- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تطور الاحتجاجات في العراق: قوة مفرطة تدفع المحتجين إلى التكيف
تشكل البطالة وغياب الخدمات العامة والفساد القوة المحركة التي تؤجج الاحتجاجات القائمة في العراق منذ أشهر. إلا أن المحتجين من الشباب الذين نزلوا إلى الشوارع اكتشفوا حجة رابعة، ألا وهي التقاعس عن محاسبة النخبة المسؤولة والاستعداد إلى قمع الاحتجاجات بدلًا من إحداث تغييرات. نجح المحتجون العراقيون الشباب إلى حدّ ما بنزولهم إلى شوارع بغداد ومناطق أخرى وبمطالبتهم بسقوط حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. إلا أن الحكومة واصلت ممارسة العنف تجاه المحتجين للتصدي للتحركات الاحتجاجية. ففي الأسبوع الفائت فحسب، سحب القائد الشيعي النافذ، مقتضى الصدر، الحماية ما عرض خيم المحتجين لمزيد من الخطر، فقُتل عدد من المحتجين برصاص قوات الأمن في أثناء محاولتهم نزع الخيم.
ومع ذلك، أدى استخدام القوة المفرطة التي اتسمت بها الأيام الأولى من الاحتجاجات وأسفرت عن أكثر من 600 قتيل و12000 جريح، إلى تشكيل نوع المظاهرات والمطالب. وكانت إحدى النواحي البارزة في الحركة الاحتجاجية العراقية قدرة المحتجين على التكيف مع الضغوط وتطوير الحركة الاحتجاجية من أجل مواصلة زخمها على الرغم من جهود الحكومة العراقية المتكررة لقمعها.
وعلى صعيد أيديولوجي، فقد أدت أعمال العنف التي تمارسها قوات الأمن العراقية تجاه المطالب المحقة للقيام بالإصلاح، فضلًا عن عدم استجابة الحكومة، إلى فقدان كامل الثقة بمجمل المنظومة الحكومية والدستور. وبالتالي، تتأكد مع وفاة كل محتج جديد حقيقة أن الشرخ البسيط في العراق بلغ أخيرًا حدّ الانكسار الذي لا يستطيع أحد إصلاحه سوى الشعب.
أكد المحتجون أنهم لن يتركوا الشارع وعبروا بوضوح عن مطالبهم، وهي: تشكيل حكومة جديدة مستقلة عن أي تأثير خارجي، ومؤسسات حكومية ممولة داخليًا وملتزمة بالقوانين، والمساءلة بشأن الجرائم داخل الحكومة، وإنهاء الميليشيات الخارجية في العراق. وبعبارات بسيطة، يريد هؤلاء المحتجون العراقيون وطنًا.
فرض الصمت: موجة المحتجين الأولى
لا يُعد الغضب من الحكومة العراقية ظاهرة جديدة، لا سيما في صفوف الشباب العراقيين الذين يزداد عددهم سريعًا. فقد أدت الاتهامات بالفساد في خلال الانتخابات العراقية الأخيرة في عام 2018، بالإضافة إلى التحركات الاحتجاجية الكبيرة التي انطلقت في البصرة في صيف ذلك العام، إلى تسليط الضوء على رفض شعبي متزايد للوضع الراهن. وفي النهاية، نزل العراقيون مجددًا إلى الشارع في بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر وما زالوا يواصلون الاحتجاج منذ ذلك الحين، ولم يتوقفوا إلا لمدة قصيرة بمناسبة ذكرى الأربعين المهمة لدى الطائفة الشيعية. وفي خلال هذه الاحتجاجات، تظاهر آلاف الشباب العراقيين مطالبين بعزل عادل عبد المهدي من منصبه كرئيس وزراء.
ردّت القوات المسلحة التابعة للحكومة بالغاز المسيل للدموع ورش المتظاهرين بالمياه الحارة والرصاص المطاطي والذخائر الحية. قُتل المئات وأصيب أكثر من 12000 شخص. وبالإضافة إلى القوة الغاشمة، حاولت الحكومة العراقية وقف تدفق المعلومات عبر حجب جزء أو كامل ساعات الإنترنت بعد الاحتجاجات الأولى. هذا وقد حجبت الحكومة مجموعة من التطبيقات وقطعت بعد ذلك الإنترنت كليًا، وهذا أسلوب تستخدمه منذ ذلك الحين. وسمح انقطاع الإنترنت بدوره لأفراد الميليشيات باللباس الأسود بالبدء باستهداف المتظاهرين من خلال وضع قناصين على أسطح المباني الحكومية.
ولكن لم تحقق موجة العنف الأولى هذه هدفها المتمثل في إخراج المتظاهرين من الشارع، بل أدت في الواقع إلى نتائج عكسية وخيمة أجبرت الجيش العراقي في النهاية على الاعتراف بدوره في المجزرة، مفيدًا: "استُخدمت القوة المفرطة خارج قواعد الاشتباك وبدأنا بمحاسبة القادة الضباط الذين نفذوا هذه الأعمال الخاطئة".
ومع ذلك، جرى عرض "التقرير النهائي للجنة الوزارية العليا حول أسباب سقوط عدد كبير من الشهداء في محافظة بغداد وغيرها من المحافظات" على قناة العراقية، وهي قناة حكومية، وليس على لسان مسؤول حكومي. علاوة على ذلك، استخدم التقرير لهجة مبهمة لا تقدم حلولًا واضحة أو تعد بالاقتصاص، ولم تحمِّل المسؤولين الحكوميين مسؤولية مقتل المئات من الأشخاص، كما لم تقدم إجابة واضحة بشأن هوية القناصين. وأثارت هذه المحاولة التي تشكل نهاية استرضائية للمظاهرات غضب المحتجين.
وكذلك الأمر، أضافت الاستجابة غير الملائمة لقتل المدنيين الذي سمحت به الدولة غياب المساءلة إلى قائمة شكاوى المحتجين. والأهم من ذلك، دفع ذلك الاحتجاجات إلى التحول من المطالبة بإقالة عبد المهدي نحو إقالة الحكومة والطبقة السياسية بكاملهما.
وعندما وعد عادل عبد المهدي في خطابه الذي وجهه إلى الشعب العراقي في 9 تشرين الأول/ أكتوبر بمعاقبة الأفراد الذين شاركوا في اغتيال المتظاهرين السلميين، وبتوفير فرص عمل للعاطلين عن العمل وصرف رواتب لمن يعيشون دون خط الفقر، لم يثق المتظاهرون بأن هذه الوعود ستنفذ.
وبالمقابل، ازداد الضغط حتى وافق عبد المهدي على التنحي، وأعاد توجيه انتقاداته لمن تبقى من المسؤولين العراقيين: "إذا كان الهدف من الانتخابات تغيير الحكومة، فهناك طريق أقصر: وهو أن تتفق أنت [مقتدى الصدر] مع [هادي] الأميري لتشكيل حكومة جديدة".
وفي خلال هذه الفترة من "المصالحات"، كانت الحكومة تدعو إلى المصالحة، ولكن الإجراءات التي اتخذتها قوات الأمن بحق المتظاهرين، والتي جرى التعتيم عليها مرة أخرى بسبب حجب الإنترنت، تشير إلى قصة مختلفة تمامًا.
على أي حال، لا تزال شبكة الإنترنت تتيح للمتظاهرين تصنيف الانتهاكات التي ترتكبها الدولة، حتى بعد صدور تقرير مبكر للأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثان جاء فيه أن قوات الأمن العراقية "فرضت قيودًا شديدة مقارنة بالتظاهرات التي جرت سابقًا في شهر تشرين الأول/ أكتوبر، وذلك من خلال تقرير مثبت واحد بتاريخ 4 تشرين الثاني/ نوفمبر (راجع القسم السابق) حول استخدام الذخيرة الحية لتفريق الحشود".
عكست تغريدات المتواجدين على الأرض في خلال هذه الفترة واقعًا أكثر عنفًا. فقد أطلقت قوات الأمن عمدًا ومن مسافة قريبة قنابل الغاز المسيل للدموع على أجساد المتظاهرين، فاخترقت رؤوسهم وأجزاء أخرى من أجسادهم. ونشر حساب "الثورة العراقية" على موقع "تويتر" فيديو مؤثرًا لمتظاهر لقي حتفه بقنبلة غاز مسيل للدموع. يمكن سماع صوت طالب الطب المتطوع في الخلفية أثناء قوله: "انظروا، انظروا إلى المكان الذي أصابته [القنبلة] ... "يقولون إنهم لا يمارسون القمع [العنيف] ولا ينفذون هجمات موجهة، لكن انظروا إلى هذا".
ومع استمرار الاحتجاجات، بدأت الحكومة تغير أساليبها وقطعت الإنترنت مجددًا. في خلال الساعات التي قُطع فيها الاتصال بالعالم، انتقلت قوات مكافحة الشغب إلى استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين والمساعدين (1) الطبيين (2)، فضلًا عن حرق الخيم الطبية. جرى تداول روايات كثيرة عن سقوط متظاهرين في محافظات أخرى غير بغداد (مقاطع فيديو أخرى)، منها البصرة وكربلاء وذي قار والناصرية.
وتكيف المحتجون مرة أخرى مع هذا النمط الجديد من الهجوم. بالقرب من ميدان التحرير، حوّل المتظاهرون الهجمات الحكومية إلى لعبة منهجية سقيمة، فيمسكون بقنبلة غاز مسيل للدموع ويرمونها، فيلتقطها محتجون آخرون ويخمدونها. بينما يمسك آخرون بالقنابل ويركضون بها بعيدًا عن المتظاهرين، أو يعيدون قذفها أيضًا. واختار البعض أن يلعب كرة القدم بها.
لعبت تقارير الناس بشأن العنف الذي ترعاه الدولة دورًا حيويًا في تبيان حقيقة الوضع. فقد ساعدت مقاطع الفيديو المتوفرة في حثّ "منظمة العفو الدولية" على إجراء سلسلة من التحقيقات، بعد جمع إفادات شهود عيان وتقارير طبية للتحقق بشكل مستقل من مصدر القنابل اليدوية وتأثيراتها في المحتجين.
تمتلئ شوارع ميدان التحرير ومناطق أخرى في العراق بالطلاب والمهنيين الشباب الذين يغطون وجوههم بالأقنعة ويرتدون القفازات. ونصب الأطباء الشباب بدورهم الخيم وقدموا الخدمات الطبية للمصابين.
وبهدف حماية المحتجين على الأرض من القناصين، تمركز محتجون في المطعم التركي المهجور الذي بات يعرف الآن باسم جبل أحد. ويطل جبل أحد على ميدان التحرير وجسر الجمهورية، ما يتيح مراقبة كل ما يجري على الأرض.
وقال أحد المحتجين: "يعتبر المطعم التركي الآن ديارنا. لن نغادر".
وتشمل الأساليب الأخرى لإرباك قوات الأمن استخدام الليزر والألعاب النارية. وكان بعض المتظاهرين قد أطلق بالونات في ميدان التحرير، في رسالة للتعبير عن سلمية الاحتجاجات.
وتظهر أيضًا في ميدان التحرير ابتكارات أخرى، من ضمنها نقاط تفتيش للحرص على سلامة المتظاهرين. توزعت نقاط التفتيش على جسر الجمهورية والسد ونقطة التفتيش في المطعم التركي. كما أنشأ المحتجون صحيفة باسم "تك تك"، تكريمًا لوسائل النقل التي كان ينظر إليها بازدراء فيما مضى في بغداد، وأصبحت الآن تؤدي دورًا بطوليًا بعملها كسيارات إسعاف مؤقتة لنقل المتظاهرين المصابين إلى أقرب مركز طبي. حتى إن ميدان التحرير يتضمن مكانًا لحفظ الممتلكات الضائعة للمتظاهرين الذين يبحثون عن أغراض مفقودة أثناء المظاهرات.
المضي قدمًا
كما أوضح المتظاهرون، ما يحرك هذه المظاهرات هي مطالب الشعب لا تكتلات سياسية أو دينية معينة. وهذا لا يميز هذه الحركة الاحتجاجية عن سابقاتها فحسب، بل يثير أيضًا القلق من غياب قيادة للحركة.
تصاعدت وتيرة الاحتجاجات في العراق مؤخرًا نتيجة تقاعس الحكومة عن اتخاذ إجراءات وإحداث تغييرات. فبدأ المتظاهرون بتنفيذ أساليب جديدة من العصيان المدني، بما في ذلك إغلاق الطرق السريعة الرئيسية بالإطارات المشتعلة وتلحيم أبواب المكاتب الحكومية.
ويتعين على الحكومة أن تدرك أن على المسؤولين السياسيين التوجه نحو إحداث تغيير منهجي، والتأكيد على إجراء تغيير دستوري، بدلًا من إجراء تغييرات بسيطة في المناصب الحكومية، نظرًا إلى أن الناس فقدوا ثقتهم في نظامهم.
يتألف هؤلاء المحتجون من شباب المجتمع، منهم الطلاب والمتخرجون حديثًا، الذين واجهوا رصاص القناصين وتفادوا الغاز المسيل للدموع العسكري والرصاص المطاطي. لذا لن يرضى الشعب سوى بالالتزام بالإصلاح ومحاسبة أولئك المسؤولين عن القتلى والجرحى.
قال أحمد البشير، المعروف أيضًا باسم جون ستيوارت العراقي: "قرروا مواصلة مهمتهم وتغيير كل شيء من أجل العيش. يجب عليهم إنجاز المستحيل. ومحوا من فكرهم مفهوم الخط الأحمر. المهم [بالنسبة إليهم] هو عيش حياة تستحق العيش".