- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الحد من فرص الفساد في العراق
مع تزايد التصعيد في التظاهرات الشعبية جنوبي العراق، يشكل فشل الحكومة العراقية المستمر في معالجة جذور هذه الاضطرابات خطرًا على وجود النظام القائم ما بعد عام 2003. وأحد تلك الجذور هو الفساد، وهو مشكلة راسخة تواجهها الحكومة الاتحادية. لكن لحسن الحظ أن العراق قادر على معالجة هذه المشكلة من خلال عدد من تدابير مكافحة الفساد، ومنها الحوكمة الإلكترونية والمراكز الموحدة للخدمات وتشجيع مشاركة المجتمع المدني وإجراءات التفتيش العشوائية، وهي كلها تدابير طُبّقت بنجاح في الدول الأخرى. ومع أن الظروف الخاصة في العراق قد تطرح بعض التحديات أمام تطبيق هذه التدابير المجرّبة، قد تكون هذه الأدوات ضروريةً لإعادة إحياء ثقة الشعب وتسهيل تقديم الخدمات الأساسية.
الحوكمة الإلكترونية
أولى التدابير الآنف ذكرها هي الحوكمة الإلكترونية، وتعني استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من قِبل الحكومة والمنظمات الخاصة لتحقيق إدارة فعالة. وتعتبر الحوكمة الإلكترونية آليةً مفيدةً في مكافحة الفساد لأنها تقلل من عدد التفاعلات مع الموظفين وتسرّع عملية صنع القرار وتحدّ من الأخطاء البشرية.
ومع أن التكاليف الأولية التي تستلزمها الحوكمة الإلكترونية مرتفعة، توفّر المال على المدى الطويل وتضمن الشفافية في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال، بعد أن اعتمدت سلوفاكيا المناقصات عبر الإنترنت للحصول على سلع وخدمات معينة، انخفضت كلفة جمع النفايات بمقدار الثلث من كلفتها الأصلية البالغة 900 ألف يورو عام 2008 لتصل إلى 600 ألف يورو. كما أقرّت سلوفاكيا قانونًا يستوجب من المؤسسات الحكومية نشر عقودها وعائداتها عبر الإنترنت فتعززت بذلك الشفافية البيروقراطية إلى حدٍّ كبير.
أما في حالة العراق، فيمكن تحقيق مكاسب كبيرة عند تطبيق ممارسات الحوكمة الإلكترونية. فمن خلال تسهيل الإجراءات البيروقراطية وضمان شفافية المشتريات العامة وإنشاء نظام ضريبي شفاف، تستطيع الحكومة العراقية استقطاب المزيد من المستثمرين الأجانب وبالنتيجة تسريع عملية الإعمار وتحسين آلية تقديم الخدمات.
لكن تجدر الإشارة إلى أنه قد يصعب على العراق تطبيق الحوكمة الإلكترونية. فمنذ بداية عام 2018 والبلاد لا تملك نظامًا بريديًا صالحًا حتى، وهو من المتطلبات الأولية للمعاملات المنفذة عبر الإنترنت وللقطاع المصرفي الموثوق. ولهذا يتعذر إجراء تحديث تكنولوجي بين ليلةٍ وضحاها. ومع ذلك، يستطيع العراق التغلب على هذه الثغرة في إمكانياته من خلال إلزام كل فرد يقدم على فتح حساب مصرفي باستئجار صندوق بريد على أن يكون هذا الأخير متوافرًا بسعرٍ لا يتعدّى الـ 20 دولارًا في السنة. وإبّان فتح الحساب المصرفي، يمكن أيضًا تزويد العملاء بكتيّبات إرشادية تضم معلومات عن كيفية المشاركة في الخدمات الإلكترونية عبر الإنترنت. والمقصود من كل ما سبق هو القول إنّ إطلاق الحوكمة الإلكترونية في العراق قد لا يكون سهلاً ولكن ليس من المستحيل التغلب على هذا التحدي.
النافذة الواحدة
يشير مصطلح "النافذة الواحدة" إلى نظام يقوم على جمع ممثلين عن مختلف المؤسسات الحكومية المسؤولة عن تزويد نواحٍ مختلفة من نوع الخدمة العامة نفسه في مكان جغرافي واحد يستطيع المواطن زيارته للحصول على تلك الخدمة. وقد أثبت هذا النظام قدرته على تسريع آلية تقديم الخدمات وخفض التكاليف وتقليص الحاجة إلى التحقق من المعلومات والمستندات.
وفي العراق، تعتبر "الهيئة الوطنية للاستثمار" التي أسستها الحكومة عام 2007 نموذجًا عن مركز الخدمات الموحد. ولكن بسبب غياب التنسيق بين الجهات الوطنية والجهات التابعة للمحافظات، لا تزال الشركات الأجنبية تواجه الصعوبات في ما يخص الاستثمار في العراق. لذلك، وسعيًا إلى نتائج أكثر فعالية، قد يكون من الحكمة أن يحذو العراق حذو الإمارات العربية المتحدة في نموذج تطبيق نظام "مركز الخدمات الموحد" القائم على المراحل التالية: أولاً، لا يمكن اختيار الخدمات المدرجة في نظام مركز الخدمات الموحد بشكل عشوائي، بل يجب أن تكون هذه الخدمات قد قُدّمت في السابق بطريقة تعرّضت للكثير من الشكاوى أو أن يكون الطلب عليها مرتفع أو أن تكون خدماتٍ ضروريةً للاستثمار. ثانيًا، وبعد اختيار الخدمات التي ستزودها المراكز الموحدة للخدمات، على الحكومة أن تحدد أولوية كل خدمة استنادًا إلى مساهمتها في الاقتصاد وأن تحدد أيضًا التفاصيل المتعلقة بها، أي عدد المؤسسات الحكومية والأطراف المعنية المشارِكة. ثالثًا، بهدف إنشاء مركز موحد للخدمات، يتعين على الحكومة أن تضع خطة عمل ترسم مخططات انسيابية للخدمات وتحدد مسؤوليات كل هيئة مشاركة تفاديًا لتضارب الصلاحيات وتداخلها. ورابعًا، بعد إنشاء مركز الخدمات الموحد، يجب أن تواصل الحكومة الإشراف على نشاطه وتحرص على أن يكون أداؤه مُرضيًا.
تشجيع مشاركة المجتمع المدني
يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تلعب دورًا مفيدًا جدًا في مكافحة الفساد: فالأدلة تبيّن أن هذه المنظمات فعالة في رصد جهود مكافحة الفساد وتقييمها وفي فضح الممارسات الفاسدة وفي تنفيذ المبادرات الإقليمية والدولية المكافِحة للفساد كما في بناء التحالفات لدعم تدابير مكافحة الفساد.
لكن للأسف، وبالرغم من وجود أكثر من 3 آلاف منظمة للمجتمع مدني مسجلة في العراق، لطالما واجهت هذه المنظمات صعوبةً في التكاتف. وفي الواقع، حتى منظمات المجتمع المدني التي تتقاسم الأهداف والخبرة نفسها تبدو أنها تواجه الصعوبات في تنسيق جهودها. مع ذلك، إذا استطاعت الحكومة إيجاد طريقة لتحفيز منظمات المجتمع المدني العراقية على العمل معًا، قد تتمكن تلك المنظمات من تشكيل تحالفات واسعة وشاملة تؤثّر بإيجابية على عمليات صنع السياسات.
وصحيحٌ أن بعض منظمات المجتمع المدني في العراق أُنشئت لمصالح شخصية وحزبية وأنها تُستخدم أحيانًا لتسهيل الأنشطة غير الشرعية، ولكن إذا تحققت الحكومة جيدًا من خلفيات تلك المنظمات، استطاعت حظر منظمات معينة والاستعانة بها في حربها ضد الفساد.
التفتيش العشوائي
التفتيش العشوائي إجراءٌ شائع ومنتشر في الولايات المتحدة، وهو فعالٌ جدًا لأنه يزيد احتمالات الكشف عن الممارسات الفاسدة، لا سيما حين تكون قدرة المؤسسات على فضح هذه الممارسات ضعيفةً وحين تكون فرص الإقدام على تصرفات فاسدة متوفرة بكثرة. بيد أن إجراءات التفتيش العشوائي معتمدة في العراق إلى حد ما، فقد أجرت مثلاً "هيئة النزاهة" 87 تفتيشًا عام 2017. ولكن بما أن العراق يملك 41 قطاعًا حكوميًا ويضم موظفو تلك القطاعات أكثر من 5 آلاف موظف رفيع المستوى، فعدد 87 تفتيش ليس كافيًا على الإطلاق. وبالفعل، تقوم فعالية التفتيش العشوائي على الموارد المتاحة وعلى إطار عمل قانوني واضح يسهّل الزيارات المتكررة إلى كل موقع. بالتالي، وبحُكم قدرات العراق المحدودة، يتعين على الحكومة أن تركّز جهودها على إصلاح القطاع الأمني من أجل التعامل مع الممارسات الفاسدة التي تفتح المجال أمام الأعمال الإرهابية.
في الختام، يتعين على الحكومة العراقية أن تستفيد من التظاهرات كفرصة لاعتماد أدوات مكافحة الفساد وتضمينها داخل مؤسساتها. ومن أجل تحقيق كامل الفوائد التي تقدّمها تدابير مكافحة الفساد المذكورة في هذا المقال، لا بد للحكومة من وضع أهداف محددة قابلة للقياس والعمل على تحقيقها.