- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
يجب ألا تبقى حرب أكتوبر إرث الدولة المصرية
إذا كانت الولايات المتحدة تأمل في مواصلة جهودها نحو تطبيع أوسع، فيجب عليها الإشارة إلى الآثار السلبية التي تحملها الرسائل المتعلقة بحرب أكتوبر، كما يجب أن تعمل على تشجع وتسليط الضوء على الجوانب الحاسمة لانفتاح نظام السيسي تجاه إسرائيل.
في خطابٍ أجراه الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي الأسبوع الماضي، اعتبر مناظرًا أنّ احتفال المسلمين بالمولد النبوي الشريف يجب أن يتمّ من خلال التحلّي بالأدب على غرار النبي محمد والتمثّل بحسن أخلاقه إزاء "الآخرين جميعهم". وبدا ذلك بمثابة رسالة ضمنية حول العلاقات بين المسلمين واليهود في زمنٍ جعل فيه التطبيع هذه العلاقات بين العرب وإسرائيل واضحة أكثر فأكثر، بما يتماشى مع قبول السيسي العلني لاتفاقات إبراهيم. ومع ذلك، فإن بعض الرسائل الداخلية التي قام نظام السيسي ببثها للمصريين عبر وسائل الإعلام الحكومية والأزهر خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر، بدت نبرتها حول الجيران اليهود مختلفة.
خلال سنوات حكم مبارك، كانت الدولة المصرية ووسائل الإعلام الخاصة بها تُعظّم باستمرار شهر تشرين الأول/أكتوبر في ذكرى "الانتصار" في الحرب ضد إسرائيل. فكانت المقالات والشخصيات المعنية بتقديم البرامج التلفزيونية تسجّل هذا الفوز التاريخي وتستخدم الحدث كوسيلة لنشر الأفكار القومية بين عامة الناس، فيما كانت الأفلام تُبَثّ من أجل ترسيخ الحرب في الذاكرة الجماعية المصرية. وانبثقت شرعية مبارك على مدى ثلاثة عقود فعليًّا من واقع أنه كان قائد القوات الجوية في "حرب أكتوبر".
في خطاب 6 تشرين الأول/أكتوبر السنوي هذا العام، لم يَذكر الرئيس عبد الفتّاح السيسي إسرائيل باسمها. لكنه شدّد على الأهمية التاريخية للحرب من خلال استعادة كرامة الجيش المصري وحثّ الناس بإصرار على التطلع إلى المستقبل لتطوير بلدهم.
على النحو نفسه، امتنعت وسائل الإعلام المملوكة للدولة عن دعوة إسرائيل عدوًّا، لكنها شدّدت على أهمية الانتصار في الحرب ضدّ "النظير الإسرائيلي". وعلى سبيل المثال، شجّعت القناة التلفزيونية الحكومية الرسمية "قناة أخبار مصر" عامة الناس المصريين على التعلم من الحرب من خلال محاربة الإرهاب والمؤامرات الدولية.
في المقابل، نشر المتحدث باسم الجيش المصري تامر محمد الرفاعي فيلمًا وثائقيًّا على موقع "تويتر" أنتجته القوات البحرية المصرية للاحتفال بعيدها الثالث والخمسين في 21 تشرين الأول/أكتوبر، وكانت إسرائيل لا تزال تظهر فيه كعدو تهاجمه السفن المصرية. وعلى النحو نفسه، أشارت أيضًا وسائل الإعلام الخاصة التي يملكها رجال أعمال من صفوف النظام إلى إسرائيل كـ "عدو". واستضاف أحمد موسى من محطة "صدى البلد" التلفزيونية جنديًّا مقاتلًا مصريًّا قديمًا للتحدث عن تجاربه في قتل الجنود الإسرائيليين. وعلى الهواء، أهدى المذيع المدعوم من الحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بنطالًا عليه دماء أحد الجنود الإسرائيليين المتوفين كتذكار.
في السياق نفسه، نظّمت جامعة الأزهر معرضًا لطلّاب الهندسة، حيث شارك العشرات منهم إلى جانب أساتذتهم لعرض قصص من "حرب أكتوبر". وعظّم رئيس الجامعة د. محمد المحرصاوي أهمية هذا المعرض كطريقة لمساعدة الطلّاب الذين لم يعيشوا الحرب على الاستلهام منها والشعور بالزخم الذي يجب تمريره بين الأجيال.
على صعيدٍ آخر، خرج أحد مشاهير "يوتيوب" المصريين إلى شوارع القاهرة وراح يجري مقابلات عشوائية مع الشباب المصريين حول الوقائع الأساسية لحرب السادس من تشرين الأول/أكتوبر، فاكتشف أنّ العديد من الشباب لا يعرفون كثيرًا عنها على ما يبدو، باستثناء الشعور الشديد بالكره إزاء جيرانهم اليهود.
باختصار، ما زالت "حرب أكتوبر"– وإظهار إسرائيل باستمرار في تلك السردية كعدو– سمةً أساسيةً من سمات رسائل الدولة إلى عامة الناس المصريين. ففي النهاية، تشكّل إسرائيل وسيلة سهلة لحشد الناس– ونجحت هذه الوسيلة في ظلّ حكم مبارك، وعلى الأرجح أنّ السيسي لا يرى أي سبب لتغيير هذه الصيغة. إلا أنّ السيسي لا يملك الشرعية نفسها من الحرب على غرار بعض أسلافه، بما أنه لم يحارب يومًا ضد إسرائيل.
مع ذلك، تبقى شريحة من نظامه مقتنعةً أنّ الدولة اليهودية يجب أن تشكّل الهدف الأساسي للدعاية المحلّية. وهذه القوة هي نفسها التي دفعت باتجاه السلام البارد في حقبة مبارك. وهي تعتقد أنّ نظام السيسي لا يستطيع أن يبقى في السلطة من دون عدو حقيقي يمكن حشد الناس ضده. فبموجب هذه النظرة، لا يشكّل أيّ من التهديدات المتأتية من ليبيا أو الإرهابيين في سيناء عدوًّا مؤاتيًا، خاصةً بما أنّ هؤلاء الأخيرين هم بمعظمهم مصريون. وبالتالي، يجري البحث عن غير المصريين من أجل إلقاء اللوم عليهم مثل إسرائيل والقوى الغربية. ورغم أنّ بعض القوى الإقليمية مثل قطر وتركيا تؤدي حاليًّا دور العدو الخارجي، لا تزال القناعة قائمة حول وجوب بقاء إسرائيل في الصورة.
في النهاية، تشكّل إسرائيل هدفًا سهلًا بعد الحروب المتعددة بينها وبين مصر، ونظرًا إلى الإجماع الشعبي العام في مصر حول عدم تمكّن أحد من الشكّ في نوايا إسرائيل السيئة ضد البلاد. لذا وإن لم يكن كافة المسؤولين المصريين مقتنعين باستراتيجية مواصلة التشديد على العداوة لإسرائيل، فهي تنتج قصة يسهل بيعها للناس. وهذا هو الحال بشكلٍ خاص حين يتّهم أعداء النظام هذا الأخير بالعمالة لإسرائيل. فتسمح استراتيجية المسؤولين المتمثلة في تحفيز الإحساس العام المعادي لإسرائيل بإنشاء رواية مضادة تعتبر أنّ معارضي السيسي هم عملاء إسرائيليون، ما يساعد في الحماية من هذا الاتّهام. وتُنعَت قطر على سبيل المثال بـ "إسرائيل الخليج".
غير أنّ المنفعة التي تحققها هذه الاستراتيجية ستتراجع على الأرجح مع الوقت. فسيكافح المسؤولون الأمنيون المصريون على الأرجح لنشر هذه الرواية بين الأجيال الأصغر سنًّا؛ ففي عصر وسائل التواصل الاجتماعي، يتمكّن المصريون الشباب بشكلٍ غير مسبوق من الوصول إلى المصادر الغربية حول الحرب، ويُحتمل جدًّا أن يبدأوا بالتشكيك في الرواية الرسمية حول الانتصار المصري الخالي من أي لبس.
يحيط أيضًا شكّ كبير بدبلوماسية إسرائيل العامة إزاء العالم العربي عبر صفحات "فيسبوك" وتويتر" و"إنستغرام"– حيث يتمكّن المسؤولون والناشطون الإسرائيليون من الوصول مباشرةً إلى الشارع المصري. فأتاحت هذه الصفحات إيصال وجهات النظر الإسرائيلية التي كان يستحيل إيصالها في الماضي، حين كان السبيل الوحيد لوصول إسرائيل إلى الجمهور المصري هو المقابلة السنوية التي كان يُجريها مبارك مع صحافي إسرائيلي لم يتردد الرئيس السابق في إحراجه أمام جمهوره.
من جهة، أعطت العلاقة الاستراتيجية بين إسرائيل ومصر ثمارًا: فساعدت مصر على تجاوز احتمال نشوء اضطراب في غزة فيما أدّت دور الوسيط بين إسرائيل وحركة "حماس"، وأعانت إسرائيل الجهود المصرية في ردع الإرهاب في سيناء. إلا أنّ استمرار أهمية "حرب أكتوبر" في الذاكرة المؤسسية يشير إلى عدم احتمال أن تحذو مصر في المدى القريب حذو أي أسلوب مماثل للتطبيع الدافئ مع إسرائيل الذي يقوده حلفاؤها الخليجيون.
يبقى المعسكر المصري المعادي للتطبيع– سواء كان يشمل المسؤولين الحكوميين أو المفكّرين– قويًّا، وتملك الدولة حوافز للحفاظ على السلام البارد في قتالها الجاري مع الخصوم الإسلاميين في الشتات في تركيا وقطر اللتين تتهمهما بموالاة إسرائيل. لذا فيما قد يتواجد معسكر صغير موالي للتطبيع يفضّل الاستفادة من الجو الاحتفالي في الخليج، قد لا يعمد هؤلاء الداعمون حتى إلى اقتراح خطوة مشابهة بسبب الخوف من المجازفة بسمعتهم ومكانتهم السياسية– فضلًا عن التبعات الاجتماعية الاقتصادية.
لذلك، لا بدّ من أن تتنبّه الولايات المتحدة إلى الخطاب المصري على أرض الواقع حين يتعلّق الأمر بإشراك مصر في المشاريع المستقبلية بين إسرائيل والخليج، مثل "اتفاقيات إبراهيم". فربما أثبتت مصر نفسها كشريكة استراتيجية بنّاءة في ما يخص المسائل الأمنية، لكنّها أدّت دور الوسيط على مدى عقود، عاجزةً عن دفع الفلسطينيين إلى إرساء السلام الحقيقي مع إسرائيل. وذلك عدا عن عجز مصر عن الاستخدام الفعّال للصفقات الاقتصادية مع إسرائيل تحت الرعاية الأمريكية، مثل "المناطق الصناعية المؤهَّلة". فلم تستغلّ مصر أبدًا القدرة القصوى للصفقة ولا يستطيع عدة رجال أعمال مصريون الاستفادة بسبب القيود الحكومية، مما يثير التساؤل حول كيفية الوثوق بهم كلاعب اقتصادي فعال إلى جانب إسرائيل والخليج.
إذا كانت الولايات المتحدة تأمل في مواصلة جهودها نحو تطبيع أوسع، فيجب عليها الإشارة إلى الآثار السلبية التي تحملها الرسائل المتعلقة بحرب أكتوبر، كما يجب أن تعمل على تشجع وتسليط الضوء على الجوانب الحاسمة لانفتاح نظام السيسي تجاه إسرائيل، مثل قيامه بإحياء التراث اليهودي في البلاد واستمرار التعاون الأمني في سيناء. وفي نهاية المطاف، سيكون الابتعاد عن استراتيجية الرسائل الداخلية الحالية بشأن إسرائيل مفيدًا أيضًا لمصر، مما قد يشجع المسؤولين على صياغة شرعية جديدة للدولة تستند على الحقائق بصرف النظر عن إرث حرب 6 أكتوبر التي أصبحت بعيدة بشكل متزايد عن القيادة الحالية.