- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تسلّح "حماس" أمرٌ لا مفر منه
تستخدم حماس الأنقاض والذخائر غير المنفجرة التي خلفتها الضربات الإسرائيلية لإعادة تسليح نفسهاـ ومن ثم، هناك حاجة ماسة الى طرح أفكار جديدة وجريئة تساهم في توقف العنف الدائر وإعادة التسلح.
بغض النظر عن رغبة الإسرائيليين والمجتمع الدولي والعرب وحتى بعض الفلسطينيين في رؤية "حماس" تتخلى عن أسلحتها، سوف تواصل الحركة سعيها إلى الاستحواذ على المزيد من الصواريخ والمزيد من الأنفاق. لذلك فإن ربط إعادة إعمار غزة وازدهارها على المدى الطويل بنزع السلاح هو خطأ متكرر فشل مرةً بعد مرة في تحقيق الاستقرار في القطاع وتفادي المواجهات مع الجيش الإسرائيلي.
14 حزيران/يونيو 2021 - أحمد فؤاد الخطيب
من بين الصور التي انتشرت على نطاق واسع للدمار والأضرار في غزة نتيجة الجولة الأخيرة من القصف الإسرائيلي، تُظهر عدة صور مشهدًا غير بعيد عن المألوف في القطاع، وهو وجود قنابل كبيرة غير منفجرة ألقتها في الغالب طائرات مقاتلة إسرائيلية، وبعض القذائف المدفعية. ومن أجل تحمّل قساوة الظروف، يتعامل بعض الفلسطينيين في القطاع الضيق مع هذه القنابل كهدايا تذكارية مؤقتة، أو يلتقطون معها صورًا ساخرة، أو حتى يرسمون أعمالاً فنية على القنابل الكبيرة. لكن في نهاية المطاف، تصل طواقمٌ من إدارة إطفاء غزة بالرافعات والأدوات البدائية لجمع هذه الذخائر والتخلص منها خارج المراكز السكانية المزدحمة.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أنه بمجرد جمع هذه الذخائر، ستصل فرقٌ من "كتائب القسام" – وهي الجناح العسكري لحركة "حماس" - إلى مختلف المواقع التي يتم فيها تخزين الذخائر غير المنفجرة، وستأخذ كميات كبيرة منها إلى ورش العمل لإعادة تدوير المواد المتفجرة داخلها. وسوف تُستخدم المواد الخام لاحقًا لصنع مواد الدفع الصاروخي والرؤوس الحربية المتفجرة للصواريخ. ويقدَّر وجود آلاف الأرطال من هذه المواد التي خلّفتها العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في مختلف أنحاء القطاع، وهي جاهزة للاستخدام من قبل التنظيم نفسه الذي استهدفته، تمهيدًا لهجمات مستقبلية ضد الكيان نفسه الذي استخدمها في المقام الأول.
بالإضافة إلى ذلك، خلّف تدمير الأبراج السكنية الكبيرة والمنازل والطرقات ومختلف البنى التحتية المستهدفة الكثير من المواد التي تستطيع "كتائب القسام" إعادة تدويرها، كالأسلاك الكهربائية والأنابيب والصفائح المعدنية وقضبان التسليح الفولاذية والخرسانة المنهارة، وهي كلها مواد يمكن للكتائب استعمالها – لا بل سبق واستعملتها - لتوسيع شبكتها الواسعة من الأنفاق، التي يسمّيها المسؤولون الإسرائيليون "مترو حماس"، وإنتاج الأنابيب الصاروخية وعبوات ناسفة أخرى. والمثير للسخرية هنا هو أن العملية التي نفّذها الجيش الإسرائيلي زودت "حماس" بشكل غير مباشر بمواد يخضع إدخالها إلى غزة لرقابة صارمة أو يُحظر برمّته.
وقد يطمئنّ البعض إلى العرقلة التي تدأب عليها مصر منذ سنوات عبر تدمير أنفاق التهريب على طول الحدود مع غزة. فالقاهرة تتخذ من "حماس" موقفًا أيديولوجيًا متشددًا، وقد عملت جاهدة على مكافحة عمليات التهريب التي تقوم بها الحركة مع العشائر البدوية والخلايا المقاتلة العاملة في محيط غزة. مع ذلك، وحتى مع تقليص التهريب إلى حد ضئيل، من شبه المستحيل على الجيش المصري أن يوقف تمامًا تهريب الأسلحة عبر مساحات شاسعة من سيناء. فقد أتقنت "حماس"، بدعم لوجستي من إيران و"حزب الله"، فن إدخال شحنات هامة آتية من ليبيا أو مارة عبر السودان، عبر دفع مبالغ نقدية سخية للقبائل أو حتى رشاوي لضباط الجيش المصري.
بموازاة مساعي التسلح المستمر، تبذل "حماس" جهدًا هائلاً لحفر أنفاق هجومية ولوجستية في جميع أنحاء غزة وبالقرب من الحدود مع إسرائيل. وتستفيد الحركة كثيرًا من تفشي البطالة الجماعية في القطاع لتوظيف عمّال حفر مقابل حفنة من المال لا تتعدّى الثلاثين دولارًا في اليوم، وغالبًا ما يتم توظيفهم في فرق صغيرة غير متصلة لضمان أكبر قدر من السرية. ومن المرجح أن يتضاعف هذا المجهود الآن مع توفّر حديد التسليح والخرسانة القابلة لإعادة التدوير التي تُستخدم لتدعيم هياكل الأنفاق.
دائمًا ما يبرز موضوعان مترابطان في أعقاب الحملات العسكرية الكبرى في غزة، هما: إعادة الإعمار ومنع إعادة التسلح. في حرب 2014، اعتُمدت آلية إعادة إعمار غزة التي أشرف عليها مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع، وجعلت هذه العملية من شبه المستحيل على "حماس" الحصول على الإسمنت الخام، أو الخشب، أو الحصى، أو حديد التسليح، أو الأسمدة، أو غيرها من المواد التي يمكن استخدامها في إعادة التسلح. ولكن بالرغم من استخدام أكثر أنظمة المراقبة صرامة، وكما هي الحال بعد كل عملية، تزداد تكتيكات الحركة وترسانتها قوةً وتزداد صواريخها مدىً وأنفاقها تعقيدًا، وتتكرر الحلقة، لصالح "حماس" في غالب الأحيان.
وفي كل عملية مماثلة، يكون أهالي غزة هم أكبر الخاسرين. ذلك أن بنية إسرائيل التحتية وقوتها العسكرية تمكّنانها من تقليص الخسائر في الأرواح والممتلكات خلال العمليات ضد غزة، لكن هذه الامتيازات ليست متاحة للفلسطينيين المقيمين في المناطق الساحلية المعزولة. فسكان غزة لا يستطيعون التأثير على الخطاب السياسي الذي يؤثر على حياتهم نفسها، ولا يمكنهم التأثير على القيادات في القطاع أو الضفة الغربية أو تغييرها، بل هم يعيشون صدمات مزمنة سببها الحصار والحروب والنقص والضرر النفسي وسنوات من الإهمال. أما الخاسر الأكبر الآخر فهو استقرار إسرائيل ومكانتها الدولية. فإسرائيل، بغض النظر عن خروجها من غزة عام 2005، وبالرغم من الانتقادات المحقة لكيفية إدارة شؤون الفلسطينيين المدنية من قبل قادتهم، تتحمل مسؤولية كبيرة في معالجة التدهور في نوعية حياة أهالي غزة. ويتوجب عليها معالجة مخاوفها الأمنية، وإتاحة المجال أمام نهج مختلف جذريًا لتحسين الأوضاع والظروف التي يعيش فيها سكانٌ يزدادون يأسًا، بشكل مباشر وغير مباشر.
في الواقع، لا يوجد نقصٌ في الآراء والتحليلات حول الأسباب التي أدت إلى جولة القتال الأخيرة بين إسرائيل و"حماس" في غزة، بل النقص هو في الأفكار والرؤى والمقترحات والمقاربات الجريئة والشجاعة الجديدة لمواجهة التهديدات الأمنية المتأتية عن تبنّي "حماس" المستمر للنضال المسلّح، وفي الوقت نفسه السماح لسكان غزة بعيش حياة سلمية ومزدهرة. والطريقة الوحيدة لتأخير المواجهة المستقبلية بشكل مهم أو تجنّبها كليًا وتطوير قدرة ردع حقيقية، كتلك التي تحققت مع "حزب الله" في لبنان، هي إغراق القطاع بالمشاريع الإنمائية.
إن السماح لسكان غزة بحرية التنقل وبحركة تجارية قوية، حتى وإن كانت خاضعة للمراقبة، وإنشاء موانئ ذات إدارة دولية لأغراض السفر والأعمال، وتعزيز البنية التحتية الحيوية لضمان توفّر الكهرباء والمياه ومعالجة الصرف الصحي والرعاية الطبية الجيدة، كلها خطواتٌ ستؤمّن بشكل تراكمي نوعية حياة لائقة، وهذا بدوره سيضع حاجزًا سياسيًا واجتماعيًا كبيرًا أمام قدرة "حماس" على استخدام ترسانتها في الأزمات المستقبلية. فأمين عام "حزب الله" حسن نصر الله نفسه اعترف بعد حرب 2006 بأنه لو كان يعلم حجم الدمار الذي ستخلّفه أعمال تنظيمه على البنية التحتية والاقتصاد في لبنان، لما كان ليأمر بالهجوم على دورية الحدود الإسرائيلية، الذي أطلق بدوره شرارة النزاع الذي دام 34 يومًا.
بحسب المسؤولين العسكريين، تتمتع منظومة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية المسماة "القبة الحديدية" بمعدل نجاح يصل إلى 90٪ في اعتراض الصواريخ التي يتم إطلاقها من غزة. هذا ويعمل جيش الدفاع الإسرائيلي على منظومة اعتراض بالليزر ستكون أكثر فاعليةً من القبة الحديدة وسيكون تشغيلها أقل كلفة، وقد تصبح جاهزة في غضون عقد من الزمن. ومن شأن هذا التقدم القريب، إلى جانب التطور المستمر في أنظمة كشف الأنفاق وتطوير جدار وقائي مضاد للأنفاق تحت الأرض، أن يجعلا التهديدات العسكرية من غزة قابلة للاحتواء. ومع أن الأضرار التكتيكية والتأثيرات الناتجة عن صواريخ "حماس" تشكل تهديدًا نفسيًا، من الممكن أن تُصبح الأنفاق والصواريخ محدودة التأثير ودون فاعلية بعد بضع سنوات.
في عام 2017، شاركتُ في محاضرة ألقتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس وناقشت خلالها التحديات المعاصرة في التعامل مع روسيا. فأعربت عن تقديرها لتاريخ الشعب الروسي وقدرته على التأقلم، قائلة إنه "لا بد من وجود طريقة لعزل النزعة البوتينية من دون عزل الشعب الروسي". من هذا المنطلق، لا ينبغي مطلقًا وضع رفاه الشعب الفلسطيني في غزة وازدهاره جانبًا أو نزع عنهما صفة الأولوية عند تنفيذ الإجراءات الأمنية، مهما كانت ضرورية.