- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تطبيق دروس الربيع العربي على التحركات الاحتجاجية الراهنة: دعوة إلى الإصلاح السياسي
بخلاف الاحتجاجات التي نشبت العام الفائت في المغرب والأردن وجنوب العراق ونتجت بالدرجة الأولى عن تخوفات محددة متعلقة بالسياسات لتعود وتتلاشى بعد ذلك، يشهد كلٌّ من السودان والجزائر احتجاجات ملفتة بنطاقها الواسع نشأت عن مطالبات سياسية لا تلين بتغيير النظام السياسي. والقاسم المشترك بين تظاهرات العام الماضي والتحركات الحالية هي أنها تؤكد على وجود توق إلى التغيير السياسي أكبر مما يحسبه الكثير من المحللين.
إذ يستبعد هؤلاء المحللون إمكانية نشوب ربيع عربي جديد بسبب السياق العالمي الذي لا يشجّع عليه إنما يعطي الأولوية للأمن على حساب تعزيز الديمقراطية. مع ذلك، وبغض النظر عما إذا كانت أي دولة عربية مقبلةً على ثورة سياسية كاملة أم لا، من المهم عدم تكرار أوجه القصور التي شابت توقعات متابعي قضايا الشرق الأوسط قبل العام 2011. ففي تلك الفترة، اعتمدت عشرات الحجج المتعلقة بالمنطقة على تفسيرات تقليدية لتصرفات المواطنين العرب، حيث طُرحت فكرة الاستثنائية والفقر والأمية والدين والثقافة والبُعد الجغرافي كأسباب حالت دون اتّباع الشعوب العربية نماذج الثورات الملحوظة في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، فحالت هذه التفسيرات بدورها دون رؤية المحللين للوضع على حقيقته في الوقت الذي حدثت فيه الثورة بالفعل.
من هنا، وحتى إذا استبعدنا النقاش حول ربيع عربي جديد، يجب النظر إلى ما يحدث اليوم في كل من السودان والجزائر – وما قد ينتشر إلى دول أخرى – على أنه فرصة للفت الانتباه إلى إمكانية ظهور موجة جديدة من الاضطرابات السياسية في منطقة متقلبة. ونظرًا إلى الأزمات الإقليمية المتواصلة، من الإرهاب إلى النزاعات الأهلية والحروب بالوكالة فجمود مساعي السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين كما والأزمة الخليجية، من المعقول أن يتسبب أي مصدر توتر إضافي بمفاقمة هذه المشاكل الموجودة وإطلاق شرارة اضطرابات سياسية أكثر علانيةً.
ولهذا السبب، يجدر بالخبراء – وصانعي السياسات- العودة إلى مسألة الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط. فقد بات للإصلاح السياسي في الهيكليات الحكومية القائمة مبرر منطقي متين في يومنا الحاضر، لا بل أصبح فعليًا ضرورة.
وقد يجادل البعض قائلاً إن المواطنين العرب أنفسهم يفضّلون اليوم الأمن والاستقرار على الديمقراطية، وهذه بالفعل فكرة متداولة في الأنظمة الاستبدادية العربية ولكنها تفتقر إلى براهين قوية ومعقولة. فلا استطلاعات الرأي الموثوقة ولا الانتخابات الحرة مسموحة في غالبية الدول العربية، وبالتالي فإن هذه الفكرة مضللة كونها تفترض أن مصالح الزعماء ومصالح الشعوب هي بالضرورة نفسها. والحقيقة هي أن المجتمعات العربية تشبه أي مجتمع آخر في عالمنا اليوم حيث تتفاوت تفضيلات الشعوب ما بين المحافظين والليبراليين. ولكن الحؤول دون تمثيل أو حتى سماع الأصوات السلمية والليبرالية قد يؤدي إلى عواقب مخلة بالاستقرار. إن الجزائر والسودان اليوم هما بمثابة تحذير إلى مدى سهولة تسبب الاستقصاء وتأجيل الإصلاحات السياسية بأزمات مفاجئة وغير متوقعة في الأنظمة الاستبدادية.
في المقابل، قد يجادل البعض الآخر بأن الضغوط الدولية لإجراء الإصلاحات السياسية تركت وقعًا سلبيًا على المنطقة، ما يوحي بأن التهديدات الأمنية المتزايدة نتجت عن ضغوط مارستها الدول الخارجية على الأنظمة العربية من أجل تبني إصلاحات سياسية بعد مأساة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وتعتبر هذه الضغوط مرتبطة بالانتفاضات التي وقعت بين عامَي 2010 و2011 وتبعاتها وبالتالي ينظَر إليها نظرةً سلبية. ويعتبر أصحاب الفكرة نفسها أن الحث مرة أخرى على الإصلاحات السياسية قد يؤدي إلى تكرر سيناريو العام 2010/2011 بما شمله من انعدام الاستقرار وعودة الزعماء غير الديمقراطيين. ولكن ثمة خيار ثالث ، خيارٌ لا يقوم لا على دعم ربيع عربي ثانٍ ولا على إبقاء الوضع على حاله.
بمعنىً آخر، يبين الاضطراب السياسي الراهن هناك حاجة الملحة إلى مجموعة إصلاحات سياسية تطلقها النخب العربية الحاكمة نفسها، انطلاقًا من محفزات سياسية يقدمها لها المجتمع الدولي. ويجب في هذا الإطار توسيع نطاق المحفزات المستخدمة لمكافحة الإرهاب وتحرير الاقتصاد لتشمل إصلاحات سياسية تطبَّق بموازاة تلك المساعي. ففي الواقع، فإن دعم مسار إصلاحي واحد قد يؤتي برد فعل سلبي، لأن ما من مسار إصلاحي واحد ينفع إذا نُفّذ لوحده كما أنه لا يستطيع التعويض عن الإصلاحات اللازمة الأخرى. فالتحرر الاقتصادي يتطلب حرية سياسية تسمح بحرية التنظيم أو الحرية النقابية وبتمثيل مصالح الشعب الاجتماعية والاقتصادية. وكذلك تتطلب مكافحة الإرهاب توجيهًا من المجتمع المدني حرصًا على تناسبية هذه المساعي وعدم استهدافها للأبرياء والخصوم السياسيين.
فلنأخذ مثلاً السعودية حيث تبنّى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان خطةَ لتحرير الاقتصاد وتخفيف القيود الدينية على مجتمعه. حين أبدى الغرب تفاؤله بهذه الخطة بدون إطلاق دعوة موازية إلى الإصلاح السياسي، اعتبر ولي العهد هذا التأييد بمثابة ضوء أخضر في كل ما يتعلق بسياساته الداخلية والإقليمية. وبذلك اعتُبر أن الغرب يوافق على سياسات الأمير محمد بن سلمان المتعلقة باحتجاز خصومه من العائلة الملكية ورجال الأعمال السعوديين البارزين، والاستمرار بحربه المكلفة في اليمن بما تسببه من عواقب إنسانية وخيمة وعبءٍ مالي متعاظم على الدولة، كما واستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان وصولاً في النهاية إلى اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي. وبدا في الفترة الأخيرة أن الغرب استنتج لتوّه أن عقيدة ولي العهد هي خطة مخلة بالاستقرار وليس خطة تحديث، سواء على الصعيد الداخلي أم الإقليمي. ولكن يجب أن يعي الغرب الدور الذي يُنسب إليه في إعطاء موافقته الضمنية على أعمال المملكة العربية السعودية.
لذلك، يجدر تشجيع القيادات العربية على إجراء الإصلاحات السياسية لتفادي أي انتفاضات سياسية خطيرة، وحثها على احترام حقوق الإنسان وفتح المجال أمام مشاركة خصومها المدنيين في الحياة السياسية، بالإضافة إلى تحرير المجتمع المدني وتكريس حرية التعبير، وضمان استقلالية القضاء والمساواة بين الجنسين. ومن المهم بالقدر نفسه وضع مسار آمن لانتقال السلطة من فريق إلى آخر، حتى إذا كان هذا الانتقال يتم بين نخب النظام نفسه. فالمقصود هو أن وضع أسس الانتقال السلمي للسلطة يمثّل الخطوات الأولى الضرورية في المرحلة التالية من أجل تفادي تبعات الوضع القائم التي قد تكون مدمرة.
ومن شأن هذا النوع من الإصلاحات أن يحسّن ويخفف الغضب المستتر إنما المتنامي في العديد من المجتمعات العربية، هذا الغضب الناجم عن القمع السياسي والعوائق الاقتصادية ككل. كما أن هذه الإصلاحات تمنح المواطنين العرب بعض الراحة والحرية وتتيح لهم التعبير عن استيائهم وتقي المجتمعات العربية في النهاية من خطر الانفجار.
وبالفعل، يجب أن ندرك أن الكثير من العرب يعتبرون الوضع الراهن في دولهم لا يطاق، فيما الغضب آخذٌ في الاحتدام مع استمرار الأنظمة الحاكمة بالضغط على شعوبها مستفيدةً من دعم بارجماتي غربي. وفي حالة مصر مثلاً، يعمل النظام الحاكم الذي تبنى سياسات تقشفية قاسية على تعديل الدستور المصري للسماح للرئيس بالبقاء في الحكم من الناحية النظرية حتى سنة 2032 بدون فرض أي قيود على ذلك. أأما في الجزائر، فالرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي حكم بلده لأكثر من ثلاثة عقود حاول الترشح لولاية خامسة مع أنه غير قادر على القيام بأبسط أموره اليومية. وعلى النحو نفسه، لا يزال عمر البشير – الديكتاتور المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية لارتكابه جرائم حرب – يطمح إلى البقاء في منصبه بعد أكثر من ثلاثة عقود في السلطة وأشهرٍ من الاحتجاجات العامة. وحتى في الأردن والمغرب حيث أبدت القيادات بعض الاستعداد لإجراء الإصلاحات بين عامَي 2011 و2013، تتراجع الإدارات عن مواقفها الإصلاحية، مستمدة الجرأة من قرار الغرب بغضّ الطرف عن النزعة الاستبدادية المتعاظمة في المنطقة.
وفي النهاية، إن كان من درسٍ نتعلمه من الربيع العربي وتبعاته، فهو أن الدعوة إلى التغيير الجذري تأتي متى وجدها الشعب الوسيلة الوحيدة المتوفرة لتغيير وضعه البائس. وفي الشرق الأوسط اليوم، حيث أغلق الحكّام العرب باب التغيير السلمي، تتقد النار تحت الرماد، وقد تشتعل المنطقة مجددًا ما لم تتخذ خطوات فورية.