- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
يجب على الولايات المتحدة حماية حلفائها المدنيين السوريين قبل فوات الأوان
قد لا تكون العواقب الفعليّة لانسحاب القوات الأمريكية من سوريا مألوفة بالنسبة إلى عامة الشعب الأمريكي. وفى حين تركّز معظم وسائل الإعلام الأمريكية على الناحية العسكرية من المشكلة، وبينما يفقد الاتحاد الأوروبي صوابه بسبب احتمال هروب مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى أوروبا، فإن عواقب انسحاب القوات الأمريكية من سوريا ما زالت غامضة بالنسبة للمدنيين الذين يعيشون في شمال شرق سوريا. ومن ثم، فمن الضروري بمكان مناقشة الوعود التي قدمتها الولايات المتحدة للسوريين الذين ساعدوا في تسهيل دخولها إلى سوريا، والتي انهارت الآن. خلف كل ذلك تكمن قصة أخرى، وهي قصة شعبٍ يتم التخلي عنه ليبقى في انتظار مصيره المجهول.
في شرق سوريا، تفكَّكَ المجتمع مرارًا وتكرارًا بسبب تغييرات السلطة والجماعات المسلّحة التي سيطرت على المنطقة والتي تأرجحت ما بين القوى الإقليمية والجماعات المسلحة على مدى السنوات الثماني الماضية. وعندما قررت الحكومة الأمريكية إرسال القوات إلى سوريا، تم الشروع بالتحضيرات لإنشاء البنية التحتية لهؤلاء الجنود من أجل الحفاظ على سلامتهم. ولم تُنشَر القوات الأمريكية على الأرض في ليلةٍ وضُحاها. بل احتاجت إلى أشهرٍ لبناء شبكة قويّة على الأرض من أجل استقبال هؤلاء الجنود. وتولّى بناء هذه الحاضنة الآمنة السوريون الذين وثقوا بأن الولايات المتحدة كانت آتية لدعم قتالهم ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، وحمايتهم من القوى الثلاث المختلفة التي تتربص بهم ليلًا ونهارًا من كافة الجهات وهي: الحكومة السورية وأجهزة إستخباراتها النشطة في المنطقة؛ والإيرانيون وحرسهم الثوري وميليشياتهم؛ والأتراك ونفوذهم القوي في شرق سوريا.
خاطَرَ عدة ناشطين بأرواحهم من أجل دعم المؤسسات الأمريكية مثل "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" ووزارة الخارجية ووكالات أمريكية أخرى، وخاصة في فهم التعقيد الاجتماعي-السياسي على الأرض. وعمِلَ جميعهم بشكلٍ متخفّي، وقُتل الكثيرون على يد تنظيم "الدولة الإسلامية" بسبب عملهم، إذ اتّهمهم التنظيم بالعمل لصالح الحكومة الأمريكية و"التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية". وبدأ أولئك الذين نجوا من تنظيم "الدولة الإسلامية" والنظام بالعمل علنًا لصالح الوكالات والمنظمات الدولية غير الحكومية والمنظمات غير الحكومية وغيرها من المؤسسات التابعة للولايات المتحدة. ووثقوا بأن الولايات المتحدة ستساندهم ولن تتركهم من دون إيجاد حلٍّ دائم في سوريا. وشعر جميع هؤلاء الناس بالأمان بسبب وجود الجيش الأمريكي في المنطقة.
مع القرار الحالي بسحب القوات الأمريكية من سوريا، لم يعُد هؤلاء الناس في أمانٍ بعد الآن. وفى ظل غياب أي خطة طوارئ لحماية هؤلاء الحلفاء المحليين، لم يعُد أمامهم إلا خيار البقاء وانتظار القوى الأمنية السورية والميليشيات حتى تأتي وتعتقلهم، ومن ثم سنقوم بتوثيقهم على أنهم من "المختفين قسراً".
ومن الجدير بالذكر هنا إنني أتحدث عن قسوة النظام من خلال تجربتي المباشرة في سوريا، فالبعودة إلى العام 2005، خضعتُ للاستجواب بشكلٍ متقطّع على مدى عامٍ لأنني كنتُ أُجري الأبحاث حول المثليّة الجنسية والتغيير الاجتماعي في دمشق. وتمحور الاستجواب إلى حدٍ كبير حول التأكد من أنني لم أتلقَّ أي تمويل من منظمة حقوق الإنسان المدعوّة "بيت الحرية" ("فريدم هاوس") التي تتخذ مقرًّا لها في الولايات المتحدة. وسمحَت لي القوى الأمنية بالذهاب حين تأكدت من أن هذه الأبحاث يتم إجراؤها لصالح بحث جامعي. وذلك لأن العمل مع منظمة غير حكومية أو منظمة دولية غير حكومية مقرّها في الولايات المتحدة هو خيانة بنظر النظام السوري.
لذا حين اتصل بي زميلي تفهّمتُ مخاوفه، فقد اتصل بي وقال: "كانت لدينا الفرصة لمغادرة سوريا، وبقينا لأننا وثقنا بأن الولايات المتحدة ستساعدنا ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، وستساعدنا في مشروعنا الديمقراطي. حسنًا، الآن خسرنا هذا المشروع ونحن عالقون هنا. أشعر أن أيامي مع عائلتي باتت معدودة. سأمضي وقتي في معانقة أولادي إلى أن تأتي القوى الأمنية وتأخذني".
علينا أن نتذكّر أنّ ذلك حدث في سياقٍ مختلف في الضواحي الجنوبية الغربية لدمشق في الغوطة عندما أعطى الروس ضمانات إلى المدنيين بأنهم سيكونون في مأمن. وبدلًا من ذلك، ما حدث فعليًّا هو أن النظام أوقف عشرات المدنيين والناشطين، الذين لم تسمع عائلات بعضهم أي خبرٍ عنهم منذ ذلك الحين، والذين أُضيفوا إلى اللوائح الطويلة لأولئك المختفين قسرًا.
كما أوضح زميلي، انه ربما فر الكثير من مناطق مختلفة في سوريا، بينما لم يتلقَّ الناشطون والجهات الفاعلة من المجتمع المدني، تمامًا كباقي العالَم، أي إنذار مسبق بأن لحظة الانسحاب المفاجئ هذه قد تأت وأن عليهم الاستعداد. وبالأحرى، استيقظ كل الذين يعملون في مجال التنمية والمساعدات الإنسانية من السكّان المحلّيّن والخبراء الأجانب، من داخل سوريا وخارجها، على عشرات الرسائل على هواتفهم حول مشاريع يتم تعليقها، ورسائل من زملائهم على الأرض يسألون فيها عمّا يحدث. وأعلنت عدة منظمات لاحقًا أنّها ستعلّق كافة برامجها في المنطقة وتسحب طاقم موظّفيها المغتربين من المنطقة، مثل منظمة "أطباء بلا حدود" التي أعلنت أنّ عليها إيقاف معظم عملياتها وإخلاء موظّفيها الدوليين.
بالنسبة ليّ، لم يكن لديّ أدنى فكرة عمّا يجب قوله لموظّفينا. فشعرت بالذنب لوجودي في العاصمة واشنطن وباليأس لعجزي عن التفوّه بأي كلمات مطمئنة أو عن إعطاء أي أمل. والأمر الوحيد الذي كنت أعلمه ولم يكن لديّ أدنى شك حياله هو أنهم جميعهم في خطرٍ شديد وأنه ما من وقتٍ كافٍ لأيٍّ منهم يخوّلهم للهرب إلى مكان آمن.
يقع على عاتق الولايات المتحدة واجب أخلاقي يتمثّل في حماية أرواح عشرات الجهات الفاعلة من المجتمع المدني والناشطين الذين لعبوا دورًا كبيرًا في تسهيل دخولها إلى سوريا. فلا يجوز أن تنسحب القوات الأمريكية من دون تأمين سلامتهم وإجلاءهم إلى دول آمنة، فهو أقل ما يمكن للحكومة الأمريكية القيام به تقديرا لهم على الجهود التي بذلوها لمساعدتها على مدار أعوام. لم يبقَ بعد الآن أي مكان آمن للسوريين، لا سيّما الأكراد الذين ساعدوا الولايات المتحدة بشكل كبير وفعال.