- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
تونس: أصداء الأزمة الليبية
تطرقت أقلام الكثير من المحللين السياسيين إلى فترة ما عرف بـ "الربيع العربي" بالنقد والتحليل؛ حيث قام أغلب هؤلاء المحللين بتقييم انتفاضات هذا "الربيع" الذي غير معالم السياسة في العالم العربي. واتفقوا في تحليلاتهم تلك، على أن "تونس" هي الدولة الوحيدة التي استطاعت أن تنجح في تحقيق انتقال سلمي - ولو نسبياً - نحو المسار الديمقراطي. لكن هذا الطريق إلى الديمقراطية ما يزال وعراً، ولا يسير في خط مستقيم، إذ شهدت تونس عدداً كبيراً من الإنجازات والإخفاقات منذ الإطاحة برئيسها السابق "زين العابدين بن علي" في عام 2011.
ومن بين القضايا الشائكة التي تواجه الحكومة التونسية - بعد "الربيع العربي" - هناك مسألة الحدود؛ إذ تعاني "تونس" من صعوبة بالغة في السيطرة عليها، خاصة بعد قيام تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») بإنشاء معاقل له في الجارة الليبية؛ فأصبحت المشكلة من أبرز التحديات الهائلة التي تواجهها الدولة التونسية، والتي تفرض عليها تحدياً أمنياً، واقتصادياً، واجتماعياً كبيراً.
إن النزاع القائم حالياً في ليبيا - والذي صاحبته موجة من التطرف والتشدد في تونس - له أبعاد متعددة؛ ذلك لأن ما تعرفه المنطقة من إعداد الإرهابيين وتدريبهم، وازدهار ظاهرة تهريب السلاح، وانتشار الفكر المتطرف في الآونة الأخيرة، ساهم في اتساع رقعة الصراع، لدرجة استطاع معها الإرهابيون الانطلاق من ليبيا، ليضربوا ضربتهم في مدينة "بن قردان" المتاخمة للحدود بأقصى الجنوب الشرقي لتونس، حيث حصلت اشتباكات مسلحة بين القوات التونسية والمقاتلين المتطرفين، وأدت إلى مقتل ثلاثة وخمسين شخصاً. وقد وصف الرئيس التونسي "الباجي قائد السبسي" هذا الهجوم بأنه: "غير مسبوق ... ومخطط ومنظم". كما أشار إلى أنه: "يهدف إلى السيطرة على المنطقة، وذلك سعياً إلى تدشين وإعلان الإمارة الإسلامية الجديدة". أما رئيس الوزراء التونسي "الحبيب الصيد"؛ فقد اعتبر الهجوم مناورةً داعشيةً تهدف إلى إنشاء بؤرة إرهابية بالقرب من الحدود التونسية. وعلى الرغم من عدم إعلان أي جماعة مسؤوليتها عن تلك المناوشات الحدودية، إلا أن اثنين من مواقع الشبكة العنكبوتية تابعيْنِ لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» أعلنا مشاركة التنظيم في ذلك القتال.
وتمثل القضايا الأمنية الأخيرة تحدياً كبيراً يضعف الاعتقاد السائد بأن تونس نموذجٌ للاستقرار في المنطقة، فقد انزلقت ليبيا في دوامة الفوضى بعد ثورة 2011، وسيطر تنظيم «داعش» على عدة مدن، وهو ما يشكل حالياً تهديداً ملحوظاً للأمن الإقليمي في المنطقة. ونستحضر هنا ما جاء على لسان "محمد أبو رمان" - المحلل الأردني في "المركز الأردني للبحوث الاستراتيجية" في عمان - إذ صرح في العديد من المقابلات بأن هناك عدة عوامل ساهمت في جعل تنظيم «الدولة الإسلامية» مصدر تهديد حقيقي، بفعل الحدود الطويلة بين تونس وليبيا، والتي تصعب معها محاربة عمليات تهريب الأسلحة، ومراقبة تسلل المقاتلين عبر الحدود. والأكثر من ذلك، أن شساعة هذه الحدود ساهمت في تبادل المعرفة والتقنيات، الشيء الذي أدى إلى اطراد سلسلة العمليات الإرهابية الأخيرة التي قام بها التنظيم، إذ قام باستخدام الأراضي الليبية لمرات عدة في شن هجماته ضد تونس؛ ففي آذار/مارس من عام 2015 قام إرهابيون من هذا التنظيم بقتل سبعة عشر شخصاً أثناء زيارتهم متحف "باردو" الوطني، ثم بعد مرور ثلاثة أشهر على الحادث، جدد التنظيم عملياته، فقتل ثمانية وثلاثين سائحاً في هجوم آخر على منتجع "سوسة".
وقبل يوم واحد فقط، من الاشتباك الأخير بين التنظيم والقوات التونسية في مطار بن قردان؛ أعرب السفير التونسي في روسيا "علي غوتالي" عن مخاوفه من أن " نشوب حرب واسعة النطاق في ليبيا سيكون لها تأثير أمني خطير، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة تدفق اللاجئين والإرهابيين من ليبيا".
وللأسف، فقد بدأت مخاوف السفير التونسي تتحقق؛ حيث قدرت الأمم المتحدة عدد التونسيين المنضمين - مؤخراً - إلى صفوف «داعش» للقتال في سوريا بما يقارب الخمسة آلاف وخمس مائة، كما قدمت وزارة الداخلية التونسية تقديراً أكثر تحفظاً، حيث أعلنت على أن ما لا يقل عن ألفين وأربع مائة من المواطنين التونسيين انضموا إلى صفوف التنظيم منذ عام 2011، ويذكر أن نحو أربع مائة ممن انضموا سابقاً إلى التنظيم قد عادوا إلى تونس. وذكرت الوزارة أيضاً، أن بضعة آلاف آخرين حاولوا السفر إلى سوريا حتى بعد إغلاق الحكومة شبكات التجنيد، ليتم منعهم من ذلك؛ وقد وصفت الوزارة هذه الموجة التي تتخذ من تونس منطلقاً للهجرة من أجل الجهاد في "الشام"، بأنها "طرق بالية تؤدي إلى مطار تونس، وخاصة الرحلات إلى إسطنبول، أو عبر الحدود البرية الجنوبية، عبر معسكرات التدريب الليبية".
وقد كتب المحلل التونسي "راشد كاسني" في جريدة "الحياة" أن: "هناك حالياً في ليبيا ما يقارب من ألف وخمس مائة مقاتل تونسي مدرب ومسلح، وبلا شك، لديهم رغبة في العودة لبلادهم". كما أضاف "كاسني" بأنه: "يبدو من الصعب على الجيش التونسي الذي يمتلك قدرات تسليحية محدودة، أن يقوم بفرض سيطرة جوية وأرضية صارمة على الحدود التي تمتد لأكثر من خمس مائة كيلومتر". وقد أشار إلى أن "وزير الداخلية التونسي قد أكد - مؤخراً - أن المئات من المقاتلين الذين انضموا إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» قد عادوا بالفعل لبلادهم، وأسسوا خلايا نائمة، بينما انضم البعض منهم إلى صفوف «أنصار الشريعة»".
ومن جهته، صرح "غوتالي" - مؤخراً - لوكالة "أنباء سبوتنيك" بأن بلاده تشعر بقلق بالغ إزاء تصاعد العمليات الإرهابية في تونس، وذلك بعد قيام الجماعات الإرهابية المسلحة بعدة عمليات على الأراضي التونسية، كما أضاف بأن: "عدد الذين انضموا للجماعات المسلحة أثناء ما يسمى بحكومة "الترويكا" السابقة، كان مرتفعاً بكثير عن العدد الحالي، وذلك لأن الدولة كانت -حينئذ - تعاني من الضعف والوهن، ولم تتخذ أي إجراءات جريئة للحد من تلك الظاهرة". كما أشار إلى أن: "بطالة الشباب تمثل عاملاً رئيسياً لمساعدة تنظيم «داعش» على جذب المجندين الذين يتطلعون إلى الحصول على وظيفة ودخل يمكن الاعتماد عليه". وقد أكدت بعض الأرقام التي توصل إليها "المعهد الوطني للإحصاء" في تونس - والتي نشرتها جريدة "الحياة" العربية القومية - أكدت على أن معدل البطالة في تونس قد انخفض بشكل طفيف من 15.2% خلال الربع الأول من عام 2014 إلى 15% خلال الربع الأول من عام 2015، لكنه يبقى بكل الأحوال رقماً مرتفعاً، وخلال تلك الفترة، كان هناك ما يقارب من مائتين واثنين وأربعين ألفاً من الخريجين العاطلين عن العمل في البلاد. وبالنسبة للرجال، فقد بلغ معدل البطالة نسبة مذهلة وصلت إلى 21.4%.
وما يجعل تونس - اليوم - أكثر عرضة لتأثير تنظيم «الدولة الإسلامية» هو أن الحكومة ليست مستعدة بعد، للإدارة غير المباشرة للأزمة الليبية، مما يعني أن تسلل تنظيم «داعش» إلى تونس ليس سوى مسألة وقت. وهناك بعض الجماعات المسلحة المحلية التي تدعم تنظيم «القاعدة»، مثل: «أنصار الشريعة»، و«كتيبة عقبة بن نافع»، والتي يحتمل أن تدعم خطط تنظيم «الدولة الإسلامية» لتوسيع رقعة الإمارة لكي تشمل تونس. ويرى "أبو رمان" أن: "«الدولة الإسلامية» دائماً ما تستثمر مجهوداتها في المناطق الريفية الفقيرة، وفى الشباب العاطل عن العمل، وتستفيد جيداً من حالة التفكك بين الفصائل الإسلامية والعلمانية المحلية، وتلك المهمة ملقاة على عاتق الحكومة لكي تجد لها حلاً".
لقد أدت السنوات الأربع لحالة عدم الاستقرار التي عاشتها تونس إلى انهيار الموارد الاقتصادية، وإلى تفشي أجواء من الضعف الذي أفقد البلاد قدرتها على تحمل الاضطرابات؛ هذا، بالإضافة إلى الأزمة القائمة في ليبيا المجاورة. وإذا كان المجتمع الدولي يركز أنظاره - في الوقت الراهن- على ليبيا، فإن ذلك لا يلغي ضرورة الانتباه أيضاً، إلى الأوضاع في تونس، سواء فيما يتعلق بقدرتها على التعامل مع الموجة الكبيرة من اللاجئين الذين يلتمسون اللجوء، أو فيما يخص مسألة التطرف الإسلامي الذي انتشر في البلاد، والذي استفاد من التربة الخصبة الناتجة عن بطء النمو الاقتصادي لتونس، حيث يسرت له سبل لتجنيد الشباب، الشيء الذي ينذر بمستقبل كارثي وغامض؛ ما لم يتدخل المجتمع الدولي قبل استفحال المشكلة.
هيثم الطبش هو صحافي ومحلل سياسي لبناني في بيروت. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"