقد المقبل. مما لا شك فيه أن قيام شراكة استراتيجية أخرى بين مصر وبكين ستؤثر في نهاية المطاف سلبًا على علاقة مصر الخاصة بالولايات المتحدة.